محمد أبو تايه الحويطات .. زعيم قبيلة ومناضل أصيل

الشيخ محمد أبو تايه

تحتفظ البادية الأردنية بسجلها الخاص، حيث دونت الأحداث الجسام أسماء رجالات كبار، ورسمت ملامح شيوخ عظام، فأمتد ذكرهم امتداد الرمل، ورسخوا في الذاكرة الشعبية رسوخ الرواسي الشاهقة، فما زالت أحاديث الفرسان، والقصائد المسبوكة التي أرخت لشجاعتهم ووثقت لمنجزهم، تسامر أبناء البادية، وهم يتحلقون حول نار المساء المطعمة بنكهة القهوة العربية، والمحفوفة بأنين ربابة معتقة الأشجان. من بين كل ذلك يبزغ اسم الشيخ والفارس الأصيل محمد عودة أبو تايه، كواحد من رجالات المفاصل المهمة من تاريخ الأردن الحديث، وتاريخ المنطقة العربية، من شمال اليمن وحتى ما بعد مدينة حلب، ومن ضفاف الفورات إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث خاض الشيخ محمد غمار المعارك، وأسهم في سير الأحداث الحاسمة، وكان من جيل البناة الكبار.

ولد الشيخ محمد أبو تايه بين صهوة حصان عربي، وسيف تركت عليه المواجهات الصحراوية والقومية بصماتها الخاصة، فهو سليل المعارك، فقد كان هو والقرن العشرين على موعد مؤكد، حيث ولد عام 1900، كما تجمع الروايات، وكانت الصحراء التي تحرك فيها البدو، حركة الرياح والرمل مسقط رأسه، فقد شكلت منطقة رم وامتدادها حتى الجفر، موطن حراك قبيلة الحويطات الشهيرة، وهى واحدة من أعرق القبائل في الأردن، التي تحركت على مدار عقود بين شمال الجزيرة العربية، وغرب العراق وشرق سوريا، وجنوب فلسطين، فكان لهم دور فاعل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق، حتى نهضت رايات التحرر العربي، مع انطلاق الثورة العربية الكبرى.

نهل الشيخ الفارس محمد أبو تايه من مدرسة والده شيخ مشايخ عودة أبو تايه الحويطات، الذي يعد واحداً من فرسان الثورة العربية الكبرى، وقد ذاع صيته في البوادي العربية، حيث عرف بشدة بأسه، وشجاعته في القتال، وتحقيقه للانتصارات المتلاحقة، سواء في غزواته المتعددة، التي جاب خلالها مع قبيلته مناطق شاسعة، أو من خلال مشاركته المؤثرة في معارك الثورة العربية الكبرى، لذا عمل عودة أبو تايه على تعليم ابنه محمد الفروسية، واستخدام السيف والبندقية منذ صغره، حيث كان يرافق والده في غزواته وحروبه وهو لم يتجاوز سن العاشرة، حيث كان يلازمه في المعارك ويقاتل إلى جانبه، وقد جعلت منه هذه المخاضات محارباً شجاعاً، ومقاتلاً متمرساً منذ طفولته، فبالإضافة لوالده وأعمامه، كان أخواله من عشيرة الرمال من قبيلة شمر، قد تميزوا بالشجاعة والفروسية، وشدة البأس في القتال، ولم يكتف عودة أبو تايه في تربية ابنه، بتعليمه مهارات القتال، والجسارة في مواجهة الموت والمخاطر، بل علمه من خلال الممارسة والمرافقة، صفات شيوخ القبائل، فاكتسب الشيخ محمد بعمر مبكر، صفات الكرم والجود، وإغاثة المحتاج، وتلبية طلبات كل صاحب حاجة، والقيام على مصلحة العشيرة.

تربى الشيخ محمد على مدرسة الحياة، حيث يصبح صبية البدو رجالاً قبل سن البلوغ، عندما يتم إعدادهم للشدائد، وكان قد أخذ عن والده الزعامة والفروسية، واستقى من خلال ملازمته له متطلبات القيادة العشائرية، فكان يستمع للشعراء وحكايات فرسان الصحراء، ويتعلم الشعر وفصاحة اللسان، ويتقن مواجهة مشاكل الناس وحلها، من خلال القضاء العشائري، وإصلاح ذات البين، وقد رافق والده عودة أبو تايه، عند لقاءه للأمير فيصل بن الحسين في منطقة الوجه، وتلمس وهو في تلك السن، حاجة العرب للحرية وبناء مستقبلهم، وقد دفعه إدراكه المبكر والمدهش بالنسبة له، إلى الانضمام لجيش الثورة العربية، وتحت إمرة الأمير فيصل، كغيره من رجالات الحويطات والقبائل الأردنية الأخرى، وقد خاض الشيخ محمد معارك عديدة في الثورة العربية إلى جانب والده، وكان من أبرزها معركة العقبة، التي أسفرت عن تحريرها من قبضة الأتراك، وكان أن اعتبرت نقطة ارتكاز للثورة في انطلاقها نحو الشمال. 

واصل الشيخ محمد خوض المعارك العربية ضد الأتراك، حتى تمكن جيش الثورة من دخول دمشق، وكان المجاهد محمد أبو تايه يعاضد والده وأبناء عمومته، ودخل معهم إلى دمشق، كما كان له دور مشهود مع والده في مساندة سمو الأمير عبد الله الأول بن الحسين، في تأسيس إمارة شرق الأردن بدءا من استقباله في معان، حتى بدء تأسيس مؤسسات الدولة المختلفة، وبسط نفوذها على مناطق الإمارة من شمالها إلى جنوبها، حيث كان والده عودة أبو تايه مقرباً من سمو الأمير، الذي قدر عالياً الدور الذي قاما به في دعم الثورة، ومدها بالرجال وبما تيسر من وسائل الدعم، وجهودهما في مرحلة التأسيس الأولى، والتي أسهمت في التفاف القبائل والعشائر حول سمو الأمير ومؤسسات الدولة الناشئة.

تسلم الشيخ محمد أبو تايه زعامة قبيلة الحويطات، بعد وفاة والده شيخ المشايخ عودة أبو تايه عام 1924، وكان الشيخ الجديد فتياً قد خاض غمار المعارك، ونشأ على الفروسية الحقة، وفطر على الانتماء الوطني ببعده القومي، وقد وضع نفسه وقبيلته في خدمة القيادة، وحماية مقدرات الدولة الحديثة، فقربه أمير البلاد وكان من رجالات تلك المرحلة الذين قدموا النصح والمشورة، وكانوا قلعة من قلاع الوطن الحصينة، وقد زاره سمو الأمير عبد الله في الجفر، وكان على تواصل دائم معه، كما هي عادته مع زعماء وشيوخ ووجهاء العشائر في كل مكان على امتداد رقعة الوطن.

أصبح الشيخ محمد أبو تايه عضواً في مجلس الأعيان منذ تشكيله عام 1946، وقد حافظ على عضوية في مجلس الأعيان منذ هذا التاريخ وحتى وفاته، حيث كان محط الثقة، ورجل دولة من طراز رفيع، حيث كان له حضوره الخاص في مناقشات المجلس، وقد توطدت علقته مع النخب السياسية، وكان معاضداً لمؤسسات الحكم المحلي في محافظته، حيث لجأ إليه الحكام المحليون في حل كثير من القضايا التي تتعلق بمنطقته، وكانت له اسهماته الكبيرة في تنمية وتطوير منطقة الجنوب، وعمل طول حياته على تقديم الخدمات المختلفة لأبناء قبيلته ورعاية شؤونهم، وتحسين وقعهم المعيشي، من خلال مكانته وعلاقاته الطيبة مع المسؤولين في المحافظة أو في العاصمة عمان.

ونتيجة لمكانته وتقديراً لجهوده المتواصلة ولمكانته العشائرية والرسمية، فقد منحه الأمير عبد الله بن الحسين لقب « باشا « في مرحلة الإمارة.   و تمتع الشيخ محمد بسمعة طيبة تجاوزت حدود الوطن، إلى عدد كبير من القبائل العربية في الجزيرة العربية، وجنوب فلسطين وسوريا والعراق، وقد تبادل الزيارات مع زعماء هذه القبائل، ولعب دوراً في الصلح بينها، وإصلاح ذات البين، وكان يقوم بحل كثير من القضايا العشائرية والاجتماعية، دون الحاجة إلى مؤسسات الدولة، من مخافر أو محاكم، وهذا دور أكد على حضوره القوي بين الناس ومحبتهم له.

توفي الشيخ محمد أبو تايه عام 1987، وكان لخبر فقد أثر مدوي في طول البلاد وعرضها، حيث تردد صدى وفاته لدى القبائل العربية المحيطة، فتوافد المعزون من كل حدب وصوب، ونظراً لمكانته وقربه من المغفور له الملك الحسين بن طلال، أمر بدفنه في المقابر الملكية في عمان، وقد أم جلالته بيت العزاء لثلاثة أيام، ولا زال التاريخ يحفظ اسمه كزعيم قبيلة، ورجل دولة ومناضل عربي لم تلن قناته.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).