مصطفى وهبي التل « عرار » ... شاعر الأردن الأول

الشاعر مصطفى وهبي التل
يعد الحديث عن مصطفى وهبي التل"عرار"هو حديث عن جيل الرعيل الأول من الأدباء والشعراء الذين عرفوا بقدرتهم على إيقاظ مشاعر من يقرأ لهم ، فهو واحد من الشعراء الذين لم ينالوا كامل حقهم من الدراسة والتقويم والاهتمام. فهو يعتبر ثورة حقيقية استهدفت رقي الإنسان وتحقيق العدالة للجميع دون تفريق والالتزام بقضايا الوطن والمواطن.

ولد مصطفى وهبي التل"عرار"في مدينة إربد يوم السادس من محرم عام 1315 هـ الموافق ليوم 25 أيار 1897 وتوفي فيها عام 1949 ، أي أنه عاصر النصف الأول من القرن العشرين ، وأسمه مصطفى صالح المصطفى اليوسف التل وأضيفت له كلمة"وهبي"فيما بعد لأنها طريقة كانت سائدة عند العائلات التركية أيام حكم السلاطين ، وكلمة وهبي إشارة إلى الموهبة الفكرية والثقافية والشعرية ، أما"عرار"فهو الاسم المستعار الذي اختاره الشاعر لنفسه حيث كان يوقع به أشعاره ومقالاته في الصحف والمجلات وذلك تيمناً"بعرار بن عمرو شأس الأسدي"وقد كان والده صالح المصطفى التل من مشايخ ووجهاء عائلة التل في إربد وكان أحد المثقفين الذين كانوا يقرضون الشعر الشعبي"الزجل"وكان لعائلة التل مكانة اجتماعية بين عائلات شرقي الأردن.

ومما يجدر ذكره أن الشاعر سمي مصطفى تيمناً باسم جده ، كان عرار من حيث ملامح صورته الخارجية صاحب قامة طويلة ووجه طويل أسمر وفم مذموم دائماً ويدين وساقين تكاد تتجرد إلاّ من العظام مطبقة رقيقة من الجلد ، وقد أثر والده"صالح التل"في شخصية شاعرنا ، فوالده تعلم في مدرسة إربد الابتدائية ثلاث سنوات ونال الشهادة الابتدائية وحفظ القرآن ثم سافر إلى دمشق والتحق بمدرسة عنبر حيث قضى فيها خمس سنوات ونال الشهادة الإعدادية وعين معلماً في مدرسة معان ، وبعد عام نقل معلماً مسؤولاً إلى مدرسة إربد وفي خلال عمله استحدثت ناحية الكورة "لواء عجلون" فعين مديراً لهذه الناحية وانتقل إلى دير أبي سعيد ، وبعد فترة نقل مديراً لناحية الجولان "سورية" وغيرها من الوظائف ثم زاول المحاماة وعين مستنطقاً لمحكمة إربد ، وعندما وصل الملك عبد الله الأول إلى الأردن عام 1922 عين قاضياً لمحكمة صلح جرش فمدعياً عاماً للسلط فقاضياً لمحكمة صلح مادبا.

ولقد كان والده كثير التنقل من وظيفة إلى أخرى.

أما والدته فهي مريم جابر عرف عنها رهافة الحس وضيق الصدر ، لقد كان لبيئة عرار تأثير واضح فيه في عدة جوانب امتدت إلى حياته وأغلب الصفات التي عرف بها ولا يمكن إهمال عنصر (الوراثة) وأثره في الأديب وأعماله الأدبية والفنية.

تلقى عرار تعليمه الابتدائي في إربد ثم سافر إلى دمشق عام 1912 وواصل تعليمه في مكتب عنبر ثم نفي إلى بيروت وذلك نتيجة للمزاج المسرف في عصبيته وطبيعته الثائرة القلقة التي لا تعرف الاعتدال والوسطية. ولكنه ما لبث أن عاد إلى دمشق مرة أخرى. وفي صيف عام 1916 عاد مصطفى إلى إربد لقضاء العطلة الصيفية فيها وفي أثناء هذه الفترة نشبت خلافات بين مصطفى ووالده مما جعل والده يجحم عن إعادته إلى المدرسة في دمشق ويبقيه في إربد ليعمل في مدرسة كان قد افتتحها والده آنذاك.

وقد تحدث المؤرخ محمود عبيدات قائلاً: بقي مصطفى في إربد في مدرسة والده مضطراً واستمرت خلافاتهما واشتدت فقرر مصطفى أن يترك إربد فغادرها يوم 20 حزيران 1917 بصحبة صديقه محمد صبحي أبو غنيمة قاصدين العاصمة العثمانية استانبول ليدرس مصطفى الحقوق ويحقق أبو غنيمة حلمه بدارسة الهندسة ولكنهما لم يبلغاها إذ استقر به المقام "عربكير" حيث كان عمه علي النيازي التل قائم مقام فيها ولكن إقامته في عربكير جعلته يشعر بمرارة الغربة وبتعاسة الحياة فعاوده الحنين إلى بلدته إربد فنراه يكتب في مذكراته عن يوم عيد: (يا ليت عيّدت في إربد) وفي 3 تشرين الأول 1918 عين مصطفى وكيل معلم في عربكي) ولم يستمر في هذه الوظيفة طويلاً بسبب"اضطرابه وآلامه"كما يقول في مذكراته فاستقال في 9 آذار ,1919

وبعد عودته إلى إربد قضى صيف 1919 وتدخل أصدقاء والده وأقنعوه بضرورة متابعة مصطفى لدراسته ، حيث لم يبق إلاّ سنة واحدة للتخرج. وعاد مصطفى في مطلع العام الدراسي 1919( - )1920 إلى دمشق لإكمال الدراسة ، ولكنه عاد من جديد واشترك في المظاهرات التي كانت قائمة ضد الاستعمار ، فبعثت به الإدارة والوزارة إلى حلب وفيها أتم دراسته الثانوية من المدرسة السلطانية وذلك يوم 15 حزيران 1920 وبعدها غادر إلى إربد.

وفي أواخر عام 1922 عين معلماً للغة العربية بمدرسة إربد الحكومية وفي عام 1923 عين حاكماً إدارياً لبلدة وادي السير بعدها نفي إلى جدة بأمر صادر من رئيس النظار آنذاك حسن خالد باشا ولم يفصل عرار حياته العملية عن حياته الشخصية فخلال الفترة القصيرة التي قضاها حاكماً إدارياً لبلدة وادي السير اختلط بالغجر وكان لهم تأثير على حياته وعلى شعره وفي عام 1925 عين حاكماً لبلدتي الشوبك ووادي موسى ومكث في هذه الوظيفة ما يقرب من العام ونصف العام. عين الشاعر معلماً في مدرسة معان في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1926 براتب قدره عشر ليرات ، ثم عين في 5 تموز - يوليو 1927 مديراً لمدرسة الحصن الابتدائية وفي عام 1930 قدم امتحاناً في القوانين والأنظمة المعمول بها في الأردن فاجتاز الفحص بتفوق ونال شهادة المحاماة وكان قد درس القانون دراسة خاصة معتمداً على نفسه فزاول المحاماة في عمان وإربد دون التفرغ لها. ودرس كذلك فقه القانون ثم ترك القانون بعد فترة قصيرة بسبب اعتقاله ونفيه إلى العقبة حيث قضى في العقبة عدة أشهر ليعود في العام التالي ، 1931 مدرساً في مدرسة إربد الثانوية ، وقد شاع شعره بين الناس لأنه كان يتحسس آلام الشعب وظروفه.

بعد ذلك ترك عرار التدريس ليلتحق بسلك القضاء كرئيساً للكتاب في محكمة إربد عام 1933 وفي خريف العام نفسه عين"مأمور إجراء"في عمان وفي أواخر عام 1937 عين في وظيفة مدع عام أي وكيل نيابة في مدينة السلط ، ثم نقل إلى وظيفة مساعد النائب العام في عمان وقد أتاحت له فترات إقامته في عمان فرصة الاحتكاك بالقصر الأميري فقامت بينه وبين الأمير عبد الله علاقات وطيدة يسودها المرح والدعابة فانتهت هذه العلاقة إلى تعيينه أميناً ثانياً للأمير عام ,1938

انتقل عرار بعد ذلك إلى منطقة البلقاء حيث عين متصرفاً - حاكماً إدارياً - في مدينة السلط فقضى فيها أربعة أشهر كانت نهايته عزله وسجنه وبعد خروجه ترك الوظائف الحكومية وعاد إلى المحاماة التي ظل يعمل فيها إلى أن مات.

لقد كانت حياة عرار سلسلة من التقلبات فقد تنقل بين الوظائف الحكومية والسجن والنفي والمحاماة فحياته كانت حركة دائمة لا تعرف الهدوء أو الاستقرار ، وكان عرار متقناً لعدة لغات كالتركية والفارسية والفرنسية بالإضافة إلى براعته في اللغة العربية.

لقد أمضى عرار حياته بين جماعة الغجر وهام بفتياتهم وكان يفضل معيشتهم وكان يدافع عنهم مطالباً برد اعتبارهم في أوساط المجتمع الأردني وكان يجد عند النور المصدر الرئيسي لإحساساته وينبوعاً لشعره.

وقد ترك عرار عدة أعمال وآثار نثرية وشعرية أهمها: ترجمته النثرية لبعض رباعيات الخيام ورسالته (أصدقائي النور) ومذكراته الشخصية ورسالة (الأئمة من قريش). وديوانه (عشيات وادي اليابس) الذي مات قبل القيام بجمع قصائده على الرغم من إلحاح زملائه وظل ديوانه (أشلاء مبعثرة) هنا في جريدة وهناك في مجلة حتى عام 1954 حيث قام نجله"مريود"بجمع قصائده من الصحف والمجلات.

لقد كان عرار شاعراً ملتزماً بقضايا الوطن والمواطن حدد لنفسه موقفاً إزاء كل ما يحدث حوله وثبت عليه ودافع عنه ويمكن القول أن عرار كان مدرسة أدبية قائمة بحد ذاتها. غنى للمجد وللألم وللحق وللعشق فهو قمة شامخة بين الأدباء والشعراء.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).