أرسل لنا صورة |
الشيخ الفقيه ورجل الدولة أحمد علوي السقاف، يعد حاله تستحق الدراسة والتمحيص، لما شكلته حياته منذ ولادته حتى وفاته من مفاصل مهمة، حتى لتعد سيرته الذاتية وتقلباتها في السياسية والوظيفية وتعدد الأماكن، صورة صادقة التعبير عن مرحلة تاريخية من تاريخ الأمة العربية، اتسمت بالاضطرابات والتحولات الكبرى، وسيادة حالة عدم الاستقرار، الناتجة عن نكث الغرب لعهوده والهجمة الاستعمارية النهمة، التي أتت على طموحات العرب بالحرية والاستقلال، مما فرض عليهم فترة جديدة من النضال العسكري والسياسي لانتزاع هذا الحق، الذي تأخر أكثر من عقدين، فقد عكس أحمد السقاف كل تلك الأحداث الحارة في الحجاز واليمن والعراق وشرق الأردن، في تقلبات عايشها يومياً، جاعلة منه رجل المرحلة القلقة، التي نتج عنها بفضل قيادات ورجالات الأمة الأوفياء حالة الاستقرار والازدهار التي نحياها اليوم.
شكل الحجاز الذي أصبح مركز الثقل السياسي العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الفضاء الرحب الذي ولد ونشأ به السقاف، طالاً من خلاله على ما يجرى في المنطقة من أحداث، ناهلاً من علم كبار العلماء في مكة المكرمة، فهذه المدينة العتيقة التي تهوي إليها قلوب المسلمين من كل فج عظيم، كانت مسقط رأسه حيث ولد فيها عام 1881، وقد تولاه والده العالم والفقيه علوي أحمد السقاف، فرباه على مكارم الأخلاق، والمبادئ الإسلامية السمحة، حيث كان والده الهاشمي النسب قد تولى نقابة السادة العلويين في مكة المكرمة، هو واحد من أهم العلماء في مكة وفقيهاً ومفتياً في المذهب الشافعي، وتذكر بعض الروايات أن نسب السقاف يعود في جذوره إلى جعفر الصادق الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقد ترك والده عدداً من المؤلفات التي تعد من أمهات الكتب، في العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، التي نظم كثير منها شعراً.
تلقى أحمد السقاف دروسه الأولى على يد والده، فبدأ بحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، فما أن بلغ العاشرة حتى حفظ القرآن كاملاً، وبعدها أخذ يحفظ معارف في العلوم نظمها والده شعراً، وقد وصل عدد أبياتها إلى أربعة آلاف بيت حفظها عن ظهر قلب، ودرس شروحها، وتعلم على يد عدد من كبار علماء مكة المكرمة، فتمكن من تحصيل معارف عديدة وتعمق بعلوم كثيرة، حتى تحول بفضل ما تلقاه من علم واسع، وما تمتع به من ذكاء وفطنة وجمال خلق، أن يصبح أحد العلماء الشباب في ذلك الحين، فحصّل مكانة علمية ليس من اليسير نيلها، لكنه عرف بجديته واجتهاده وحبه للعلم والعلماء منذ صغره، وهو ما صبغ مراحل حياته التي اتسمت بوقوعها تحت نواتج الاضطرابات والتحولات السياسية في المنطقة برمتها.
لم يكن أحمد السقاف الذي أدرك ما وصل إليه العرب قديماً من مكانة حضارية عالية، وما قدموه للبشرية إرثاً في العلوم والفكر والفن، يرضى بما آل إليه حال العرب تحت حكم الدولة العثمانية، لذا يعد بتوجهاته ومبادراته واحداً من أحرار العرب الشرفاء، وكان من المؤيدين لقيام الثورة العربية الكبرى ضد ظلم الأتراك العثمانيين، فأنضم إلى الثورة منذ فجَّرها الشريف الحسين بن علي عام 1916، وقد عينه قائد الثورة بمنصب رئيس الديوان الخاص به، وأصبح يلقب برئيس الديوان، وهو عمل جعله على صلة مباشر بالشريف الحسين بن علي، ومطلعاً في الوقت نفسه على مجريات الأمور في مسارات الثورة، والأحداث بشكل عام، وقد نهض بأعباء هذا المنصب بكل مقدرة وكفاءة، وعندما تولى الأمير علي بن الحسين عرش الحجاز بعد خروج والده الشريف حسين إلى منفاه في قبرص، استمر أحمد السقاف رئيساً لديوان الملك علي بن الحسين، حتى سقوط مملكة الحجاز عام 1926.
بعد خروج الهاشميين من الحجاز، تم القبض على أحمد السقاف وحكم عليه بالإعدام، نظراً لمكانته العلمية والدينية، استبدل الإعدام بالنفي، فتم نفيه إلى اليمن، وقد بقي في عدن باليمن لفترة من الزمن، بعدها تدخل الملك فيصل بن الحسين ملك العراق، وتوسط له لدى الإنجليز، فسافر من اليمن إلى العراق ملتحقاً بالملك فيصل عام 1932، وقد قربه الملك فيصل، حيث أقام السقاف في العراق حتى العام 1938، عندما غادر العراق متوجهاً إلى الأردن بناءً على طلب الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن، بهدف الإفادة من علمه وخبرته في إدارة البلاد الحديثة، وهو ما حدث بالفعل، فقد تولى مناصب إدارية وسياسية عليا، وكانت له خدمات واسعة خاصة في ميداني القضاء الشرعي والتربية والعليم.
أسند لأحمد السقاف منصب قاضي القضاة لأول مرة عام 1938، في حكومة توفيق أبو الهدى الأولى، حيث كان منصب قاضي القضاة يعين ضمن تشكيلة الحكومة كحقيبة وزارية، وعندما شكل توفيق أبو الهدى حكومته الثانية في العام التالي أعيد تعيينه قاضياً للقضاة بالإضافة لحقيبة وزارة المعارف – التربية والتعليم – واستمرت الحكومة حتى أواخر أيلول 1940، حيث كلف أبو الهدى بتشكيل حكومته الثالثة على التوالي، فاسنتد إلى السقاف منصبي قاضي القضاة ووزير للعدلية – العدل - وقد تواصل وجوده في حكومة توفيق أبو الهدى الرابعة محتفظاً بمنصبيه السابقين حتى استقالة الحكومة في الثامن عشر من أيار 1943، ولكن لم يكن هذا هو نهاية عهده بحكومات توفيق أبو الهدى المتعاقبة، فقد عاد ضمن تشكيلة حكومته الخامسة بمنصبيه السابقين، وعندما أجري تعديل وزاري على هذه الحكومة، أسند إليه بالإضافة إلى قاضي القضاة حقيبة المعارف بدل حقيبة العدلية، حتى استقالت الحكومة في الرابع عشر من تشرين الأول عام 1944.( سلطان الشياب. رؤساء الديوان الملكي الهاشمي).
بعد خروجه من الحكومة، حيث تواصل وجوده في خمس حكومات متواصلة، لم يبخل خلالها بشيء من علمه وخبراته العملية، أنتقل إلى عمل آخر ومسؤولية أخرى، فقد عينة الأمير عبد الله بن الحسين مؤسس إمارة شرق الأردن رئيساً للديوان الأميري، وذلك بعد استقالة هاشم خير في منتصف شهر تشرين الأول 1944، واستطاع أحمد السقاف أن يضع بصمته الخاصة على العمل داخل الديوان الأميري، حيث أولى تنظيم العمل وتوثيقه عناية خاصة، كشفت فهماً ودراية بأهمية وطبيعة عمله في هذا المنصب المهم، وقد أهله ذلك ليستمر في مهام منصبه هذا فترة طويلة نسبياً بالنسبة للأحوال في تلك الفترة، حيث احتفظ بمنصب رئيس الديوان الأميري الرابع من شباط 1947.
باستقالته من رئاسة الديوان الأميري، غادر أحمد السقاف ميدان المناصب الحكومية، وزهد في هذا الجانب، بعد أن أدى ما عليه، فأخلص الولاء وأبدع في العمل وتميز فيه، حتى تمكن من نيل حب الناس من مختلف الفئات، وحظي بثقة القائد والمسؤولين، وكان معروفاً بورعه وتقواه وتواضعه العميق، وقد حافظ على نهجه هذا طوال حياته، وقد أحب الأردن حباً كبيراً، ولم يفكر في مغادرته في يوم من الأيام، حتى بعد استقالته من منصب رئيس الديوان، فقد عمل منذ شبابه من أجل الأمة العربية، ولم يتخل عن مبادئه ولم يساوم على توجهاته، وكان دائماً مستعداً لدفع ثمن مواقفه مهما ارتفع الثمن، وقد عاش في عمان حياة هادئة حتى وفاته في الثالث والعشرين عام 1959، وتكريماً له ولمكانته الكبيرة دفن في المقابر الملكية، وقد حمل ابنه هاشم السقاف راية العمل والولاء من بعده، وشغل مناصب عديدة منها رئيس التشريفات الملكية والأمين الأول للملك عبد الله الأول، ومناصب وزارية بعد ذلك.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|