الشاعر النبطي سلمان سعيفان الصويص ... شاعر المدينتين



كان شاهداً على مفاصل مهمة من تاريخ المنطقة، وكان لسليقته الشعرية دورها الكبير في التعبير عن مكنوناته وعن المؤثرات الاجتماعية والسياسية التي عايشها وجهاً لوجه، فقد كان ابن المرحلة المتقلبة المليئة بالأحداث والتحولات، واستطاع بفضل ما تمتع به من موهبة حقيقة أصيلة، وبعد نظر وبصيرة عميقة، وما حمله في قلبه من محبة للناس والوطن، استطاع أن يسكن قلوب الناس وأن يعمر في ذاكرتهم ويبقى حاضراً بذكره الطيب، وبشعره الذي كلما تعتق زادت قيمته وارتفع مستواه، وهو ابن البيئة الأردنية الغنية بالتفاصيل، حيث للمكان حضوره القوي في وجدانه وشعرة وحياته، فلقد عنى له المكان الشيء الكثير، ولم يكن تعلقه في المكان إلا شكلاً من أشكال حبه وانتمائه لوطنه، الذي كرس حياته للدفاع عنه بالكلمة والموقف والحب، فكان مثالاً رائعاً للأصالة والشعر وكرم النفس.

الشاعر النبطي سلمان سعيفان الصويص حالة فريدة في شعره وحياته، فقد قسم حياته بين مدينتين: مادبا والفحيص، فكانتا عنده كالجناحين لا يستطيع التحليق بأحدهما دون الآخر، حتى لقب بشاعر المدينتين: مدينة مادبا ومدينة الفحيص، وقد ولد سلمان الصويص في مدينة الفحيص مع دخول القرن العشرين، حيث ولد عام 1902، والبلاد تخضع لأسوأ فترات الحكم العثماني. وينتمي الشاعر سلمان إلى عشيرة الصويص – الصويصات – وهي عشيرة مسيحية من العشائر المعروفة في الفحيص، حيث تذكر المصادر التاريخية أن أصل العشيرة يرجع إلى اليمن، حيث هاجروا بعد انهيار سد مأرب إلى بصرى الشام، ثم استقروا في منطقة القسطل الأردنية، وقد اسلم بعض أفراد العشيرة مثل ابن جرار، وقد سكنوا الدير قرب الفحيص، بعدها انتقلوا إلى السلط، لفترة من الزمن، بعد معركة حامية مع أحد أمراء الإقطاع في العهد العثماني، غير أنه عاد كثير منهم إلى الفحيص وأقاموا فيها بعد استتباب الحال فيها.

كان والد شاعرنا ،الشيخ سعيفان الصويص، ويعد أحد وجهاء عشيرته، وفي شبابه هاجر إلى قرية « نامر « في حوران، ويعد سكان هذه القرية على صلة قرابة بعيدة بعشيرة الصويصات، حيث عمل عندهم وتزوج إحدى بناتهم وهي فتاة عرفت بجمالها ونبل أخلاقها، لكنه عاد بعد ذلك بفترة إلى مسقط رأسه الفحيص مع زوجته، وأنجبا سلمان وزيدان ومزيد، وكلهم قالوا الشعر وأحبوه، حتى مزيد الذي هاجر إلى تشيلي في ثلاثينيات القرن الماضي، بقي محباً للشعر وناظماً له رغم نجاحه كرجل أعمال كبير في المهجر، وقد اضطر والده أن ينتقل بالعائلة إلى مدينة مادبا في أعقاب الهجوم الكبير الذي شنه عسكر الأتراك على الفحيص عام 1918، الذي دفع غالبية أهالي الفحيص اللجوء إلى القدس، وقد بقوا هناك ستة أشهر حتى خرج الأتراك من البلاد، بعد انتصار الثورة العربية الكبرى، وخلال إقامة العائلة في مادبا تزوجت شقيقة الشاعر سلمان « حنة « من سلامة الجميعان وتزوجت « نصرة « من سلمان المطالقة، وقد يكون زواج شقيقتيه في مادبا السبب الرئيسي ليختار الشاب سلمان سعيفان الإقامة في مادبا، فقد عاد والده وباقي أفراد العائلة إلى الفحيص بعد عقد من الإقامة في مادبا.

لقد تمكن الشاعر سلمان الصويص من الدراسة في مدرسة السلط إلى الصف الرابع الابتدائي، وقد حال اضطراب الأوضاع وانتقال العائلة إلى مادبا من إكماله لدراسته، لكنه تعلم على نفسه واعتبر الحياة جامعته التي نهل منها معارفه وخبراته الكبيرة، وقد طابت له الإقامة في مادبا على مقربة من أختيه، وقد شهدت المدينة نشاطاً وازدهاراً كبيرين، خاصة بعد تأسيس إمارة شرق الأردن، حيث ازدهرت الزراعة والتجارة وتربية المواشي، وكانت لها علاقات تجارية مع مدن فلسطينية ومع دمشق، وقد شجعت هذه الأحوال المزدهرة سلمان سعيفان الصويص على افتتاح متجره في مادبا، الذي ما لبث أن تحول إلى ملتقىً للأصدقاء ومحبي الشعر وكأنما أصبح صالوناً أدبياً شعبياً، وقد نمت تجارته في حي « الكرادشة « في مادبا، وقام بشراء أرضاً شمال المدينة، وعمل على بناء بيت خاصه به، وهو البيت الذي أقام به الفترة الباقية من إقامته في مادبا التي وصلت إلى نصف قرن ( د. صالح الحمارنة. ديوان العلالي ).

لقد تزوج سلمان الصويص في مادبا، وكانت مسقط رأس كل أبنائه وبناته، حيث تعلق جميع أفراد عائلته بهذه المدينة الرائعة، وقد وصفها ابنه عادل وعلاقتها بشعر والده بقوله: «لم تغب مادبا منذ بدايات القرن المنصرم عن حضورها الفاعل على المسرح الاجتماعي والثقافي والسياسي الأردني، فكانت لمادبا نكهة خاصة، جمعت بين عبق البداوة والفروسية والفكر السياسي والديني. وهذا ما ظهر في أشعاره «. وقد نال سلمان تقدير واحترام أهالي مادبا مما زج به في دائرة الحدث، فقد زرع في نفسه حب مادبا وارتبط بها منذ وصلها في شبابه الباكر، حتى صار يستقي من ما يجري في مادبا موضوعات شعره، وقد عدت قصائده سجلاً للأحداث المهمة في مادبا منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد وجد نفسه في بؤرة الحدث منذ نظم قصيدة الأولى، التي ألفاها عام 1920، وانتقد فيها فتية من المذهب الأرثوذوكسي ورغبتهم بالتحول إلى المذهب الكاثوليكي مقابل مبلغ من المال، وقد انتشرت هذه القصيدة كالنار في الهشيم، وكانت بوابة لمساجلات شعرية عديدة بينهم وبين مجموعة من شعراء مادبا وغيرها من أمثال الشاعر سالم القنصل والشاعر سلامة الغيشان. كان للمساجلات الشعرية التي برزت في مادبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، الخاصة التي دارت بين سلمان الصويص وسالم القنصل وسلامة الغيشان، دورها الاجتماعي والاقتصادي، وصار لها متابعين داخل مادبا وفي عدد من المدن الأردنية، ومازالت هذه المساجلات حاضرة في الأذهان، ويرددها كبار السن في مناطق مختلفة، وأصبح سلمان من شعراء مادبا المحبوبين، وذاع صيته بسرعة كبيرة، ولم يفكر بمغادرة مادبا التي أقام فيها نصف قرن، غير أن أولاده كبروا واضطرتهم ظروف عملهم الإقامة في عمان، وقامت الحكومة باستملاك بيته في مادبا، وحولته إلى مبنى لمديرية التربية والتعليم، فقرر الشاعر سلمان مغادرة مادبا التي أحب وطاب له المقام فيها، وانتقل إلى جبل الهاشمي في عمان، حيث قام بشراء منزل وعمل على افتتاح متجر يبيع فيه أصناف عديدة من ضمنها « الدخان الهيشي «.

لم يتقبل الشاعر سلمان العيش في عمان، ولم ترق له الحياة فيها فقرر تركها والعودة إلى مسقط رأسه الفحيص، وبذلك عاد إلى مدينته الجميلة الفحيص عام 1975 بعد غياب دام خمسين عاماً، وإن كانت صلته فيها دائمة لم تنقطع يوماً فأهله وأشقاؤه فيها، وقد اتخذ من منزل كبير بناه ولده عادل في بستان العائلة في منطقة الحمّر المليئة بالأشجار من صنوبر وسرو وبلوط، مسكن له مع ولديه، ويواصل سلمان سعيفان الصويص حياته، فقد بقي على صلة قوية بالناس في مادبا والفحيص، وحاضراً في كل المناسبات الاجتماعية، واستمر في نظم الشعر في المناسبات الوطنية والاجتماعية ومساجلة أصدقائه شعرياً، وقد واكبت عودته إلى الفحيص عودة أخوه الشاعر زيدان بعد تقاعده من دائرة الجمارك وتركه للتجارة في عمان، فعاد الشقيقان إلى مسقط الرأس بعد سنين من الإقامة خارج البلدة.

لقد عرف سلمان الصويص – أبو عادل – بمعرفته الواسعة بالقضاء العشائري، فأصبح مرجعاً لكثير من الأهالي في القضاء العشائري وفي كثير من القضايا الأخرى، فكان يقوم بفض النزاعات وحل المشاكل التي تعرض عليه وإصلاح ذات البين، مما زاد في محبتهم له وتقديرهم لدوره ومكانته، فكان رأيه مقدراً ويثقون في حكمه في كثير من الأمور والقضايا، وقد تقدم به العمر فغلب على شعره الحكمة الاجتماعية، وزاد تعلقه بأسرته وأخوته، وكان دائم القلق عليهم يتابع أخبارهم ويتألم لأقل مكروه يصيبهم، وقد ألم به حزن شديد لوفاة زوجته ورفيقة دربه عام 1995، ولم يرغب بالعيش بعدها، فزهد بكل شيء، ولزم بيته حتى وفاته عام 2003، وقد تجاوز عمره المائة سنة، ورغم عمره الطويل بقي متمتعاً بصحة جيدة وذاكرة متوقدة، وقد حزنت بفقده مدينتي مادبا والفحيص، وبقي جسر التواصل الذي لا ينقطع وصله أبداً.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).