فالح مصطفى الغرايبة |
قدم جهاز الأمن العام الأردني منذ تأسيسه نخبة من الرجال الكبار، الذين عملوا مع أفراد الجهاز على بناء منظمة سلوكية وقيمية أمنية أسهمت في حماية الوطن والمواطن، وتحول الأردن بفضل هؤلاء واحة أمن وطمأنينة وسط إقليم سمته الاضطراب سياسياً وعسكرياً، هذا إلى جانب الصعوبات الاقتصادي التي من شأنها زعزعة بلدان كبيرة في العالم بأسره، وكان جهاز الأمن العام من أوائل المؤسسات الوطنية التي أنشئت بالتزامن مع تأسيس نواة الجيش العربي الأردني، حيث لعب دوراً حاسماً في حفظ الأمن وبسط سلطة الدولة الناشئة على بلدات وبوادي البلاد، وبالتالي تحولت الدولة إلى فعل ملمس ومنتج على الأرض، رغم ظروف نشأتها والأحوال المضطربة في المنطقة، فمنذ تلك المرحلة وجهاز الأمن العام صمام الأمان، ومبعث الفجر والتقدير على الصعد كافة.يعد فالح مصطفى الغرايبة واحداً من فرسان الأمن العام البارزين، فقد تميز بمهنيته واعتداله وقدرته الفذة في اتخاذ القرار المناسب في التوقيت المثالي، وهي من أهم سمات رجل الأمن الناجح، كما سعى دائماً إلى تطوير قدراته ورفد سيرته بخبرات متجددة، من خلال الدورات والمشاركات المتعددة، بالإضافة إلى عمله في أكثر من موقع داخل جهاز الأمن العام وخارجه، فقد كانت حياته عمل وإنجاز مستمر، حيث عمل خلال محطات حياته العملية المختلفة على نقل خبراته إلى مرؤوسيه وزملائه في العمل، فكان مقرباً منهم ومبادراً في العمل والمساعدة.
ولد فالح مصطفى الغرايبة عام 1937، في فترة كان المنطقة برمتها تخوض مسارات الحرية والاستقلال، بعد أن تقاسمت بريطانيا وفرنسا منطقة شرق المتوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإجهاض مشروع الدولة العربية في سوريا الطبيعية والحجاز، التي تمخضت عن نجاح الثورة العربية الكبرى في إخراج الدولة العثمانية من البلاد العربية. كانت ولادته في بلدة حوارة النابتة في سهل حوران على أطراف مدينة اربد أشهر مدن شمالي الأردن، وهي بلدة عامرة، وتربتها الحمراء الخصبة منحتها غزارة الإنتاج الزراعي خاصة في مجال الحبوب كالقمح والشعير والعدس، والأشجار المثمرة وأبرزها شجرة الزيتون، وقد نشأ الغرايبة في حوارة التي تعد واحدة من القرى التي استقرت بها عشيرة الغرايبة بالإضافة لعدد من العشائر الأخرى، وقد لعب في حاراتها ومارس شقاوة طفولته في دروبها الزراعية، حيث تمتد أراضيها بين اربد والرمثا والحصن، ولم يغادرها في طفولته وشبابه الباكر.
عندما بلغ فالح الغرايبة سن ست سنوات التحق بالمدرسة في اربد، وهنا بدأ يقطع يومياً مسافة أطول خارج فضاء البلدة، ليتعرف بذلك على عالم أوسع وأكثر غنىً، وخلال دراسته مرحلة تلو أخرى، أخذ وعيه بالتفتح حيث تشكلت ملامح شخصيته، وبزت لديه سمات الشخصية القوية، والذكاء وسرعة البديهة، بالتالي امتلك نظرة متفائلة اتجاه المستقبل، ولا شك أنه حظي بروح طموحة، وهذا ما دفعه لمواصلة دراسته بتميز، ساعياً بذلك إلى تحقيق أحلامه، ولم تكن الظروف في تلك الفترة سهلة، وغاب عن البلاد كثير من التنمية التي ننعم بها اليوم، بعد قرون من الإهمال إبان الحكم العثماني، لذا لم تكن الدراسة متاحة للكثيرين، غير أن فالح الغرايبة من جيل تحمل الصعاب وكافح من أجل الوصول إلى غايته، وهو جيل كان له دوره المشهود بتقدم الأردن في كافة المناحي.
أنهى فالح الغرايبة دراسته الثانوية في مدينة اربد عام 1958، ورغم أن هذه الشهادة تمكنه من الحصول على وظيفة مناسبة في تلك الفترة، إلا أن حلم الدراسة الجامعية لديه لم يتوقف، ولم تكن الجامعات متوفرة في الأردن حينها، فسافر إلى سوريا حيث التحق بجامعة دمشق، وواظب على الدراسة في كلية الحقوق، وقد شكلت الدراسة في جامعة دمشق نقلة كبيرة في ثقافته ووعيه، فقد كانت الجامعة تضم خيرة شباب بلاد الشام، وتعد أحد مراكز بعث الفكر القومي العربي، حيث خرجت سياسيين ومفكرين وأدباء كباراً، وقد تشبع فالح الغرايبة بهذه الأجواء، وتمكن من بناء علاقات وصلات قوية مع عدد من الشباب المثقف في الجامعة وخارجها، وبقي برغم كل ذلك سائراً على نهجه الوطني الأصيل.
بعد أن أكمل دراسته الجامعية حاصلاً شهادة البكالوريوس في الحقوق، عاد إلى الأردن لبدء حياته العملية، وقد اختار أن ينضم إلى جهاز الأمن العام، وكان له ذلك عام 1962، أي في العام نفسه الذي نال فيه شهادة الحقوق، ونظراً لكونه يحمل شهادة جامعية فقد انتسب للأمن العام برتبة ملازم أول، في إطار رفد هذا الجهاز بالكفاءات والشباب الحاصلين على شهادات جامعية، وقد تميز منذ أيامه الأولى بانضباطه الدقيق، مراعاته لشروط وقيم رجل الأمن الناجح، وقد أهله هذا للتقدم في عمله بهذه المؤسسة الوطنية ذات السمعة الرائعة، فقد تنقل بين عدد كبير من المهام والوظائف والمناصب خلال خدمته الطويلة، حيث عمل في التحقيقات الجنائية، وهو عمل يتطلب معرفة واسعة وذكاء متزايداً، بالإضافة للاجتهاد في جمع الأدلة والبحث عن العدالة، وهذا ما تميز به الغرايبة في عمله هذا.
انتقل فالح الغرايبة من التحقيقات الجنائية ليعمل مستشاراً قانونياً وعضواً في محكمة الشرطة، وهي محكمة خاصة بجهاز الأمن العام، وبعد أن أنهى عمله في المحكمة تم تعيينه بمنصب مدير مديرية الحدود والأجانب، وكانت كل هذا المهام خبرات كبيرة تضاف لسجله الوظيفي، فما أن أنهى عمله في هذه المديرية الحيوية، حتى نقل إلى محافظة البلقاء، لعين مديراً لشرطة مدينة السلط، وهذه الوظيفة وضعته على تماس مباشر مع الناس من مختلف الشرائح، وتعرف أكثر على واقعهم ومشاكلهم، وكانت له علاقات قوية مع رجال الحكم المحلي في المحافظ، وعرف بمهنيته وسماحته العاليتين، وبعد أن خدم في مدينة السلط مركز محافظة البلقاء، وبعد نجاحه في عمله بشكل لافت، نقل إلى العاصمة عمان، ليكون مديراً لشرطة العاصمة، ويعد هذا منصباً مهماً بما يترتب عليه من مهام، فعمان أكبر المدن الأردنية وأكثرها نشاطاً وحراكاً، وكان الغرايبة دائماً بحجم المسؤولية، وأهلاً للثقة.
شارك فالح الغرايبة أثناء خدمته في جهاز الأمن العام، في عدد كبير من الدورات المتخصصة، وكان له حضور في مؤتمرات وندوات كثيرة في الأردن وخارجه، ومن أبرز هذه الدورات دورة في التحقيقات الجنائية في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، وخلال خدمته في الأمن العام انتدب للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل مستشاراً قانونياً للقوات المسلحة الإماراتية، وذلك خلال الفترة ما بين عام 1972 وعام 1977، نقل خلاها خبرته القانونية والعملية لهذه الدولة الشقيقة، فأحبوه وكرموه، وكان خير مثال للكفاءات الأردنية في الخارج، وقد نال طوال خدمته في مواقعه المختلفة شهادات تقديرية عديدة، كما منح نظير خدماته وتميزه ثمانية أوسمة رفيعة المستوى من جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال، منحه الرئيس الفرنسي فرانسوا متيران برتبة الفارس، كما منحه سمو الشيخ زايد بن سلطان أمير دولة الإمارات العربية وساماً نظير عمله الفريد مع القوات المسلحة في الإمارات العربية.
تدرج فالح الغرايبة في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة لواء في الأمن العام عام 1984، حيث أحيل بعدها على التقاعد، عمل بعد ذلك مباشرة على تأسيس مكتب خاص للاستشارات القانونية عمل فيه حتى عام 1989، فقد أعيد للخدمة من جديد وتم تعيينه محافظاً لمحافظة البلقاء بتاريخ 1/9/1989، واستمر في موقعه هذا مدة ثلاث سنوات، كما أصبح عضواً في نقابة المحامين الأردنيين، واختير رئيساً فخرياً لنادي حوارة، بالإضافة لعضويته جمعية الصداقة الأردنية الأمريكية، وعضوية مجلس أمناء جامعة جرش الأهلية، وعضوية جمعية الشؤون الدولية، وقد توفي فالح مصطفى الغرايبة في الأول من أيار عام 2003.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|