محمد بطـَّاح المحيسن أول أردني تخرَّج من جامعة أمريكية


ولد محمد بطـَّـاح المحيسن في مدينة الطفيلة سنة 1888م، ويذكر الدكتور محمد العناقرة في مقالة له نشرها في"الدستور"أن المحيسن أنهى دراسته الإبتدائية في المدرسة الرُشدية في الطفيلة ثمَّ ارتحل إلى دمشق لإكمال دراسته الثانوية في"مكتب عنبر"الذي كان يُعدُّ أرقى معهد علمي في بلاد الشام في العهد العثماني .

ويذكر الأستاذ الباحث محمود سعيد عبيدات في دراسة له أن المحيسن كان أول طفيلي تخرَّج في عام 1908 م من"مكتب عنبر"في دمشق، وكان قد درس فيه مبتعثا على نفقة السلطان العثماني بسبب تفوقه، وقد تزامنت دراسة محمد المحيسن في"مكتب عنبر"مع تصاعد نشاط الحركة العربية الوطنية ضد مظالم حكومة حزب الإتحاد والترقــِّـي التي كانت تسيطر على مقاليد الدولة العثمانية والذي كانت غالبية قياداته من يهود الدونمة ومن الماسونيين الذين كان يغلب عليهم التطرف للقومية الطورانية، وكان المحيسن من نشطاء الجناح الشبابي في الحركة الوطنية العربية وشارك في قيادة حركة اعتصام قام بها مع زملاؤه في"مكتب عنبر"مطالبين بزيادة حصص اللغة العربية والتاريخ العربي فتعرَّض كأترابه من شباب الحركة للملاحقة من الإتحاديين .

وعندما ضيَّـق الإتحاديون الخناق على الشبان العرب أضطر المحيسن إلى مغادرة دمشق إلى فرنسا ومنها إلى مدينة ديترويت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث استقر فيها والتحق بجامعتها ليصبح أول أردني يتخرَّج من جامعة أمريكية، وكان في نفس الوقت يواصل نشاطاته الوطنية ضد مظالم حكومة حزب الإتحاد والترقــِّـي، وأصدر جريدة باللغة العربية"الكفاح الوطني"مع صديقه الكركي الأستاذ محمد حسن الحروب ودعمهما ماليا صديقهما ورفيقهما في الحركة الوطنية العربية عبد الحميد شومان الذي كان قد سبقهما إلى الهجرة إلى أمريكا"مؤسِّـس البنك العربي لاحقا"، وأثناء مكوثه في مهجره بأمريكا اختاره ممثلوحوالي مئة ألف مغترب في أعقاب مؤتمر لهم عقدوه في نيويورك رئيسا لوفد قرَّروا إرساله إلى فرنسا للمشاركة في"مؤتمر الصلح في باريس 1919 م"لدعم الوفود العربية في رفض مُخطـَّـط تقسيم البلاد العربية الذي تبنته بريطانيا وفرنسا فيما أطلق عليها إتفاقية"سايكس ـ بيكو)، ولكن ظروفا قاهرة في مقدمتها المكائد اليهودية حالت دون سفر الوفد إلى باريس، ومكث المحيسن في مغتربه قرابة خمسة عشر عاما واجه خلالها صعوبات إضطرَّته للعودة إلى الأردن وجاءت عودته في عام 1923 م بعد عامين من تأسيس الإمارة الأردنية، ولم يلبث أن التقي من جديد برفاقه في"مكتب عنبر"مصطفى وهبي التل"عرار"والدكتور محمد صبحي أبوغنيمة والضابطين جلال القطب وأحمد التل"أبوصعب"لينخرط معهم في نشاطات الحركة الوطنية الأردنية في التصدي للإحتلال البريطاني و"وعد بلفور"ولتداعيات اتفاقية (سايكس ـ بيكو) التي قسمت الوطن العربي الى اجزاء عديدة ترزح تحت نير الإحتلال البريطاني والفرنسي .

وعمل المحيسن بعد عودته من أمريكا مفتشا للمعارف فحرص على إنشاء عدد من المدارس في القرى الاردنية، ثمَّ نـُـقل مديرا لمدرسة إربد، ويذكر الأستاذ المحامي ضيف الله الحمود الخصاونة الذي شغل المنصب الوزاري والمقعد النيابي أكثر من مرة أنه تتلمذ مع الكثير من أبناء جيله من طلاب عشرينيات القرن العشرين المنصرم على الأستاذ محمد بطـَّـاح المحيسن، ويصف الحمود أستاذه بأنه كان يحرص على توجيه طلابه إلى الإعتزاز بتاريخ أمتهم العربية وعلى تربيتهم تربية وطنية ليكونوا جيل المستقبل المؤمن بربه والوفي لآمال أمته في التحرُّر من الإحتلال الذي كان يجثم على صدور الشعوب العربية في تلك الفترة، ثمَّ نـُـقل حاكما إداريا في وزارة الداخلية، ثمَّ اختاره الأمير المؤسِّـس عبد الله الأول بن الحسين رئيسا للديوان الأميري وكان يتقن اللغات الانجليزية والتركية والفرنسية، ويُسجَّـل للمحيسن أن إنشغاله بالعمل الرسمي لم يغيِّـر من قناعاته الوطنية فبقي يطالب بالغاء المعاهدة البريطانية وطرد الأجانب من الوظائف الحساسة وإجراء انتخابات تشريعية، وكان طبيعيا أن تـُـغضب مواقفه الوطنية المحتلين الإنجليز فلما قرَّر مع عدد من رجالات الحركة الوطنية خوض إنتخابات المجلس التشريعي الثالث التي أجرتها حكومة إبراهيم هاشم في 16 / 10 / 1934 م مارس الإنجليز ضغوطا على الحكومة لإفشال المحيسن ورفاقه، وكانت المفارقة أن عدد الأصوات التي حصل عليها المحيسن في مسقط رأسه الطفيلة كانت 45 صوتا فقط مما أدى إلى توتر شديد، وقام أكثر من 300 ناخب بالتوجه إلى مقر الحاكم الإداري وأقسموا بصوت واحد أنهم إنتخبوا محمد بطـَّـاح المحيسن، وسألوا الحاكم الإداري أين ذهبت أصواتهم.؟، وكشف تقرير للقنصلية الأمريكية في عمَّـان نـُشر لاحقا أن الإنجليز كانوا وراء تزوير إنتخابات المجلس التشريعي الثالث لضمان إبعاد مناوئي الحكومة البريطانية من الوصول إليه، ولم تتوقف مضايقات الإنجليز للمحيسن ففصل من عمله ونـُفي إلى مسقط رأسه الطفيلة، وانتقل المحيسن إلى رحمة الله عزَّ وجلَّ في شهر آ ذار من عام 1942 م.

ومن الصفحات المطوية في سيرة الأستاذ محمد بطـَّـاح المحيسن ريادته في كتابة الرواية المسرحية، وفي هذا الصدد يذكر الأستاذ الشاعر حيدر محمود وزير الثقافة الأسبق في مقالة نشرتها"الدستور"في 27 ـ 2 ـ 1983 أن الأستاذ المحيسن بعد عودته من مهجره القسري إلى أمريكا"1908 ـ 1923 م"وعمله في دائرة المعارف"وزارة المعارف) مفتشا عاما كان يشجع الطلاب على تمثيل رواية مسرحية وطنية كان قد كتبها أثناء وجوده في مهجره القسري في أمريكا وقدمت على مسارح عدة مدن أمريكية أطلق عليها إسم"الأسير"تروي ملحمة جهاد الأشقاء المغاربة بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي ضد الإحتلال الفرنسي، وكان المحيسن يُشجع طلاب المدارس في شرقي الأردن على تمثيلها لغرس الروح الوطنية فيهم، ويصف الأستاذ حيدر محمود المسرحية بأنها كانت عملا ً فنيا ً من طراز رفيع وتنمُّ عن تمكـُّـن كاتبها من معرفة لغة المسرح وتقنيته حتى في أدق التفاصيل، وكان الأستاذ محمد بطـَّـاح المحيسن قد كتب في أواخر سني هجرته القسرية إلى أمريكا"1908 ـ 1923 م"رواية مسرحية أخرى بعنوان"الذئب الأغبر"تحدَّث فيها عن حركة مصطفى كمال أتاتورك التي استهوت في بدايات ظهورها الكثيرين قبل أن يكتشفوا أنها كانت حركة دبَّـرها اليهود والماسونيون للقضاء على دولة الخلافة العثمانية التي كانت تقف صخرة كأداء أمام الأطماع اليهودية في فلسطين، وللأستاذ محمد بطـَّـاح المحيسن رواية مسرحية أخرى بعنوان"الفريسة"تحدّث فيها عن المجتمع العربي في أواخر الحكم العثماني وعن نشاطات بعض رجالات الحركة الوطنية العربية التي كانت تتصدى لمحاولات حكومة حزب الإتحاد والترقـِّـي الماسونية لطمس الهوية العربية وفرض الهوية القومية التركية"الطورانية"على العرب قسرا.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).