إسماعيل عريضة

أسماعيل عريضة

لم تكن مدينة مادبا بعيدة عن الحراك الديموغرافي، الذي تميز به الأردن منذ فجر التاريخ، وظهرت تجلياته الرائعة مع بدء دورة الدولة الأردنية الحديثة عام 1921، التي تزامن تأسيسها مع اضطراب سياسي وعسكري شمل المنطقة بأسرها، وتميزت مادبا بفضل موقعها المتوسط، وقربها من العاصمة عمان، وكثرة قراها وخصوبة أراضيها، مما جعلها مقصداً للتجار وطالبي الاستقرار، والباحثين عن فرص لحياة أفضل ومستقبل آمن، لذا كانت حاضنة لجزء من هذا الحراك البشري، وهي التي تميزت ولا زالت بالمحبة والألفة، وبالتنوع الثقافي الثري واللافت، وهي اليوم بفضل ميزاتها وجهود أبنائها، وما توليه الحكومة من دعم لتطويرها، تعد ركيزة في البنية السياحية والاقتصادية والروحية في الأردن.

بالرغم من أن إسماعيل عريضة، عاش حياة مليئة بالإثارة والمغامرة، فقد كان مجاهداً عربياً وثائراً قومياً حقيقياً، كاد يسجل في مواكب الشهداء في أكثر من ساحة نضالية عربية، فقد توارى عن الأضواء، وعاش سنواته الأخيرة بهدوء، حتى كاد ينسحب من الذاكرة، ويدخل في دائرة النسيان، لأنه اكتفى بما أنجز، ولم يكن طامعاً بجاه أو مال، لذا اختار الصمت المنتج، ووثق مذكراته الغنية بأخبار الثورات العربية، ومعارك الجيش العربي، وهي المذكرات التي حققها الباحث محمد الصويركي، غير أن جهاده ومبادراته، والأحداث الجسام التي خاض عبابها، تبقيه واحداً من رموز الوطن الأوفياء، الذين ذادوا عن الحمى العربي، بكل شجاعة ورباطة جأش، ولم تثنهم عن ذلك المسافة أو المخاطر.

ولد إسماعيل عريضة في مدينة مادبا عام 1902، أي واكبت ولادته انطلاق القرن العشرين، بكل ما تحمل هذه المواكبة من تعقيدات واضطرابات مختلفة، وينتمي إسماعيل عريضة لأسرة دمشقية، امتهنت التجارة، حيث كان لوالده صلات تجارية مع الأردن، خاصة مدينة مادبا وما جاورها من مضارب وقرى، وكان والده معروفاً بين قبائل بني ضخر وبني حميدة والقبائل البلقاوية في مادبا، كتاجر محط ثقة، وقد تحولت هذا الصلات إلى علاقات إنسانية عميقة، غير أن إسماعيل عريضة عاد برفقة والده وعائلته إلى دمشق، حيث نشأ في حي الميدان الشهير، الذي كان معقلاً للثوار والمناضلين، المناهضين للأتراك ومن بعدهم الفرنسيين، ولا شك أنه تشبع بهذه الأجواء المليئة بالتحدي ورفض الاحتلال، وكان أن تلقى بعض التعليم في كتّاب الحي، لكنه سرعان ما دخل التجارة، التي تبدأ بالأجير أو ما يسمى ( الصبي ) حتى كبار رجالات التجارة، هكذا تنتقل حرفة التجارة بالتوارث.

أختط إسماعيل عريضة لنفسه طريقاً مستقلاً، بدأه بتأسيس دكانه الخاص في قرية ( الهوية ) في جبل الدروز، وكان ذلك خلال الفترة من عام 1921 وحتى عام 1924، حيث دفعه اضطراب المنطقة لمغادرة جبل الدروز - جبل العرب – وعاد إلى مسقط رأسه في الأردن، أقام فيها فترة، لكنه عاد بعدها إلى منطقة حوران بقصد المتاجرة والإقامة، فأسس محلاً تجارياً فيها، وتمكن سريعاً من استعادة نشاطه التجاري، غير أن الأحداث تسارعت، وعادت الأحوال للاضطراب من جديد، عندما قام سلطان باشا الأطرش بقيادة الثورة السورية، ضد الاحتلال الفرنسي في جبل العرب وحوران، فقرر إسماعيل عريضة إغلاق دكانه، والرحيل إلى دمشق، وقد اختار السكن في قرية تدعى ( يبلا ) في غوطة دمشق، وفي تلك الفترة الدقيقة، حزم أمره وقرر ترك تجارته وشؤونه الأخرى، والالتحاق بالثورة، حيث خاض معارك حامية مع المجاهدين الثائرين، لتتغير مسيرة حياته منذ تلك اللحظة.

كرس إسماعيل عريضة نفسه للثورة، وأخذ يشارك في معاركها ومواجهاتها المختلفة، حيث قاتل في جبل العرب، وخاض صدامات دامية في بلدات سهل حوران، وفي محيط مدينة دمشق، وفي الغوطة التي تمركز فيها جمع من الثوار، ووصلت مشاركاته في هذه الثورة حتى جنوب لبنان، لكن جيش فرنسا المتفوق عدداً وعدة، مارس أبشع صور القمع والتدمير، وتمكن من إنهاء الثورة بوحشية كبيرة، وقام الفرنسيون بإعدام عدد كبير من المجاهدين، وشنوا حملات ملاحقة للثوار، وقد رافق إسماعيل من ثوار الأردن عدد كبير، منهم خليل ملحس وطلب الجبور وفضل الدروبي، وكان رجالات الأردن قد جهزوا قوة من المجاهدين خرجت من الشمال، وأخرى خرجت من البلقاء – مدن الوسط – للمشاركة في الثورة.

عمل إسماعيل عريضة على استثمار علاقاته ومعارفه في الأردن، لذا كان إلى جانب جهوده في القتال، يعمل على جمع التبرعات والسلاح من رجالات الأردن، وكذلك من بعض التجار من أهل الشام المقيمين في الأردن، ويقوم بتأمين وصولها سراً إلى الثوار في سوريا، وفي سبيل ذلك رافق كل من نزيه المؤيد وفوزي القاوقجي والأمير عز الدين الجزائري وسعيد بيك العاص، من أجل حماية هذه المعونات وإيصالها للثوار، حيث يذكر إسماعيل عريضة في مذكراته، الدور الكبير الذي كان يقوم به سمو الأمير عبد الله المؤسس، الذي كان يتبرع شخصياً لدعم الثوار، ويحظ الشخصيات الأردنية على التبرع ومؤازرة المناضلين، بالإضافة لفتحه البلاد لتكون ملاذاً آمناً للثوار الملتجئين من بطش الفرنسيين، الأمر الذي أثار غضب الفرنسيين والبريطانيين على حد سواء.

بعد توقف العمليات العسكرية للثورة، رجع إسماعيل عريضة إلى الأردن عام 1927، وعاد إلى ممارسة التجارة في مدينة الكرك ومحيطها، وقد أحب بساطة أهل القرى والبادية، وطاب له العيش معهم، وهو الذي ارتبط معهم بعلاقات وثيقة، وقد استقر عام 1928 في قرية ( أمرع ) في مادبا، غير أن حسه القومي العالي، وارتباطه الوثيق بالفكر النضالي التحرري، دفعه مجدداً للانخراط في الثورات العربية، لذا سرعان ما أنظم للثورة الفلسطينية، التي اندلعت بشكل كبير عام 1936، حيث تداعى رجالات من الأردن، إلى عقد مؤتمر في ( قم ) في عجلون، نتج عنه تجهيز حملة عسكرية من المتطوعين من بلدات وعشائر الأردن، للمشاركة في معارك الثورة الفلسطينية، في ما سمي بموقعة ( صمخ ) المشهودة، التي وقع فيها أول شهيد أردني على أرض فلسطين في تلك الفترة، وقد أنضو إسماعيل عريضة، في قتاله ضد الإنجليز واليهود في تلك الثورة، تحت إمرة القائد فوزي القاوقجي، حيث خاض معارك حاسمة كمعركة المنطار، التي أسقط فيها الثوار ثماني طائرات بريطانية، ولولا الترسانة العسكرية الكبيرة، لتمكن الثوار من حسم المعركة.

بعد مشاركته في الثورة الفلسطينية. التحق بالجيش العربي الأردني، مستثمراً بذلك خبرته الميدانية في القتال واستخدام الأسلحة الخفيفة، وفي الجيش تحول إلى مقاتل محترف، وضعاً نفسه في خدمة وطنه، ومقدماً روحه لذود عنه، كما عمل في قوات الأمن العام لفترة من الزمن، وقد كان مرافقاً في حراسة سمو الأمير عبد الله الأول المؤسس، ويذكر أنه دخل مع جيش الإنقاذ العربي، الذي كان جله من الجيش العربي الأردني، إلى فلسطين للدفاع عنها عندما انسحبت القوات البريطانية منها، بعد أن مكنت القوات الصهيونية بالسلاح الحديث، وحصنت مواقعهم. وقد خدم إسماعيل في حيفا والهادار والكرمل، حيث خدم تحت إمرة القائد نديم السمان، وقد عرف إسماعيل بشجاعته وقدراته العالية في القتال.

لقد شكل إسماعيل عريضة، حالة فريدة في التاريخ الاجتماعي والنضالي في الأردن، وتحرك في القرى والبوادي والمدن، وقاتل على جبهات الثورات العربية في المنطقة، كما عمل على جمع الأموال والأسلحة وتهريبها للثوار في سوريا، عن طريق النعيمات وسكان منطقة الأزرق، وكان ينسق عمله هذا مع عدد من الزعامات المحلية كالشيخ حديثة الخريشة والشيخ خلف النصير وغيرهم، وكذلك ساعد في فلسطين، حيث رافق الشيخ عز الدين القسام وعبد الرحيم محمود، والكثير من الثوار، وفي الجيش الأردني، خدم بإخلاص وتفانٍ حتى أحيل على التقاعد في مطلع السبعينيات، وقد أقام في جبل الجوفة في عمان، وعاش بعد ذلك بصمت، حتى ألم به مرض أدى إلى وفاته عام 1988، عن عمر ناهز السادسة والثمانين عاماً، بعد أن عاش حياة حافلة بالعمل النضالي والوطني، ولم ينتظر ثمناً ولم يسعى لشكر، هادفاً إلى نصرة قضايا أمته والذود عن وطنه وتحقيق حياة أفضل للأجيال القادمة. 
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).