روكس بن زائد العزيزي .. شاهد العصر ورائد الحركة الثقافية


وقف على مسرح القرن العشرين مزهواً بافتتاح الصفحة الأولى للأحداث الجسام، لكأن قدومه إلى الدنيا من بوابة مادبا ، عام 1903 كمولود جديد لعشائر العزيزات المسيحية، والضاربة في العروبة عميقاً حتى  الغساسنة الاقحاح، روكس هذا الشاهد الحي أبدا، منذ كان طفلاً يشهد تحول القبائل إلى تحضر سريع لا تتزن خطاه، وكادت تأخذه الأقدار إلى الكهنوتية لولا ضيق الفرص، فوالده المتدين بتعقل أخذه إلى الدير في القدس وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره علهم يقبلوا به فيصبح كاهناً، لكنهم اعتذروا بسبب صغر سنه في تلك الفترة، غير أن الفوضى عمت المنطقة مع بدايات الحرب العالمية الأولى وانبلاج فجر النهضة العربية وانطلاق الثورة العربية، فتشرب روكس كل معطيات الأحداث وغاصت بعيداً في أعماق هذا الفتى بعيد النظر، الذي عين عام 1918 معلماً للغة العربية والفرنسية في سن مبكرة في مدرسة دير اللاتين، لتتفتح بوابات مواهبه المتعددة كاشفة عن ثقافة ورهافة حس، ووعي سابق لسني عمره، حيث كتب المقالة ، وبدأ بالتأليف المسرحي من خلال مسرحية ( الملاك والشيطان) ليسجل بذلك ريادته في هذا المجال، وليحتضن مسرح مدرسة دير اللاتين في مادبا أول عرض مسرحي في شرق الأردن.

لم يكن العزيزي معلماً وأديباً وحسب، بل كان مناضلاً من طراز مميز، فلقد عالج تلك المرحلة المتهالكة بتأسيس جمعية سرية لمواجهة مساوئ ضعف وتخلف الحكم العثماني ، وطالب بعروبة الكهنة في المناطق العربية وذلك لتخفيف ومجابهة الأطماع الغربية في المنطقة من خلال الرعاية الدينية.

لكن السلط حاضرة البلقاء، حاضرة في قلب العزيزي كحضور مادبا ومدن الأردن وبواديه، ففي العام 1925 انتقل إلى السلط مدرساً ومؤسساً لفرقة مسرحية وفنية، ومستمراً بالكتابة لمجلة الإخاء القاهرية ، وليقدم روكس نموذجاً فريداً للموهبة التي لا تقف عند حد، فهو كاتب جامع لأجناس الأدب، ومؤرخ وناقد وفنان مسرحي ، وقد أخرج بعض نصوصه على الخشبة، مذكراً  بكبار الفلاسفة العرب ، فلقد أضاف إلى كل ذلك الدراسات التراثية والكتابات الصحفية بالإضافة إلى الدراما الإذاعية والتلفزيونية.

إنه ترحال المعلم حين يرى التعليم رسالة ومحبة ، فارتحل إلى عجلون مدرساً يكتب المناهج بخط يده للطلاب لعدم توفر الكتب، وأينما أقام أسّس حركة فنية وثقافية تبحث عن المواهب وتدفع بالبلد نحو الأمام، كان مؤسسة متعددة الاهتمامات ، فأدرك أن التعليم حرفته التي ستدوم طويلاً، فأحبها  ومنحها أجمل سني عمره، فمنحته نعمة الصبر وأجيالاً من المتعلمين رافعين مشاعل النور في المدن والأرياف. 

 لقد أحط الرحال في مدرسة تراسنطة بعمان ، يدرّس  ويتعلم أيضا من الأب انستاس الكرملي أحد أئمة اللغة العربية في العصر الحديث، الذي دفعه إلى تأليف كتابه الأول ( قاموس العادات واللهجات والأوابد الأردنية في أجزائه  الثلاثة) ليختار العزيزي بذلك أصعب الطرق وأكثرها وعورة، لكنه دأب صاحب الهمة العالية، ولينطلق بتأليف الكتب والكتابة الصحفية حتى أواخر أيامه.

القدس الوادعة على مقربة من النهر المقدس كانت محطته التالية، إذ عين مدرساً في كلية تراسانطة في القدس 1942-1948 م ، ليشهد على فترة الغليان والتحولات المتلاحقة ، فجاءت النكبة مقتطعة جزءاً من القدس ، وليراقب بألم شديد نهب مكتبته وفقدانه لكثير من مخطوطاته التي لم تنشر بعد،كاتما دمعة الحزن ومحتسبا ذلك للوطن والأيام القادمة ، لقد أمضى روكس في التعليم قرابة الستة وخمسين عاماً وبشكل متواصل، منجزاً عدد كبيراً من الكتب أهمها ( معلمة التراث الأردني) في خمسة أجزاء وحكايات من البادية، ونمر بن عدوان شاعر الحب والوفاء، والعديد من الكتب والأبحاث والقصص، بالإضافة لعضوية مؤسسات أدبية محلية وعربية كثيرة ، وقد ترأس رابطة الكتاب الأردنيين لفترة قصيرة.

لقد شكل الحزن الدفين ،والألم المتخفي في تلافيف نفس هذا البدوي العالم، باعثاً للكتابة وإصرار على العمل، فبعد ولادته بثلاثة أشهر توفيت والدته ، ليحمله والده إلى امرأة قيسية مسلمة مرضعة ومربية، ليبقى عندها ثلاثين شهراً ،ولتبقى بذلك علاقة الأم المرضع بولدها الذي لم تنجبه سنيناً قبل أن يتوفاها الله .

 في سنة  1923 م  تزوج العزيزي بهيلانه ابنة سليم باشا المرار، زواجا تقليديا حيث  وعاشا معاً سبعة وخمسين سنة، رحلت بعدها رفيقة عمره عام 1981 م ، مخلفة في قلبه حزناً متجدداً، وجرحاً نازفاً ضمده بالشعر والنثر في كتاب أسماه ( جمد الدمع).
أحب العزيزي جبران خليل جبران، وأنشأ مكتبة باسمه حتى نال جائزة جبران مع درعها عام 1989م،أما علاقته بميخائيل نعيمة فكانت خلافية نتيجة ما كتبه الأخير عن جـبران ، لكن الخلاف تلاشى بعد أن التقيا في عمان وتحاورا حول وجهـات نظرهـما وكان ذلك عام 1965 م .

لقد عانى العزيزي أواخر أيامه من الوحدة وقلة اهتمام المثقفين والأكاديميين بزيارته للإفادة منه و التحاور معه، وظل الحائز على وسام الحسين للعطاء والتميز ووسام التربية والتعليم، والحائز على جائزة الدراسة والبحوث مثابراً ومخلصاً لمنهجه وعلمه، ورحل صامتاً مطمئناً، فلقد انفق سنوات عمره المديد بالعمل والانجاز ، وانحاز للعلم وللحرف كأول سطر في الحضارة وأول عتبة نحو المستقبل، ها نحن نراك بيننا يا روكس دائم الحضور غزير العطاء كمطر كانون، فما نلت من تكريم محلي، وكذلك نيلك للوثيقة الذهبية، واعتماد جامعتي ياس في بريطانيا و يوتا في الولايات المتحدة لقاموسك ما هي إلا مؤشرات على إبداع  يحيى ابد الدهر ، وتدلل على رجل فذ عز نظيره ، فلن ترحل من بيننا ، إنك هاهنا مقيم في القلب والذاكرة و ما رحيلك عنا أواخر عام 2004 م سوى محطة ممتدة من ترحالك الذي بدأته فلم ينتهي أبدا.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).