مفلح الحسين الغرايبة.. تاجر عتيق من صناع الخير


لم تكن التجارة من غير احتكار ومغالاة إلا جلابة للخير والمنفعة، وهي سبيل للتواصل الثقافي والحضاري منذ أقدم الحضارات، فطريق الحرير التي تصل الصين بأوروبا عبر البلاد العربية، هي طريق تبادلت فيها الشعوب المنافع وأسباب الحضارة الشمتطورة والغنى الثقافي، كما نقل التجار من الديار الإسلامية الإسلام إلى جنوب شرق آسيا ووسط الصين وأجزاء من جنوب غرب أفريقيا، مما يؤشر ما للتجارة والتجار من أثر يتجاوز التأثير الاقتصادي وحسب، وقد كان للحركة التجارية التي واكبت تأسيس الدولة الأردنية، دورها المشهود في مؤازرة جهود بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وكانوا في كثير من الأحيان رافداً حقيقياً لموارد الدولة المالية، ومساهمين في تطورها وازدهارها.

يعد مفلح الحسن الغرايبة واحداً من أولئك الرجال الذين طبعوا نقشهم الخاص على مرحلة وأكثر من مراحل تاريخ الوطن، ومن الذين نذروا أنفسهم خدمة لناسهم ومدنهم، مدركين حجم المسؤولية وأهمية العمل المشترك الذي أوصل الأردن إلى الريادة في كل المحافل والميادين، ويشير تاريخ ولادته إلى ارتباطه الوثيق ببزوغ فجر القرن العشرين المكتنز بالأحداث الكبيرة والحاسمة، فقد ولد مفلح الغرايبة عام 1901 وهو تاريخ حرج في سجلات المنطقة التي كانت تتحضر لتحولات مفصلية. وتعد قرية المغير الواقعة شمال شرق مدينة اربد مسقط رأسه ومربى طفولته وشبابه، فهو ينتسب إلى عشيرة الغرايبة المنتشرة شمالي الأردن، ويعود نسبها إلى عرب الحسن من قبيلة زبيد القحطانية، الذين هاجروا من جبل شمر في الحجاز إلى جنوب فلسطين وثم انتقل الجزء الأكبر منهم إلى شمال فلسطين، ومنه عبروا إلى شرق الأردن ليستقروا في شمالي الأردن في قرى الهاشمية وحوارة والمغير بعد أن طاب لهم العيش في هذه المناطق.
شكلت قرية المغير الحاضنة الأولى الخصبة لمفلح الغرايبة، فقد تجاوزت المكان الجغرافي وحسب، بل كانت أداة بناء وعيه وفكره، حيث سمت بروحه إلى آفاق غنية، وقد أتيحت له فرصة تلقي أساسيات العلم والمعرفة، من خلال كتّاب القرية، لعدم توفر المدارس في معظم القرى الأردنية في تلك المرحلة، وبعد أن أنهى مرحلة الكتّاب، توجه إلى مدينة اربد حيث التحق بمدرسة « المكتب الابتدائي « لدراسة المرحلة الابتدائية، ونظراً لظروف وطبيعة الحياة في تلك الفترة، لم يتمكن من إكمال دراسته، فتوجه للعمل في التجارة، حيث بدأ بنشاط متواضع يتناسب مع الإمكانيات المتاحة وواقع النشاط التجاري حينها، وتمكن بفضل مصداقيته العالية، وما ناله من ثقة ومحبة كبيرتين من ترسيخ اسمه وسط التجار، فقد نمت تجارته وتوسع نشاطه حتى صار من التجار المحسوبين في اربد.

تنبه مفلح الغرايبة إلى ضرورة تنظيم الحراك التجاري في شمالي الأردن، لذا تمكن مع عدد من كبار تجار اللواء الشمالي من تأسيس غرفة تجارة اربد، من أجل تنظيم هذا القطاع والارتقاء به، وكان ذلك في شهر شباط من عام 1950، حيث تولت الغرفة منح رخص فتح المحال ورخص الاستيراد والتصدير، وتم تنظيم انتخابات لمجلس الإدارة الخاص بالغرفة، وبموجبها أصبح نايف أبو عبيد رئيساً ومفلح الغرايبة نائباً للرئيس، وقد استمر عمل هذا المجلس حتى عام 1954، عندما جرت انتخابات جديدة فاز فيها مفلح الغرايبة رئيساً لمجلس الإدارة، وتمكن الغرايبة من المحافظة على هذا المنصب لمدة طويلة، فقد استمر رئيساً لمجلس إدارة غرفة تجارة اربد حتى عام 1983، وكان خلال هذه الفترة الطويلة ينتخب بالتزكية في معظم الدورات، لما حظي به من محبة وتقدير نالهما بفضل ما تميز به من نشاط وذكاء وقدرة على تقبل الآراء وحل المشاكل التي تعترض التجار، فكان موضع الثقة والتقدير، بالإضافة لنزاهته وعمله الدائم للصالح العام، بعيداً عن المصلحة الضيقة، وكان هذا نهجه طوال حياته.

وكان المغفور له الملك المؤسس عبد الله الأول، يولي الحراك التجاري عناية خاصة، وكان على صلة قوية بتجار الشمال، وقد زار غرفة تجارة اربد في بواكير نشأتها عام 1950، وعندما التقى مجلس إدارتها الأول قال: « مرحباً بالتجار جلابة الخير، لكن فيهم بعض المحتكرين جنبكم الله هذه الصفة « وكان الملك المؤسس عندما يزور اربد للتواصل مع أهلها، يسكن قصراً متواضعاً في وسط المدينة حيث يقوم مبنى مديرية الأوقاف اليوم، ولم يكن حال التجار كما هو حال تجار عمان العاصمة، فقد كانت رخص الاستيراد محدودة وبنظام الكوتا، وكانت حصة تجار الشمال ضئيلة، لكن عوضاً عن ذلك أقاموا علاقات تجارية ناجحة مع تجار سوريا، وكان لهم نشاط جيد مع العراق من خلال استيراد التمور، وهذه العلاقات أسهمت في تطوير التجارة في منطقة الشمال، ونتيجة مطالبة تجار اربد بزيادة حصصهم في الاستيراد، تم دراسة الوضع من قبل لجان مختصة من قبل الحكومة، تم رفع حصة اربد إلى (110) رخصة استيراد، وبعد سنوات تم إلغاء نظام الحصص وفتح المجال أمام جميع التجار.

لعب مفلح الغرايبة دوراً بارزاً في تطوير الحراك التجاري ومأسسته، وبفضل جهوده الحثيثة والملموسة تم توحيد المقاييس والموازين والمكاييل على الأسس المترية عام 1959، كم تم السماح بالتخليص الجمركي على بضائع تجار إقليم الشمال في جمرك الرمثا بدلاً من جمرك عمان كما كان سابقاً، مما سهل كثيراً على التجار وخفض من الكلفة المالية والإدارية وقلل من الوقت المطلوب لإنجاز معاملات التخليص الجمركي. وخلال وجود مفلح الغرايبة في الغرفة التجارية، شارك في مؤتمرات الغرف التجارية والصناعية والزراعية العربية التي عقدت في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة والإسكندرية بالإضافة لعمان، مما أكسبه خبرة واسعة وعلاقات وطيدة مع كبار التجار العرب، وهو ما انعكس نجاحاً متواصلاً في عمله الخاص وفي ترؤسه لمجلس إدارة الغرفة التجارية في اربد.

ومن إنجازاته خلال فترة رئاسته لغرفة التجارة، شراء قطعة أرض تم بناء محال تجارية ومكاتب للغرفة عام 1962، وقد قامت الغرفة التجارية في عهده بشراء قطعة أرض في شارع الهاشمي، تبرعت بها للأوقاف من أجل إقامة مسجد عليها، وبعدها تم شراء قطعة أرض على شارع الحصن، أقيم عليه مقر الغرفة الحالي عام 1989، وكان كل هذا بفضل الانسجام الكبير بين رئيس وأعضاء مجلس الإدارة، وتقديمهم للمصلحة العامة على المصالح الفردية الضيقة، ولم تنقطع صلته بالغرفة التجارية يوماً حتى بعد أن ترجل عن مهام رئاسة مجلس الإدارة، فكانت بيته الثاني الذي أحبه وعمل من أجله دائماً.

كان مفلح الغرايبة ناشطاً اجتماعيا ومبادراً بأفكاره ذات الصبغة المستنيرة، فقد عمل على إنشاء أول سينما صيفية مكشوفة في اربد سميت سينما البترا، وفتح وكالة لماكينات سنجر المشهورة، وبادر لإنشاء مصنع لمحركات الديزل مع المهندس نقولا نجم، غير أن المصنع واجه صعوبات كبيرة حالت دون استمراره، وقرر الغرايبة خوض تجربة الانتخابات النيابية عام 1961، وتمكن من الفوز بها نائباً عن الشمال، وكان اللواء الشمالي يضم جرش وعجلون والمفرق بالإضافة إلى اربد، وبذلك أصبح خير صوت مدافع عن قضايا التجار ومحاولة تذليل الصعاب والعقبات التي تواجههم. وبعد أن أنهى دورته في مجلس النواب، واصل جهوده من خلال غرفة التجارة، التي تمثلت بالمطالبة بإنشاء جامعة في الشمال، وقد أثمرت هذه الجهود فيما بعد، وتم تأسيس جامعة اليرموك في مدينة اربد.

لم يغفل مفلح الغرايبة دورة في تربية أبنائه وتنشئتهم التنشئة الصالحة، ومن أبنائه علي الغرايبة مدير عام الموازنة الأسبق ومدير عام الأراضي والمساحة، وهو الحاصل على الماجستير في الإدارة العامة من جامعة فلوريدا ستيت الأمريكية، وزيد غرايبة مدير مكتب وكالة بترا في اربد، وكان من بناته رائدات في العمل التربوي وهما كوكب وفاطمة، وله من الأحفاد من يعدون من رجالات الوطن الأوفياء. وقد توفي مفلح الحسن الغرايبة عام 1983، لكنه باقٍ بيننا ما بقي الخير في الأرض وخلود الذكر الطيب.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).