عبد الرحيم بدر .. الطبيب الذي عشق الفلك والادب!


لم يكن الطبيب عبد الرحيم بدر، مجرد شاب درس الطب وبرع فيه وحسب، بل كان حالة مميزة، وكينونة فريدة علماً وأدباً ومسلكاً، معلناً انحيازه الراسخ للضعفاء والمهمشين والفقراء، فكرس حياته لمساعدتهم بما تيسر، ولم يمنعه إنكبابه على العلم وانشغاله بتلقي المعرفة، من خوض غمار الأنشطة الثقافية والاجتماعية، وأن ينشط في كثير من المجالات، فقد برز كسياسي متجذر المبادئ، دافع طوال حياته عن القضية الفلسطينية، وظل مخلصاً لها ولأهلها، رغم أن الظروف التي واجهها، دفعته للعمل في أكثر من مكان، والإقامة في أكثر من بلد، وكأنه ذاك النجم المسافر في الفضاء، وعينه على لا تفارق مسقط الرأس ومربى الطفولة، وقد اختار أن يبقى متميزاً في كل ما اهتم به، فهو طبيب ناجح، وفلكي رائد، وأديب مبدع، فترك لنا في كل مجال ما يبقى يذكر به وبما أنجز في العلم والأدب والفن.

كانت مدينة الخليل مثل حاضنة كبيرة، فقد شهدت منذ مطلع القرن العشرين، نشاطاً متزايداً في مختلف المجالات، وكانت تستقطب أبناء القرى والبلدات المجاورة، وتمتعت بصلات تجارية وتعليمية مع القدس ونابلس وغيرها، وقد ولد الطبيب عبد الرحيم بدر في مدينة الخليل وهي تشهد هذا الحراك الناشط، وكان ذلك في عام 1920، حيث نشأ في وسط عائلي محب للعليم، وقد غُرس هذا الشغف في نفس عبد الرحيم منذ صغره، لكنه لم يلتحق بمداس الخليل، كون والده كان يعمل في حكومة الانتداب البريطاني، في غزة وبئر السبع، فدرس المرحلة الابتدائية في مدارس غزة وبئر السبع، وقد شهد له مدرسيه بالذكاء والنبوغ في التحصيل الدراسي، وبعد أن أنهى هذه المرحلة نتفوق، أرسله والده إلى مدينة القدس، من أجل إكمال دراسته فيها، حيث التحق هناك بالكلية العربية، وقد فتحت له القدس آفاق جديدة في المعارف والعلاقات، حيث كان الحراك العلمي والأدبي والسياسي، أوضح ما يكون في القدس، وتمكن من الاطلاع أكثر على الصحف والمجلات، وصار على دراية كافية بما يحيط بفلسطين من مخاطر، ناتجة عن الأطماع الغربية، والمؤامرة البريطانية اليهودية المتمثلة بوعد بلفور.

تمكن عبد الرحيم بدر من الحصول على شهادة المترك الفلسطيني عام 1937، وكان بإمكانه الحصول على وظيفة جيدة حينها، لكنه فضل أن يتابع مسيرته في طلب العلم، فتمكن من السفر إلى القاهرة، ليلتحق هناك بكلية الطب في جامعة القاهرة، وقد وجد نفسه في خضم حالة علمية وفكرية كبيرة، حيث تعد القاهرة إحدى أهم الحواضر العربية، وتوافد إليها المثقفين والسياسيين العرب من كل مكان، وكان له أن تواصل مع الحياة الثقافية والسياسية بشكل كبير، وتمكن من بناء علاقات وطيدة مع أدباء وصحفيين وسياسيين، مما ساعده على تحصيل ثقافة واسعة، وتشييد موقفه المبدئي من القضايا الكبرى، وسحب ذلك على كل نشاطاته وأعماله اليومية، وقد نال شهادة البكالوريوس بالطب والجراحة عام 1945، فبادر بالعودة إلى فلسطين التي كانت تمر بمرحلة بالغة التعقيد، فعمل طبيباً في حكومة الانتداب، غير أن اشتعال المعارك بين العرب واليهود، ووقع النكبة، دفعته إلى الرحيل إلى مدينة أريحا، التي توافد إليها عدد من اللاجئين، وهناك قام بافتتاح عيادة خاصة به، وكان يعالج المرضى الفقراء مجاناً، وكثيراً ما كان يدفع تكاليف الدواء من جيبه، عندما يجد من لا يستطيع دفع ثمن الدواء، وقد ترك هذا العمل الخيّر أثره الطيب بين الناس، فزادت شعبيته واشتهر بينهم بسرعة كبيرة.

انتقل الطبيب عبد الرحيم بدر من أريحا إلى عمّان، وأقام في حي المدينة الرياضية الشهير، وعمل على افتتاح عيادته في مخيم البقعة القريب من عمان، من أجل أن يقوم بما اعتبره واجباً عليه، وهو معالجة الفقراء خاصة من اللاجئين الفلسطينيين، كما كان نهجه في أريحا، وقد كانت عيادته ملاذ الفقراء والمعوزين. وأخذ خلال هذه الفترة يمارس الطبيب والعالم الفلكي عبد الرحيم بدر، نشاطاً سياسياً وفكرياً مناهضاً للاستعمار الغربي، وناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وكان مناضلاً بعلمه وبقلمه أديبه، فقد ظهرت ميوله الأدبية جلية، منذ دراسته الجامعية في القاهرة، حيث أصبح أديباً لا يشق له غبار، فكتب المقالة الصحفية، خاصة في صحيفة الأفق الجديد، كما كتب الشعر الكلاسيكي وبرع فيه، ولم يحب الشعر الحديث رغم احترامه لكتابه، وكانت له إسهامات في القصة القصيرة، وعرف عنه نشاطه الأدبي في مجال النقد، خاصة مقالاته في النقد المسرحي والنقد السينمائي، ونال وسام القدس، وجائزة من دولة الكويت.

لم تقف موهبة عبد الرحيم بدر عند حد، فتميز كفنان تشكيلي وقد أنجز عدداً كبيراً من اللوحات، التي تميزت بالمستوى الفني العالي، وقد لفتت لوحاته الانتباه، وحظيت بالتقدير الكبير، وتمكن من خلال نشاطه وتعدد مواهبه ومواقفه السياسية الثابتة، الحصول على عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، كما كان له نشاطه النقابي الكبير خاصة نقابة الأطباء، أما فيما يتعلق بالنشاط الأدبي، فقد كان من أوائل المنتسبين إلي رابطة الكتاب الأردنيين، حيث تميز عمله في الرابطة بدفاعه عن حقوق الكتّاب وحماية مهنة الكتابة. ( محمد أبو زبيد. الأطباء الكتّاب في الأردن في القرن العشرين ).

تميز عبد الرحيم بدر باهتمامه الخاص بعلم الفلك، وقد درس على نفسه هذا العلم الصعب وبرع فيه، حيث بدأ ولعه بالفلك منذ صغره، فقد انكب على دراسة الكتب ذات الصلة بهذا الموضوع، وتعمق بالنظريات الفلكية بشكل كبير، وعرف بنشاطه في الرصد الفلكي، حتى عد من أبرز راصدي الفلك في العالم العربي، وقد بلغ من المقدرة أن تمكن عام 1960 من صناعة تلسكوباً فلكياً دقيقاً، من قياس ست بوصات، وهو ما ساعده على بناء مرصد فلكي هو الأول من نوعه في الأردن وفي المنطقة، وخصصه لرصد عدد من الظواهر الفلكية بالتعاون مع مؤسسات  فلكية عالمية، كما كتب عدداً من المقالات العلمية في مجلات: العلوم، العربي، البيان، الأفق الجديد، رسالة المعلم وغيرها من المجلات، في حين خصصت له جريدة المنار المقدسية مقالة كل يوم أثنين، وقد مزج فيها بين العلم والأدب.

عمل الطبيب عبد الرحيم بدر، على المساهمة في تأسيس جمعيات، ذات أثر كبير في الحياة العلمية والثقافية في الأردن، ومن هذه الجمعيات: الجمعية الأردنية لتاريخ العلوم، التي أسست عام 1985، وكذلك جمعية هواة الفلك الأردنية، حيث أصبح رئيساً لهذه الجمعية، كما شارك في مؤتمرات وندوات علمية وثقافية عديدة، داخل الأردن وفي الدول العربية، وواظب على التواصل مع جمعيات ومؤسسات الفلك الأوروبية، ونشر عدداً من أبحاثه من خلالها، كما نقل أبرز أبحاثهم وخبراتهم إلى الجمعيات الفلكية العربية، وبذلك لعب دوراً متعدد الفوائد، فكان رائداً في التأسيس والابتكار والإضافة، فقد عين عام 1967 عضواً في اللجنة الأردنية للتعريب والنشر، تقديراً لإسهاماته العديدة.

استقر الطبيب عبد الرحيم بدر في الكويت عدة سنوات، عمل خلالها طبيباً في وزارة الصحة الكويتية، عاد بعدها إلى عمّان ليواصل نشاطاته وإبداعاته المتعددة، وقد أصدر خلال حياته عدداً من الكتب هي: الكون الأحدب 1961، بدائع السماء 1966، دليل السماء والنجوم 1980، المجرات الفلكية 1984، الفلك عند العرب 1986، الشمس والقمر والنجوم 1987، الأنفس الميتة 1989، رصد السماء 1994 ومخطوط « موسوعة أسماء النجوم عند العرب في الفلك القديم والحديث «. استمر الطبيب والأديب والفلكي والفنان عبد الرحيم بدر، غزير العطاء متواصل الإنتاج، حتى وفاته في الثامن والعشرين من شهر آب عام 1994، تاركاً منجزاً أبياً وعلمياً ومؤسسات تتعاظم أهمتها مع مرور الأيام وتعاقب السنوات.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).