عبد الله العكشه ... عصامي امتلك فروسية الكلمة وصلابة الموقف



يمكن النظر لمسيرة حياة الشاعر والسياسي عبد الله العكشة، باعتبارها صورة زاهية، عن مرحلة تاريخية كبيرة وبالغة الأثر، في البنية السياسية والاجتماعية، وفي التحولات الكبرى، التي تركت آثار مخالبها في بلدان المنطقة كلها، وقد وجد عدد من المهتمين بحياة هذا الشاعر النبطي الفذ، تشابهاً ملحوظاً مع حياة شاعر الأردن المتمرد مصطفى وهبي التل – عرار – حتى لقب بعرار الجنوب، فلقد تميز العكشة بتمرده على السائد، وتمسكه بالبساطة والزهد، ومناصرته للضعفاء والمهمشين، وعدم سقوطه في إغواء المناصب والوظائف العالية، وعاش منافحاً عن مبادئه، مدافعاً عن أمته وحريتها ووطنه واستقلاله، ودفع في سبيل ذلك ثمناً غالياً، ولم يغير من نهجه هذا طوال سنوات عمره.

يعد عبد الله العكشة علماً من أعلام الكرك، واحد أبرز رجالات العشائر المسيحية في الكرك، منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصفه، وقد انتشرت قصائده ومآثره بين الناس، من جنوب البلاد حتى شمالها، ولأنه ولد في الفترة التي عانت فيها المنطقة من إهمال الدولة العثمانية، وغياب المؤسسات في أبسط صورها، لذا لم يتم التثبت من تاريخ ولادة معظم أبناء هذه الفترة، لكن الدكتور فريد العكشة ابن عبد الله العكشة يشير في مقدمته لديوان والده (عرس البويضا ) أن والده ولد في الكرك نحو عام 1880، ولا شك أنه جاء إلى هذه الدنيا، والبلاد العربية ترزح تحت ثقل سحابة سوداء من الإهمال والتجهيل، وقد عانى الناس من الفقر وضيق ذات اليد، لذا لم تكن طفولة عبد الله العكشة تختلف عن حياة أطفال القرويين والمزارعين في الكرك، فلقد قاسى صعوبة الواقع منذ تفتح وعيه، وأفضل ما تمتع به في طفولته المبكرة، هو اللعب في حواري الكرك، والركض في دروبها الترابية، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، حيث كان ينتزع الأطفال من لهوهم، ويدفع بهم للمساعدة في أعمال الكبار، خاصة في الزراعة، ورعي المواشي، وبعض الأعمال التجارية، فكان أن غادر عبد الله العكشة، طفولته باكراً ليواجه الحياة بما تحمل من مصاعب وقسوة.

لم تكن المدارس الرسمية أو الخاصة متوفرة كما هي اليوم، فلقد شكلت ندرتها عائقاً كبيراً أمام الراغبين في العلم، وهذا ما دفعه لبذل المستحيل للحصول على التعليم بأي شكل من الأشكال، وكان أن أسعفه الحظ بدخوله مدرسة الروم الأرثوذكس، مما وفر له فرصة عز نظيرها لتحقيق حلمه في التحصيل العلمي، ولم يكن في المدرسة مجرد طالب مجتهد، بل تميز بقوة الشخصية، والنباهة والموهبة الأدبية، ما جعله مقرباً من مدرسيه، وقد كان لمعلمه سلامة القسوس تأثيرًٌ واضحٌ على توجهاته الأدبية والفكرية، وعرف بولعه بالقراءة، حتى كان يطلب من والده أن سمح له برعي الغنم، ليتمكن من المطالعة بهدوء الطبيعة، وقد رافق المعلمة هدباء الصناع في قراءة الصلاة في الكنيسة، وعندما أخذ منه راعي الكنيسة الكتاب، الذي يقرأ فيه وسلمه للمعلمة هدباء، اشتكى الأمر للمعلم سلامة الذي أعاد الكتاب إليه.

تعرض مشروعه في تلقي العلم للإحباط، وواجهته مصاعب كبيرة، فلا مدارس ثانوية في الكرك، والناس حينها لا تدرك أهمية العلم، وحالت الظروف دون أن يرسله والده إلى مدرسة في القدس، كما هو حال من يرغبون في إكمال دراستهم في تلك الأيام، لكن مع كل هذه العقبات، لم يتخل عن حلمه، وقرر التعلم على نفسه، وهو الذي اعتاد مكابدة الحياة من بواكير شبابه، وخلال هذه المرحلة بدأت موهبته الشعرية بالظهور، وأخذت قصائده الأولى تصل إلى الناس، ويذكر الدكتور فريد العكشة، أن والده كان يصاب بالغيرة من كل متعلم أو محصل للمعرفة الجديدة، فعندما سمع شابا مقدسيا يتحدث الفرنسية مع الأجانب في الكرك، أسرع إلى راعي الكنيسة الإيطالي، الذي يتقن الفرنسية والإنجليزية بالإضافة للإيطالية، وطلب منه بإلحاح أن يعلمه هذه اللغات، فعلمه مبادئها، وأضطر أن يدرس على نفسه، ويمارس هذه اللغات حتى وإن أخطأ، فتمكن بتفانيه من إتقانها محادثة وكتابة، وكان يستخدمها خلال مرافقته للسياح في البتراء والكرك، كدليل وحارس، حتى عودتهم إلى القدس.

لم تقف طموحاته في العلم عند هذا الحد، ونظراً لعدم قدرته على الإلتحاق بمعاهد علمية، فقد قرر دراسة القانون على نفسه، مع صديقه عودة القسوس، فكانا يدرسان كتب القانون، ويتناقشان فيها، حتى تمكن من تحصيل معرفة قانونية واسعة، مكنته من امتهان المحاماة والتميز فيها، رغم عدم حصوله على مؤهل علمي فيها، وقد عرف كمحام ٍ متميز لا يشق له غبار، وكان له دور نضالي مشهود ضد ممارسات الحكومة التركية، وهو الذي عاش ما قاساه أهله من وراء هذه السياسة، وقد كتب رسالة إلى الصدر الأعظم في اسطنبول، يشرح فيها فساد الحكام في الكرك، وقد غير في خط يده، وتركها دون اسم أو توقيع، ومع ذلك بعد أشهر حقق معه المتصرف، واتهمه بكتابة الرسالة، وقام بنفيه إلى الطفيلة، فأرسل إليها مع جنديين تركيين، ولم يحاول الفرار، فقد تميز بالشجاعة والقدرة على تحمل النتائج.

أسهم عبد الله العكشة في تحويل عشيرته، من المذهب المسيحي الشرقي إلى الغربي، على إثر موقف راعي الكنيسة من ولعه بالمطالعة، وقد تزوج ثلاث مرات أولها عام 1901 حيث تزوج بفتاة من عائلة الحجازين، والثانية من عائلة الزعمط من السلط، والثالثة عام 1917 من عائلة أبو عقلة من بيت لحم. 

واستمر في مواجهة الظلم التركي للعرب، وعندما فرضت ( السخرة ) على العرب، نظم قصيدة تدعو لرفض هذا الحكم الجائر، وقرأها على شيوخ الكرك، فتبنوا دعوته وأرسلوا البرقيات التي تطالب برفع هذا الظلم، حتى استجابت الحكومة وتم رفع السخرة عن الكرك، ونتيجة لنهجه المناهض للدولة التركية، هو وشقيقه خليل وعدد من رجالات الكرك ومادبا، تم إلقاء القبض عليهم ونفيهم إلى منطقة قوزان في تركيا، ولم يتمكنوا من العودة إلى الوطن، إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وقاسى خلال هذه الفترة ويلات الحرب، فعبر عن هذه المعاناة في قصيدة مؤثرة.

خلال فترة الحكومة العربية، في عهد الملك فيصل، عين عبد الله العكشة عضواً في محكمة الكرك، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، فبعد سقوط الحكومة العربية في دمشق، وقيام حكومة محلية في الكرك، انتخب عضواً في المجلس العالي في حكومة الكرك، وقد واكب قدوم الأمير عبد الله بن الحسين إلى معان ومن ثم عمان، وتأسيسه لإمارة شرق الأردن عام 1921، ويعد العكشة من رجالات مرحلة التأسيس، فقد عين في بدايات تلك المرحلة عضواً في محكمة بداية اربد، ودلت هذه الوظائف الأخيرة على تقدير لخبرته القانونية، رغم عدم تحصله على مؤهل علمي، ومع ذلك حافظ على مبادئه، ورفضه لظلم الاستعمار الغربي للبلاد العربية، وخسر في سبيل ذلك وظيفته في المحكمة، عندما رفض تسليم مجاهدين سوريين التجأوا إلى الأردن، إلى الفرنسيين، بعد أن تبين له أنهم مناضلون شرفاء، وقاوم إلحاح المعتمد البريطاني، فتم الاستغناء عنه، فلم يفت ذلك في عضده، وبقي على رأيه وموقفه.

عاد عبد الله العكشة بعد خروجه من محكمة اربد إلى الكرك، وزاول العمل في المحاماة، مدافعاً عن أصحاب الحق، فكان يرفض الدفاع عن أي شخص ليس بصاحب حق، ولا يغريه المال أو الجاه، فقد كان زاهداً، يعيش يومه، ويحتمل الأحزان والخسارات مهما كانت قاسية، حيث تقبل مقتل ابنه البكر بشارة وهو في ريعان الشباب، واحتسبه عند الله، فكان مؤمناً بالقضاء والقدر، وعندما توفي أحد أطفاله الصغار، وفي بيته ضيوف لم يظهر عليه أي شيء. 

ونظراً لخبرته القانونية المشهودة، عين عضواً في لجنة وضع قانون مجلس النواب، في بداية مرحلة التأسيس، ولم يتفق رأيه مع رأي رئيس اللجنة إبراهيم هاشم، فحلت اللجنة وعندما أعيد تشكيلها لم تضم عبد الله العكشة، وخاض الانتخابات النيابية أكثر من مرة، لكنه لم يتمكن من دخول المجلس، وقد قدم للحكومة شكوى مع إثباتات، تبين أنه تم ترسيبه في الانتخابات، لكن شكواه لم تلق الاهتمام، وبقي يعمل في مهنة المحاماة حتى عام 1952، عندما أقنعه ابنه الدكتور فريد بالتقاعد، وعرف في حياته بحبه للعمل في الزراعة، فعمل بيديه دون كلل، وحافظ على حبه للمطالعة بشكل لافت، واستمر متمسكاً بمبادئه ومواقفه، حتى وفاته في عمان في السابع من شباط عام 1956.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).