أحمد مريود .. مناضل في قلب بلاد الشام



شهدت ساحات النضال العربي في العصر الحديث، مواكب من المناضلين والثوار، فمنهم من بلغ الشهادة ومنهم بقي قابضاً على جمر الرفض والمواجهة من أجل الحرية والاستقلال، فتمكنوا بفضل ما تحلوا به من شجاعة ووعي من تجاوز حدود المرحلة التي كتبوا تفاصيلها بدمهم وأرواحهم، ومضحين باستقرارهم العائلي وبمصالحهم الشخصية، مقدمين مصلحة الوطن والأمة على كل شيء، قابلين بدفع الثمن الذي كان غالياً ومؤلماً، لكن نتائجه التي لا تقدر بثمن، حفظت للأمة كرامتها وعزتها، وأثبتت للعالم المستعمر أن العرب أمة حية عصية على الإذعان والخنوع، وأنها في أحلك الظروف تبقى منبع الرجال الأحرار القادرين على تغيير الواقع الصعب إلى مستقبل واعد بالتنمية والحرية.

المناضل العربي الكبير أحمد مريود، أحد الشجعان الكبار الذين أقضوا مضجع الفرنسيين والبريطانيين، فهو ابن حوران قلب بلاد الشام، وأسد المعارك والمواجهات الحاسمة في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، مما جعل من اسمه مبعث الخوف والقلق لدي المستعمر الغربي، ومن قبله عسكر وحكام الاتحاد والترقي التركي العنصري، وفتكه بالعرب في بلاد الشام.

 كان ابن المرحلة الحارة المليئة بالتحولات والأحداث الجسام، التي غيرت ملامح المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وقد عمل أحمد مريود على قيادة عدد كبير من المعارك والمواجهات ضد الفرنسيين وحلفائهم البريطانيين، وأصبح وزيراً في أكثر من حكومة أردنية، وتقاسمته سوريا والأردن والحجاز والعراق، ليكون مثالاً حياً على الوحدة السياسية والاجتماعية لبلاد الشام التي قسمها الاستعمار.

ولد أحمد موسى حيدر مريود في قرية جباتا الخشب في الجولان، وكانت ولادته عام 1886، وقد نشأ في جباتا الخشب مع أبناء عمومته من قبيلة المهيدات التي تعود بجذورها إلى الأردن فقد تزعمت هذه القبيلة إمارة البلقاء، وبسبب وقوع نزعات قبلية اضطروا للخروج باتجاه قرية تبنه شمالي الأردن، وبعد مواجهات قبلية دامية، انتقلوا إلى الجولان وأقاموا في جباتا الخشب وجباتا الزيت ووفيق وكفر حارب، وتؤكد بعض الروايات أن المهيدات التي لها صلة بعشيرة الهناندة في منطقة ايدون في الأردن، هم ينتسبون إلى قبيلة بني هلال العربية المعروفة برحلتها الشهيرة « تغريبة بني هلال «.

 نشأ أحمد مريود في مسقط رأسه جباتا الخشب، وكان جده لأمه الشيخ علي الخطيب زعيم قرية شبعا اللبنانية حالياً، وقد حرص والده على تعليم أبنائه فكان يحضر المعلمين إلى بيته ليقوموا بتعليم أولاده، فغرس فيهم حب العلم وتقدير المعرفة، بعد ذلك التحق بمدرسة القنيطرة ليدرس المرحلة الابتدائية، وبعد أن أنهاها انتقل إلى مدرسة مكتب عنبر بدمشق لإكمال الدراسة الثانوية، وكانت هذه المدرسة تعد من المدارس المميزة والحديثة ضمن تلك المرحلة.

تميز المناضل أحمد مريود بحبه الكبير لكتب التاريخ، خاصة تاريخ العرب والمسلمين، وقد قادته قراءة للتاريخ إلى النضال من أجل المساهمة بإعادة الأمجاد العربية، وقد بادر بتأسيس جريدة « الجولان « الأسبوعية في القنيطرة، هادفاً إلى جعلها صوت الحق العربي، لكن هذه الجريدة لم تستمر طويلاً بسبب انشغاله في مقاومة الأتراك وملاحقاتهم المتواصلة له، فقد كان من أقطاب الحركة الوطنية العربية، ومن مؤسسي الجمعية السرية « العربية الفتاة « التي تصدت لسياسة التتريك العنصرية، وقد برز نشاط أحمد مريود خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كان يعمل على تجهيز شباب العرب الفارين من التجنيد الإجباري، وتأمين تهريبهم إلى الحجاز والأردن لينظموا إلى جيش الثورة العربية الكبرى، وقد لاحقة الأتراك وقبضوا عليه وألقوه في السجن في عاليه بلبنان، حيث بقي بالسجن حتى انتهاء الحرب وانتصار الثورة العربية، فخرج لينضم إلى جهود تأسيس الحكومة العربية بدمشق تحت عرش الملك فيصل.

بعد انكشاف المؤامرة الغربية، وتقسيم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا، ونكثهم وبعودهم للعرب بالحرية الاستقلال، عمل مريود مع رفاقه على تأسيس حزب الاستقلال العربي، الذي ضم رجالات وأحرار العرب، وتمكن من تحويل قرى الجولان وجبل الشيخ وحوران إلى أهم مراكز المقاومة والثورة ضد الاستعمار الفرنسي تحت قيادته، مما اضطر الفرنسيين إلى توجيه جيش كبير لقمع الثورة خاصة مع ثورة جبل الدروز التي قادها سلطان باشا الأطرش، وقد أجبر مريود مع عدد من المقاتلين على الانسحاب إلى شرق الأردن، وقد شارك خلال فترة وجوده في الأردن في أول حكومة بعد تأسيس إمارة شرق الأردن برئاسة المناضل العربي رشيد طليع بتاريخ 11/4/1921، وكان معاوناً لنائب العشائر، حيث اتصفت الحكومات الأردنية في تلك المرحلة بمشاركة عدد من الشخصيات العربية، من الذين لاذوا بالأردن وقاموا بتأسيس حزب الاستقلال العربي في الأردن، كما شارك أحمد مريود في تشكيلة الحكومة الثانية التي ترأسها أيضاً رشيد طليع بتاريخ 5/7/1921، كما شارك في الحكومة التي شكلها مظهر ارسلان في 15/8/1921، ودخل ضمن تشكيلة حكومة علي رضا الركابي التي شكلت في 10/3/1922.

وجد أحمد مريود ورفاقه الرعاية والدعم في الأردن رسمياً وشعبياً، حيث استضافتهم بيوت الأردنينن، الذين انخرط كثير منهم خاصة من شمالي الأردن ومن البلقاء في الثورة السورية، ونتيجة لهذه المبادرات الثورية، تم التخطيط من قبل رجال الثورة ومن أبرزهم أحمد مريود لاغتيال الجنرال غورو خلال توجهه إلى القنيطرة، وقد أدى نجاح الهجوم على الموكب، إلى زيادة غضب الفرنسيين عليه، فتم الضغط عليه ورفاقه من خلال البريطانيين، فغادروا الأردن إلى الحجاز، وحلوا بضيافة الشريف الحسين بن علي، الذي أجبر على مغادرة الحجاز نتيجة لتردي الأوضاع العسكرية والسياسية فيه، لذا انتقل أحمد مريود إلى العراق تلبية لدعوة حزب الاستقلال، حيث بدأ فور وصوله نشاطاته النضالية إعلامياً وسياسياً، وعندما اندلعت الثورة السورية عام 1925، قرر اللحاق بالثورة، فوصل جبل العرب « الدروز « عن طريق البادية الأردنية، حيث استقبله القائد العام للثورة السورية سلطان باشا الأطرش.

كان لعودته صدى كبيراً بين الثوار، الذين قويت عزيمتهم، خاصة مع قيادته لكثير من معارك الثورة، وتمكنه من تحقيق انتصارات على الجيش الفرنسي المتطور والمتفوق عدداً وعدة، فقد تميز بصفات القائد الكبير، فقد كان شجاعاً وشديد المراس، لا يخشى مواجهة المخاطر، وقد كان دائماً على حافة الشهادة، حيث جمع إلى جانب العمل العسكري، الحنكة السياسية والدبلوماسية الذكية، فقد تمكن من توحيد القوى الوطنية خلف الثورة، موظفاً علاقاته الواسعة، وما تمتع به من محبة وثقة من الجميع، وقد نجحت جهوده في دفع الثورة دفعات كبيرة، جعلت من الوجود الفرنسي في سوريا مهدداً.

تمكن الثوار من نقل النقل الثورة إلى دمشق، وفي الغوطة خاض الثوار وعلى رأسهم أحمد مريود، أعنف المعارك والمواجهات مع الفرنسيين، مما اضطر فرنسا لتوجيه أكبر حملة عسكرية إلى الغوطة، وهاجمت الثوار بشراسة وهمجية، مما أجبرهم على الانسحاب إلى الجولان، وانتقل أحمد مريود مع مجموعة من الثوار إلى قرية جباتا الخشب، جاعلاً منها مركز عملياته العسكرية، غير أن الفرنسيين فاجأوا أهالي القرية بهجوم كبير شاركت فيه الطائرات، وحاصروا أحمد مريود في بيته، لكنه ثبت ومعه قلة من رجاله وأحد أبنائه، وبقي يقاتل بشجاعة واستبسال حتى استشهد في المعركة، وسقط معه عدد من الثوار وأهالي جباتا الخشب في الثلاثين من أيار 1926.

 وقام الفرنسيون بأخذ جثته وجثث بعض رفاقه إلى دمشق، حيث تم تركها معروضة في ساحة المرجة وسط دمشق، تنكيلاً به وتشفياً بموته، ومحاولة لإخافة الناس وإضعاف الثورة، وقام الدمشقيون بوضع الورود على الجثث، حتى سمح بدفنها، فأصروا على دفنه في مقبرة « قبر عاتكة « وهي من المقابر العريقة في دمشق، وتم دفنه بمشاركة شعبية كبيرة، وضمن احتفال ديني ضخم، لينقش ببطولاته واستشهاده الأسطوري سفراً عربياً خالداً من سجلات البطولة الفداء خدمة للقضية العربية ومستقبل الأمة. 
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).