محمد أمين شريم

محمد أمين شريم

يفاجأ المتأمل للتاريخ  الاجتماعي - الاقتصادي للأردن منذ التأسيس،  بحجم الحراك وجرأته، وقدرته على بناء واحدة من أكثر اقتصاديات المنطقة استقراراً ونمواً، ولم يكن هذا وليد صدفة، أو نتيجة لاستثمارات خارجية، إنما كان صنيعة رجال عصاميين، تميزوا بالذكاء والمصداقية.

 وعدا عن موقع الأردن الجغرافي، وعلاقاته العضوية مع البلدان المحيطة، وما تمتع به من استقرار وسط اضطرابات سياسية واقتصادية، لذا كان رجال الاقتصاد بناة حقيقيون، لا يقل دورهم عن نشامى القوات المسلحة، والمعلمين والساسة الكبار، فكان رجل الاقتصاد والوطني الحقيقي محمد أمين شريم، والذي منحة الأمير عبد الله لقب ( بيك ) لمكانته الاجتماعية والاقتصادية، واحداً من هؤلاء الرواد الذين نهضوا كما نهضت الأردن، مستندين إلى انتمائهم للوطن والأمة، فقد خرجوا من رحم المعاناة والظروف الصعبة، ليكون الأردن برجاله معجزة حقيقية، صيغت من أماني وجهود الكبار، وبهممهم التي لا تقف عند حدود الإمكانيات المتاحة.

ينتمي ابن السلط محمد أمين، إلى عشيرة شريم، التي تعود إلى فخذ من فضيل وهو بطن من بطون عبده من قبيلة شمر القحطانية، وهناك قرية في اليمن باسم شريم وعلى الأغلب فأن آل شريم قدموا منها، ويوجد في لبنان عشيرة مسيحية باسم شريم، ويعتقد أنهم يعودون للأصل نفسه، وهذا ما أورده دولة عبد الرؤف الروابدة، في كتابه ( معجم القبائل الأردنية )، وقد لعب أفراد هذه العشيرة، دوراً بارزاً في الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية في شرق الأردن، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث كان للحاج أمين شريم مكانة مشهودة في مدينة السلط، وقد أصبح ولديه محمود وأحمد من مخاتير المدينة، وهما شقيقي محمد أمين شريم، مما يؤكد على مكانة هذه العشيرة في تلك الفترة المتقدمة.

ارتبطت ولادة محمد   شريم، بإرهاصات المرحلة التي فتحت المنطقة للتحولات القومية والوطنية الكبرى، وما نتج عنها من حراك سياسي ونضالي، مازال حاراً حتى اليوم، فقد ولد عام 1890 في مدينة السلط حاضرة البلقاء، وهو الابن الأكبر للحاج أمين شريم، ولا شك أن الابن نهل من معين والده الشيء الكثير، ورافقه في صغره إلى المضافات السلطية، التي كانت تضم أعيان ووجهاء المنطقة، ورجال السياسة وكبار التجار، لذا نشأ محمد أمين شريم على حب مدينة السلط، التي جال في أزقتها وحاراتها، وتفتح وعيه في مضافاتها ومدارسها، فقد بدأ دراسته في الكتّاب ومن ثم أتيحت له الفرصة للدراسة في مدرسة السلط الابتدائية، فكان تلميذاً مجتهداً ونجيباً. وبعد أن أكمل دراسته في السلط سافر إلى اسطنبول – الأستانة - عاصمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تفرض سيطرتها على المنطقة.

في اسطنبول التحق  « شريم» بكلية الأستانة الحربية، ودرس فيها العلوم العسكرية، وبعد تخرجه أصبح بطبيعة الحال ضابطاً في الجيش العثماني برتبة ملازم، وكان من حسن حظ الشباب في السلط ووسط الأردن، أن يكون موقع عمله كضابط في الجيش العثماني، في معسكر الجيش قرب مدينة السلط، فقد غالت سياسة جماعة الاتحاد والترقي، في تمييزها ضد العرب وفرض التجنيد الإجباري عليهم، دون أسس عادلة، في ما سمي بـ ( سفربرلك )، فالضابط العربي محمد أمين شريم، المعروف بحسه القومي الأصيل، وغيرته الوطنية العالية، كان يعمل على تحذير شباب العرب، من خلال تسريب قوائم بأسماء المطلوبين للخدمة العسكرية، ومواعيد حملات التفتيش والدهم، التي يقوم بها الأتراك للقبض على الشباب، وإرسالهم إلى جبهات القتال الملتهبة، في البلقان وروسيا والسويس، و من ناحية أخرى قام بإمداد أهل المنطقة بالمواد الغذائية الأساسية، كالقمح والعدس والشعير، عندما شحت وجاع الناس، وكان يهرب هذه المواد من المعسكر إلى دير اللاتين في السلط، لتوزع سراً بعد ذلك على الناس، وقد نجح في هذا الأمر حتى تنبه له الأتراك، فكشفوا أمره والقوا القبض عليه، وحكموا عليه بالسجن.

وفي الجانب الوطني، تعرض محمد أمين شريم لمعاملة قاسية في سجنه لدى الأتراك، حيث عرفت هذه الفترة بتنكيلهم بأحرار العرب، حيث أصبح محمد شريم واحداً منهم، منذ تطلعاته الأولى تلقي العلم والمعرفة في مدرسة السلط، وقد وصل حقدهم عليه، نظراً لأعماله الوطنية التي أثارت غضبهم وسخطهم، لدرجة أنهم منعوه من المشاركة في تشييع جثمان والده، الذي توفي وهو في السجن، ولولا تدخل عدد كبير من رجالات السلط والبلقاء، بقوة لدى الحاكم التركي، الذي سمح له لساعات محدودة، وتحت حراسة عسكرية مشددة، حيث حضر مراسم الدفن، وأعيد بعدها مباشرة إلى السجن، وكان العرب خلال هذه المرحلة، يحققون الانتصارات في معارك الثورة العربية الكبرى، التي أعلن انطلاقها قائدها الشريف الحسين بن علي، وتقدمت جيوش الثورة شمالاً، مجبرة القوات التركية على مغادرة المنطقة بعد حكم دام أربعة قرون.

بعد خروجه من السجن، لم يكن أمامه الكثير ليستند عليه، فبادر للمعمل في الزراعة والتجارة، فلقد أحب الأرض وأرتبط بها، لذا قرر أن يبدأ حياته المدنية من هذه القاعدة الراسخة، ولما تميز به من ذكاء وقدرات إدارية ناجحة، طورت نشاطاته الزراعية، حيث أضاف إليها نشاط تجاري بدأه في مدينة السلط، التي كانت ناشطة في تلك المرحلة. أما على الصعيد السياسي فلم يتخل عن دوره النضالي القومي، الذي بدأه خلال خدمته العسكرية، فقد لعب دوراً على صعيد المنطقة، فكان من بين رجالات الأردن الذين ساهموا في الحراك العربي التحرري، وساندوا الثورة السورية، ونضالها ضد المستعمر الفرنسي، وتحرك لمواجهة البريطانيين واليهود الصهاينة في فلسطين، لذا فقد تم في أواخر شهر تشرين الثاني عام 1919 تشكيل وفد خاص يمثل الأردن، مؤلف من: عبد العزيز الكايد العتوم من سوف، ومحمد أمين شريم من السلط، وأحمد العبد الله أبو جملة من أم جوزة من السلط، وسالم أبو الغنم من مادبا، وكريم النهار البخيت عن عباد، وكانت مهمة الوفد الالتقاء والتباحث والتشاور مع رجالات الحركة الوطنية في سوريا، لمقاومة تقسيم بلاد الشام حسب اتفاقية لويد – كلمنصو، ولتوفير الدعم للحركة الوطنية في سوريا، منضمين لما سمي بالنادي العربي، الذي يعد ملتقى أحرار العرب ، د. محمد خريسات - الأردنيون والقضايا القومية والوطنية .

أما في مجال الاقتصاد فأدرك بحسه المستقبلي العالي، أن الدولة الأردنية الناشئة تتجه نحو حراك تجاري غير مسبوق، وبعد اختيار عمان عاصمة لإمارة شرق الأردن، وما رافق ذلك من نمو متواصل وسريع لهذه المدينة الصغيرة، قاده حسن توقعه لنقل تجارته إلى عمان، ليكون مشاركاً في تشييد البنية الاقتصادية للأردن الحديث، والتي تشكل عمان قلبها النابض بالحياة، وسرعان ما تقدم في تجارته، ولمع اسمه كواحد من التجار الناشطين، حيث واصل تطوير وتوسعة تجارته، بجهوده الذاتية وخبراته التي طورها خلال فترة قصيرة، فأصبح وكيلاً لسيارات شيفروليه وسيارات وكرايزلر وكذلك سيارات فورد. ( زياد أبو غنيمة. الدستور ) وكانت هذه خطوة واسعة وكبيرة، رسخته كاقتصادي كبير، واشتملت تجارته على قطع الغيار ومواد البناء والمواد الزراعية.

تمكن محمد أمين شريم من توثيق صلاته بين التجار، وتميز بمصداقيته العالية، مما مكنه من بناء مكانة مرموقة داخل غرفة تجارة عمان، حيث تشير سجلاتها التصنيفية، أنه كان مسجل في الدرجة الثانية، حيث بلغ رأس ماله خمسة آلاف جنيه، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، لكنه بفضل جهده ومثابرته الناجحة، تمكن من الانتقال إلى عضوية الدرجة الأولى، فقد رفع رأس ماله إلى عشرين ألف جنيه، كما يبين الكتاب الذهبي للغرفة التجارية، أنه أصبح نائباً لرئيس الغرفة التجارية عام 1926، وفي الدورة التالية أنتخب رئيساً لها عام 1928، وكذالك ترأس الغرفة التجارية في دورة عام 1935، وكان معتمداً لشركة البترول العراقية، كما أسند إليه منصب نائب رئيس بلدية عمان. وعمل محمد شريم على تشييد عمارة في وسط البلد على الشارع الرئيسي، كانت تضم سكنه والمحال التجارية التابعة له، وقد عرفت الدخلة المحاذية لعمارته بدخلة شريم، وقد ضمت العمارة في مرحلة من المراحل، أول وزارة للتربية والتعليم في عهد الإمارة، تحت اسم دائرة المعارف، كما بنى سوقاً تجارياً   في وسط البلد عند منتصف شارع فيصل، وهو شكل مصغر لما يطلق عليه اليوم ( مول ).

 وعرف بنشاطاته الاجتماعية التطوعية، ودعمه السخي لأنشطة فنية ورياضية، حيث وثقت مجلة ( الحكمة ) العرض المسرحي ( فتح الأندلس ) الذي قدمه فنانين شباب في الجمعية الخيرية الأردنية، التي كان رئيسها محمد شريم، وقد حضر العرض الملك فيصل الأول ملك العراق، والأمير عبد الله الأول أمير شرق الأردن، وخصص ريع المسرحية دعماً لأنشطة الجمعية. 

تعرض محمد أمين شريم لحادث سير مؤسف، على طريق وادي شعيب، عندما كان بطريقه إلى القدس، حيث اصطدمت سيارته بمركبة شحن، فنقل على إثره إلى المستشفى الإنجليزي في السلط، لكنه توفي في الحادي عشر من شهر حزيران عام 1940، فرحل باكراً وبشكل مباغت، مما جعل من خبر وفاته يسقط كالصاعقة على كل من تعامل معه وأحبه، وقد شيع جثمانه في موكب مهيب، شارك فيه كبار شخصيات وأعيان الأردن، حيث وري الثرى في مسقط رأسه مدينة السلط، في مقبرة العيزرية في واد الكراد، وقد قدم الأمير عبد الله الأول تعازيه الحارة إلى آل شريم من خلال برقية ما زالت محفوظة حتى اليوم.  
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).