يوسف شويحات .. طبيب من رواد العمل الخيري

يوسف الشويحات

شهدت مدينة مادبا نهضة الحديثة، منذ القرن التاسع عشر، خاصة مع هجرة العشائر المسيحية من الكرك، واستقرارها في المدينة، التي كانت حتى ذلك الوقت، خربة أثرية قليلة السكان، تحيط بها أراضٍ زراعية واسعة في مختلف الاتجاهات، تنبت فيها قرى مزدهرة، ومع بدء الاستقرار الحديث في أطلال المدينة القديمة، أخذت الحياة تبعث في المدينة من جديد، مرتكزة على تاريخها العميق، الذي وصلت فيه إلى مستوى رفيع في الفنون والثقافة، خاصة في الفترتين الرومانية والبيزنطية، وما سبقها من حضور قوي في الأحداث التي اجتاحت المنطقة، عندما كانت تمثل قلب الحضارة المؤابية، في العصر الحديدي.

ولد الطبيب والمؤرخ يوسف شويحات، في مدينة مادبا خلال فترة عصيبة مرت بها الأمة، حيث كانت المنطقة ترزح تحت نير تسلط حكام تركيا الاتحاديين، ومعاناة الناس من رعايا الدولة في كل مكان. حيث كانت ولادته كما وثق ذلك في مذكراته، في الأول من تشرين الثاني عام 1906، وقد نشأ في جو أسري ريفي، فقد كان بكر والده سليم شويحات، الذي كان إنساناً بسيطاً، متوسط الحال، وكانت مادبا بالنسبة ليوسف مسقط الرأس، ومربى الطفولة مهوى الفؤاد، فيها لعب، وترعر بين تلالها وسهولها الشاسعة الخصبة، وكان من حسن حظه أن ألحقه والدة بمدرسة دير اللاتين في مادبا، وكان ذلك عام 1916، وكان معلمه في المدرسة في تلك الفترة المضطربة، معلم تركي. ( محمود أبو زبيد. الأطباء الكتّاب في الأردن في القرن العشرين ).

فرضت السلطات تركية تدريس اللغة التركية في المدارس العربية، وقد تمكن من تحصيل بعض التعليم الأولي، خلال أيام معدودة، غير أن الأحداث تسارعت، عندما اقتحمت القوات التركية المدينة، نتيجة تذمر الأهالي من حجم الضرائب المرهق والتجنيد الإجباري الجائر، وكان أهله من بين المقاومين لهذه الممارسات التعسفية، فكان أن أقدم عسكر الأتراك، على إلقاء القبض على والده وجده وجدته وأبن عمه، حيث تم نفيهم إلى تركيا، في حين تمكنت والدته من الهرب مع ولديها وابن وابنة عمه، والتجأت إلى قبيلة بني حميدة، حيث كانت مضاربهم تنتصب جنوب مادبا، وبذلك انقطع عن المدرسة مدت سنتين، حتى عام 1918 بعد الهدنة وخروج الأتراك من المنطقة، بعد انتصارات جيش الثورة العربية الكبرى، عندها بدأت الأمور بالعودة إلى الاستقرار، وقد تمكن من تم نفيهم من العودة إلى ديارهم، وبذلك عاد يوسف شويحات إلى مدرسة دير اللاتين بعد افتتاحها من جديد عام 1919.

درس يوسف شويحات مدة ثلاث سنوات في دير اللاتين، حيث انتقل بعدها للدراسة في مدرسة الفرير، في مدينة بيت لحم، بسبب قلة المدارس في الأردن في تلك المرحلة، وكان التدريس في تلك المدرسة باللغة الفرنسية، حيث تعلم مبادئ تلك اللغة، لكنه لم يطل الإقامة هناك، حيث انتقل إلى مدرسة كلية ( الكاردينال فراري ) في عمان، وهي مدرسة تراسانطة حالياً، التي تدرس باللغة الإنجليزية، وتعلم بالإضافة إلى ذلك أساسيات اللغة الإيطالية، وقد بقي في هذه المدرسة حتى حصل على شهادة الثانوية العامة، التي كانت تسمى « المترك « وكانت تعتبر شهادة متقدمة في تلك الفترة، حيث كان بإمكانه الحصول على وظيفة جيدة، لكنه فضل اختيار طريق العلم الصعبة، لذا سافر إلى بيروت، والتحق هناك بالجامعة الأمريكية، حيث حصل على قبول في كلية الطب، لكن الظروف السيئة لاحقته، فمرض مما اضطره للتوقف عن متابعة دراسته الجامعية وهو في بداية الطريق، لكنه تمكن من العودة لدراسة الطب في جامعته في العام التالي، وفي عام 1933 حصل على شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة.

عاد يوسف شويحات إلى مدينته مادبا، وعمل طبيباً فيها مدة ثمانية شهور، لكنه قرر الالتحاق ضمن تخصصه بشركة بترول العراق، وخلال عمله في هذه الشركة الكبيرة، تمكن من القيام بجولة أوروبية عام 1938، وفي هذه المرحلة ظهرت ميوله الفنية والأدبية، وقام برسم عدد من اللوحات الزيتية، كما كان مطالعاً للكتب بشكل كبير، ومحباً لرياضة الصيد، وتحنيط الحيوانات بالأساليب العلمية، وقد استمر عمله في شركة بترول العراق، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث استقال منها، وانتقل إلى القدس حيث عمل طبيباً في مستشفى الحكومي في المسكوبية في القدس، وبعد أشهر من عمله هذا، عاد إلى مسقط رأسه مدينة مادبا، وقام بافتتاح عيادة خاصة له، وكان يستقبل المرضى في عيادته، ويتقاضى أجراً قليلاً، ويتجاوز عن الفقير منهم، وفي عام 1947 انتقل إلى عمّان، ومنها إلى مستشفى المسكوبية مرة ثانية، لتغطية النقص فيها، بعد سفر الجراح البريطاني.

يسجل للطبيب يوسف شويحات، مبادرته في تأسيس أول مستشفى خيري للولادة في عمان، من خلال استخدمه مطبخ مدرسة الصناعة المكون من ثلاث غرف، وبعد نجاح المستشفى تم نقلها إلى موقع مستشفى الدكتور ( بارنيل ) القريب من المستشفى الإيطالي، وأصبحت تتسع لعشرين سريراً، ونظراً لحبه لعمل الخير ومساعدة الناس، كان يشرف على هذه المستشفى مجاناً، وعندما وقعت نكبة فلسطين عام 1948، وتدفق اللاجئون الفلسطينيون، بادر شويحات بالتطوع من أجل تقديم خدمات الإسعاف والمعالجة للنازحين.

رغب يوسف الشويحات بتحصيل مزيد من العلم والمعارف في مجال تخصصه، لذا سافر إلى بريطانيا في بعثة دراسية، في تخصص الخدمات الطبية، وشمل التخصص الأمومة والطفولة والصحة المدرسية، وقد عكس ما تعلمه في تحسين واقع الخدمات الطبية في وطنه، فتحولت مستشفى الولادة إلى مركز لتدريب القابلات تحت إشراف وزارة الصحة، وكان له دور بارز في إدخال الصحة المدرسية، عن طريق وزارة التربية والتعليم، والتأمين الصحي، وقد أخذت الحكومة بمعظم الأفكار التي قدمها، من أجل تطوير القطاع الصحي في المملكة، وقد اشتمل عمله في وزارة الصحة، على طبيب عيادة، وجراح وطبيب شرعي، وطبيب أمانة عمان، وطبيب المدارس، وعضواً في اللجان الطبية. لكنه قرر الاستقالة من العمل الحكومي عام 1952، وخلال هذه الفترة ساهم في بناء مستشفى الهلال الأحمر النسائي في عمان.

حظي الطبيب يوسف شويحات بشرف معالجة أفراد من العائلة المالكة، كما كان له دور مؤثر في تأسيس نقابة الأطباء عام 1954، بالإضافة لمساهمته في إنشاء مجمع النقابات، وقد كان له حضور نقابي كبير، فقد انتخب نائباً للنقيب في إحدى الدورات، وفي دورة أخرى أصبح رئيساً للجنة العلمية في النقابة حتى عام 1963، ويعد من أكثر المبادرين في إنشاء المستشفيات والمؤسسات الطبية الوطنية، فقد لعب دوراً مع عدد من زملائه في تأسيس الجمعية الأهلية لبنك الدم، وكان ذلك عام 1958، وقد تسلم رئاسة هذه الجمعية المهمة عام 1963، وشغل أيضاً منصب سكرتير اتحاد الجمعيات الخيرية الأردني. وقد واجهه عارض صحي عام 1963، حيث أصيب بنوبة قلبية، ونتيجة لذلك تخلى عن كثير من نشاطاته المتعددة، وتفرغ لمهنته كطيب، وظل مخلصاً لعمله هذا حتى لحظاته الأخيرة.

كان من أنشطته في غير مجال الطب، إنكبابه على القراءة والكتابة، فقد كان مثقفاً من طراز رفيع، وكاتباً متميزاً ترك عدداً من الأبحاث المهمة منها: ( الأكلامبسيا ) وهو بحث علمي عن تسمم الحامل، و( تفسير الأحلام ). وقد أصدر ثلاثة كتب هي: ( العزيزات في مادبا ) وكتاب ( العرب وتراثهم ) وكتاب ( دور العرب في ثقافة العالم وحضارته ) وعدد من الكتب والأبحاث غير المنشورة، وبقي يوسف شويحات يقوم بعمله كطبيب، ويمضي ما تبقى من وقت في المطالعة وكتابة الأبحاث وتأليف الكتب، حتى توفي عام 1979، تاركاً أثره الطيب باقياً عبر الزمن.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).