أحمد المحايري .. طبيب مؤسس ومبادر جاد

رافق تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921، بذل جهود خاصة من أجل استقطاب الكفاءات من الأقطار العربية المجاورة، فقد كانت الديار الأردنية أكثر المناطق العربية التي عانت من نتائج إهمال الدولة العثمانية، للبلاد العربية الخاضعة لسيطرتها طيلة قرون أربعة، فلا وجود لمدارس ثانوية ولا معاهد علمية وبالتأكيد لا وجود لجامعات، فكان من نتيجة ذلك أن عانت البلاد من تدن ملحوظ في التعليم الثانوي، وندرة عدد من حصلوا تعليماً جامعياً من أبناء المنطقة، وقد أثر ذلك بشكل واضح على تراجع البلاد وتعثر التنمية الحقيقية والشاملة فيها.

كان على مؤسسات الدولة الناشئة أن تعتمد على القلة من أبناء الوطن الذي حصلوا على تعليم متوسط في مدارس القدس ودمشق، وخريجي مدرسة السلط الثانوية فيما بعد، وكان على الدولة السعي لاستقطاب الكفاءات اللازمة للسير قدماً في بناء ركائز التنمية، وتلبيه حاجات الناس للخدمات خاصة في مجالي التعليم والصحة لأهميتهما وتماسهما المباشر مع حياة الناس اليومية ومستقبل البلاد.

تعد التخصصات الطبية من أكثر التخصصات ندرة خاصة قبيل التأسيس والعقدين الأوليين اللذين تلا إعلان التأسيس، وهو واقع عانت منه المنطقة العربية برمتها، لكنها أكثر وضوحاً في شرقي الأردن، فسعت الإدارة الأردنية إلى جذب عدد من المختصين في مجالات مختلفة، كما أن كثيرا من هذه الكفاءات وفدت إلى الأردن برغبتها، من أجل العمل والإقامة، مستفيدة من الوضع المستقر في البلاد، بعكس ما يحيط بها من بلدان تعاني من اضطرابات سياسية وعسكرية ناتجة عن الاستعمار الغربي، وقد شجعت هذه الأحوال على قدوم ثوار ومناضلين، وأصحاب اختصاصات نادرة إلى شرق الأردن، وكان من بين هؤلاء الطبيب المعروف أحمد المحايري، الذي كانت له بصمات واضحة في مجال الطب خاصة في شمالي الأردن.

ولد الطبيب أحمد محمد المحايري في مدينة دمشق العريقة في أواخر القرن التاسع عشر، تحديداً في عام 1898، وكانت دمشق عندها واحدة من أنشط الحواضر العربية القابعة تحت السيطرة العثمانية، وكانت عاصمة ولاية الشام الممتدة حتى أطراف الحجاز جنوباً حتى تركيا شمالاً، ومن تخوم العراق شرقاً إلى إطلالة على البحر الأبيض المتوسط، فكثرت فيها المدارس مقارنة بغيرها من حواضر الولاية.

نشأ أحمد المحايري في دمشق وتشبع بالروح الوطنية التي سادت في تلك الفترة، فقد درس في مدارسها وجال بخطاه حاراتها القديمة، وتمكن من إنهاء دراسة المرحلتين الابتدائية والثانوية، وكان من الطلبة المتفوقين حيث لفت الانتباه بذكائه وفطنته وسرعته في التعلم، مما سهل عليه خوض غمار مرحلة دراسية أكثر صعوبة، فقد كان التفوق عنده حالة راسخة وسمت جميع مراحل حياته المختلفة.

بعد حصوله على الثانوية العامة، قاده تفوقه ليلتحق بالمعهد الطبي العربي في دمشق.

كان هذا المعهد المتخصص من المراكز العلمية النادرة في المنطقة بتلك الفترة، وتمكن من خلال مواظبته واجتهاده من الحصول على شهادة الدبلوما في الطب العام في شهر تشرين عام 1921، أي في العام نفسه الذي أسس فيه الأمير عبد الله بن الحسين إمارة شرق الأردن، وبعد تخرجه مباشرة انتقل من دمشق إلى الحجاز وأقام في مكة المكرمة، حيث عين طبيباً خاصاً لولي عهد ملك الحجاز الشريف الحسين بن علي الأمير علي بن الحسين، وكان ذلك في الحادي والعشرين من شهر كانون الأول عام 1921، وحيث لازم الأسرة الهاشمية في الحجاز حتى أواخر عام 1922، حيث غادر باتجاه شرق الأردن، التي استقطبت عدداً كبيراً من العرب المقيمين في الحجاز، بالإضافة لمجموعة من الحجازيين الذين لحقوا بالأمير عبد الله بن الحسين.

لدى وصله إلى الأردن استقر الطبيب أحمد المحايري في مدينة اربد، وكانت البلاد بحاجة لعدد كبير من الأطباء، فتم تعيينه طبيباً في عجلون ومنطقة الكورة في شمالي الأردن، وكان يتحرك في منطقة واسعة من خلال مركز عمله هذا، فتعرف على عدد كبير من الناس، وأحب الأردن طبيعة وأهلاً وقيادة، وفي عام 1926 عين طبيباً حكومياً في اربد في الأول من آذار عام 1925، وقد مارس عمله بنشاط كبير وبمهنية عالية، لكنه قرر تقديم استقالته في الثامن عشر من حزيران 1926، ليتفرغ لعمل طبي كبير حيث كرس وقته للعمل على مكافحة بعض الأمراض الوبائية، خاصة مرضي الملاريا والتراخوما، وكان هذان المرضان منتشران في شمالي الأردن في تلك الفترة، لذا بقي متحركاً في المنطقة الممتدة بين اربد وعجلون، يقوم خلالها بعلاج هؤلاء المرضى وتوعيتهم للوقاية من هذه الأمراض.

حصل الطبيب أحمد المحايري على الجنسية الأردنية بتاريخ 30/3/1930، وقد جاء ذلك بموجب قانون الجنسية النافذ، وفي سياق استقطاب الخبرات والكفاءات العربية، التي كان لها أثر كبير في العمل وتطوير الخدمات في المؤسسات بمختلف المجالات، وكان رغم انشغالاته المتعددة مخلصاً لمهنته النبيلة، فقد عمل على افتتاح عيادته الخاصة في مدينة اربد عام 1926، وتقع العيادة على تل اربد مقابل دار البلدية، على مقربة من الوسط التجاري للمدينة الذي يعبره شارع الهاشمي من الغرب إلى الشرق، وتعد عيادته من أوائل العيادات الطبية الخاصة في اربد، لذا هو من الأطباء الذين كانت لهم جهود تأسيسية واضحة في قطاع الصحة في الأردن، في فترة عانت فيها البلاد من ضعف الإمكانيات، وعدم توفر البنية التحتية المناسبة، فكان يعمل الأطباء في ظروف صعبة.

كان للطبيب المحايري نشاط وطني وسياسي، وعرف بميوله الإسلامية التي تأطرت بانضمامه لحركة الأخوان المسلمين في أربعينيات القرن الماضي، وقد أصبح رئيساً لشعبة الأخوان المسلمين في اربد في أواخر الخمسينيات من القرن نفسه، وهذا يؤكد نهجه في الحياة، حيث جمع بين العمل كطبيب وسياسي ومزارع كبير ومستثمر واعٍ، فهو دائم الحركة والنشاط، ثابت على مبادئه التي نشأ وشب عليها، وتمتع بالمحبة والتقدير من كل من عرفه أو تعامل معه. فقد عمل طبيباً لدى بلدية اربد بناءً على طلب من رئيس البلدية في خمسينيات القرن الماضي، وعمل خلال هذه الفترة على تنظيم الأمور الصحية في المدينة، وخاصة ما يتعلق بسلامة الغذاء، ومراقبة المحال والمطاعم لمراعاة الشروط الصحية المطلوبة، استقال المحايري من عمله في البلدية، ليتفرغ لمرضى عيادته التي شهدت ازدهاراً كبيراً، حيث كان يتقاضى أجوراً رمزية، وأحياناً يعالج المحتاجين مجاناً، مما قربه من الناس وحببهم فيه.

تميز أحمد المحايري بأنشطته الزراعية الكبيرة، فقد قام باستصلاح وزراعة ما يقرب من ألف دنم من الأرضي في منطقة الأغوار الشمالية، كان يزرع فيها الموز والحمضيات، حيث أحب الأرض وعشق الزراعة التي رأى فيها مستقبل الأمة وضمانة التنمية في البلاد.

اشتهر الطبيب المحايري ببناء البيوت على الطراز الشامي التراثي، وهي بيوت مبنية من الحجر ومكونة من طابقين وبفسحة داخلية جميلة، وقد عمّر هذا البيت عام 1923 الذي يطل على حديقة غناء بمساحة دنمين، وقد تم استئجار هذا المبنى فيما بعد من قبل وزارة التربية والتعليم وحولته إلى مدرسة إعدادية للبنات، واستثمر في هذا المجال حيث قام ببناء عشرة بيوت حجرية في موقع حيوي من المدينة، أضفت على اربد طابعاً جمالياً خاصاً، بالإضافة لتشيده لعدد من المخازن والمحال التجارية، التي كان من بينها مكتبة الهلال وهي أول موزع للصحف والمجلات الأردنية والعربية في اربد، مثل صحف الدفاع والجهاد وفلسطين والمنار ورسالة الأردن، وقد أقام عدد من رجالات الحكم المحلي في اربد بالبيوت التي بناها من أمثال: بهجت التلهوني وسعيد الدرة، وثروت التلهوني، وسامي شمس الدين، ونجيب الشريدة، وصبحي الموقت.

أدخل المحايري تقنيات جديدة في الزراعة، واستعمل المضخة لري الأرضي التي استصلحها، ومن أوائل من افتتح موقعاً لقطع حجارة البناء في اربد، وأنشأ الكسارات في الحصن عام 1965، وكان ناشطاً في العمل الخيري من خلال جمعية الهلال الأحمر الأردني وجمعية الملك حسين الخيرية، و بقي عاملاً بنشاط وهمة حتى وفاته في الثالث عشر من شهر آب عام 1967. فكان من المؤسسين الكبار، الذين تركوا أعمالاً مشهودة تذكر بهم وتخلد أسماءهم.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).