أديب الكايد .. فارس ومناضل عتيد!


الأردن أرض نابضة بالحياة والحضارة منذ فجر البشرية، فلم تكن في مرحلة من المراحل أو في عصر من العصور أرضاً خلاء، أو جسر عبور محايد، بل كانت ولا زالت موطناً لمتواليات حضارية، قادها شعوب المنطقة، فهي بلاد سعى للسيطرة على خيراتها أكبر وأعرق الحضارات العالمية، كالإغريقية والرومانية والفارسية، بالإضافة لحضارات شعوب البلاد بدءاً من العصر الحجري مروراً بالعصر الحديدي والبرونزي، فالشواهد الأثرية والأوابد التاريخية تكشف بوضوح العمق الحضاري والفكري للأردن، لذا كان رجالاته نبتا طيبا من هذا الثرى المبارك، يستندون إلى كل هذا الإرث المتواصل، فحملوا أرواحهم على أيديهم من أجل الوطن وقضايا الأمة، فكانوا دوماً بحجم الحدث وعلى قدر المسؤولية.

يعد المناضل والسياسي أديب الكايد، ابن مرحلة المكابدات الكبرى، التي نتج عنها بناء الدولة الأردنية الحديثة، والتي أعلن تأسيسها الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921، وسط محيط مضطرب وكان لهم وللقيادة الحكيمة دور بارز في حماية الوطن والسير فيه إلى بر الأمان،  فالكايد شخصية فذة سابقة لأوانها، فقد حقق مكانة كبيرة محلياً وإقليمياً، وضحى بكل شيء دفاعاً عن الوطن والحرية، هادفاً إلى بناء وطن عربي حر ومتطور، بعد أن كابدت المنطقة قرونا من الإهمال والإذلال، وآمن بالشباب العربي وقدرتهم على التحرر وقيادة المشروع النهضوي العربي، فقد كان أديب الكايد واحداً من أولئك الذين تميزوا بالوعي السياسي المبكر المرتكز على القومية العربية باعتبارها الجامع لشعوب الحواضر العربية تحت الحكم العثماني، الذي خرج عن نهجه كثيراً خاصة في عقوده الأخيرة.

أديب الكايد من مواليد مدينة السلط حاضرة البلقاء، والتي كانت تتبع نابلس تارة والكرك تارة أخرى، لكنها كانت في تلك الفترة من أنشط حواضر شرق الأردن، وأكثرها صلة مع الحواضر العربية في فلسطين وسوريا، وكانت ولادته عام 1882 في مرحلة التراجعات الكبرى للدولة العثمانية، وما نتج عنه من ويلات على المنطقة العربية الخاضعة لحكم الأتراك، ويعد والده من أعيان عشيرة العواملة، وهكذا أصبح الابن عندما شب، ونال من العلم والمعرفة ما مكنه من تشييد ثقافته وفكره الخاص، وقد تربى في أجواء من الانفتاح على ما يجرى في المنطقة، بفضل موقع مدينة السلط والحراك التجاري والاجتماعي الذي شهدته على مدى تاريخها قديماً وحديثاً، ولعل لهذا كله أثره في وجدان ونفسية أديب الكايد، الذي التحق بالمدرسة الابتدائية الرشدية، في مرحلة عزت فيها المدارس، وندر فيها وجود معلمين مؤهلين، وكانت حكومة الباب العالي تفرض على المدارس العربية تدريس اللغة التركية، مما مكنه من تعلم اللغتين العربية والتركية.

بعد تخرجه من المدرسة الرشدية وحصوله على شهادة الابتدائية، خرج لمواجهة الحياة بكل متناقضاتها وصعابها، حيث كان تلك الشهادة كافية في تلك الأيام ليحصل على وظيفة جيدة المستوى، لندرة حملة الشهادات في ذلك الوقت، فعين كاتباً في بلدية السلط وسرعان ما تقدم في وظيفته، ومتن علاقته مع الناس، فقد تمتع باحترام ومحبة أهالي السلط، وقد شجعه ذلك ليخوض انتخابات بلدية السلط، وبذلك أصبح رئيساً للبلدية، وقد نشط في مجال تفعيل دور البلدية وخدماتها رغم شح الإمكانيات وقلة الكوادر المدربة، وبالتالي وسع من شبكة معارفه وذاع صيته بين الناس، بعد ذلك عين عضواً في محكمة البداية في السلط، وكانت المحكمة في نشاط دائم بفضل الحركة الناشطة في المدينة، والأقضية والبلدات التي تتبعها، وهو عمل وفر له خبرة واسعة تضاف لخبرته في العمل والحياة.

انشغل أديب الكايد بالهم السياسي باكراً، وقد أقضى مضجعه ما آل إله حال الأمة من ظلم وغياب للحرية، وقسوة عسكر الدولة الحاكمة، لذا بدأ يبحث عن إطار يتحرك من خلاله، ضمن توجهه لتوحيد الجهود للدفاع عن حقوق العرب ضمن الدولة العثمانية، فبادر بالانضمام إلى حزب اللامركزية العثماني، الذي كان ينسجم مع رؤاه وتوجهاته في تلك المرحلة، فقد هدف هذا الحزب إلى تحقيق الاستقلال الذاتي للأقطار العربية ضمن الدولة العثمانية، ولم يكن هذا الحزب مرحباً به أو بأعضائه من قبل مؤسسات الحكم في اسطنبول والولايات، غير أن أديب الكايد واصل مشواره النضالي وبتصاعد، متحملاً في سبيل ذلك كل المصاعب والمضايقات، فقد ذكر المؤرخ الكبير سليمان الموسى في كتابه وجوه وملامح الجزء الثاني أنه « كان يشتعل حماسة وحمّية للقضايا الوطنية العربية «.

رأى أديب الكايد بالثورة العربية الكبرى، الأمل والسبيل من أجل تحقيق الحلم العربي بالحرية والاستقلال، لذا فقد تابع باهتمام بالغ سير أحداث الثورة، وروج لها في كل مكان تحرك فيه، وقد توقع انتصار الثورة، نتيجة الحالة المتردية التي وصل إليها الأتراك عسكرياً واقتصادياً، وبسبب التفاف العرب حول الثورة وقيادتها، وقد اضطر الأتراك للخروج من السلط نتيجة ضغط الثورة العربية وحلفائها الإنجليز، ساند الكايد هذه التحولات وقدم كل ما بإمكانه من تسهيلات، وعندما عاد الأتراك إلى السلط كان أديب الكايد على رأس المطلوبين، فلم يكن أمامه خيار سوى الخروج من السلط واللجوء إلى مدينة القدس، وقد وصل الحقد والغضب بالأتراك حداً دفع بهم للقبض على شقيقه أحمد الكايد، بتهمة مقاومتهم وإثارة الأهالي ضدهم، وقاموا بإعدامه شنقاً، ليكون شهيداً ضمن قوافل شهداء أحرار الأمة، الذين أعدموا دفاعاً عن حقوق العرب ومستقبلهم.

لم يتمكن الأتراك من القبض على أديب الكايد، لذا تمت محاكمته غيابياً حيث صدر بحقه حكم الإعدام، غير أن ذلك لم يفت في عضده، ولم يتراجع عن توجهاته وأهدافه، فبعد انتصار جيش الثورة العربية، وخروج الأتراك من البلاد العربية نتيجة لذلك، بادر بالذهاب إلى دمشق عاصمة الحكومة العربية في سوريا الطبيعية، ونظراً لسمعته النضالية ومكانته العشائرية، فقد اختير عضواً في الجمعية الوطنية ممثلاً عن قضاء السلط، حيث كانت هذه الجمعية تتشكل من ممثلين عن المناطق السورية، وكان لهذه الجمعية دور مهم في الجهود التأسيسية للمملكة السورية التي توج الملك فيصل بن الحسين ملكاً عليها، غير أن المؤامرة الغربية المتمثلة باتفاقية سايكس – بيكو أجهضت المشروع العربي، عندما سقطت الحكومة الفيصلية بعد انتصار الجيش الفرنسي على العرب في معركة ميسلون.

بعد تلك الأحداث المؤسفة، عاد أديب الكايد إلى الأردن، وكان له موقف مشهود مع المندوب السامي البريطاني « هربرت صموئيل « الذي جاء إلى السلط يوم 21 آب عام 1920، ليلقي خطاباً يعلن فيه الاستقلال الذاتي لمنطقة شرقي الأردن، عندما فاجأه الكايد باستهجان منح الأردن هذه الصفة وحرمان سوريا وباقي البلاد منها، مما أثار غضب المندوب السامي. وعندما تم تأسيس الحكومات المحلية، عين أديب الكايد عضواً في حكومة السلط المحلية، كما عين بعد ذلك عضواً في محكمة الاستئناف بتاريخ 7 شباط 1920، وعندما قام الأمير عبد الله بن الحسين بتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 تم تعيين أديب الكايد ملازماً لمحكمة الاستئناف في 11 حزيران 1921، واستمر بهذا المنصب حتى قرر الاستقالة في بداية شهر نيسان عام 1929 ( سليمان الموسى. وجوه وملامح الجزء الثاني).

ومن الوظائف التي شغلها بعد ذلك دخوله عضواً في المجلس التنفيذي، كما عين مديراً للآثار وذلك خلال فترة حكومة الشيخ عبد الله سراج عام 1932، كما كانت له مشاركات واسعة في عدد من اللجان منها اللجنة الاستشارية للجنسية، والمحكمة الخاصة لقضايا الغزو بين قبائل سوريا والأردن، وممثلاً للحكومة الأردنية في لجنة التحقيق في الغزوات الأردنية النجدية عام 1927، وعضوية مجلس إدارة المصرف الزراعي عام 1933، ولجنة تدقيق الأراضي الأميرية 1929، وقد منحه الأمير عبد الله أمير البلاد وسام الاستقلال عام 1931 لخدماته الجليلة للوطن والقيادة. توفي أديب الكايد اليوسف في الحادي والعشرين من شهر تموز 1935 في عمان وتم تشييع جثمانه في مدينته السلط، وكانت وفاته حدثاً وطنياً محزناً، وقد رثاه المناضل الكبير الأمير شكيب أرسلان من منفاه في جنيف بقصيدة رائعة.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).