رغم مرور عدد من السنوات، على وفاة شاعر الأردن الكبير سليمان عويس، فإن صدى أشعاره، ورنة مواويله تتردد في الذاكرة الشعبية، وما زال ذكره الطيب حاضراً بين النخب الثقافية والسياسية، فقد تمكن خلال حياته الحافلة بالعطاء والإبداع الشعري والأدبي، أن يحتل مساحة كبيرة ومرموقة بين شعراء وأدباء الأمة العربية، فهو ابن الأردن البار، المسكون بالقضايا القومية الكبرى، والحامل لهموم الناس البسطاء، والمعبر الأمين عن المعاناة اليومية للمواطن العادي، والمشغول حتى الأرق والتعب بما تتعرض له الأمة العربية من مؤامرات واعتداءات، فكان أردنياً نبيلاً متواضعاً، وعربياً أصيلاً رهن عمره وشعره للدفاع عن وطنه الصغير ووطنه الكبير، الممتد من المحيط إلى الخليج، ولعل مرد ذلك لتنشئته القومية، التي صبغت الأردنيين في مختلف المراحل، بالإضافة إلى انفتاحه على ما يجرى على ساحة الوطن العربي، وتواصله الأدبي والروحي مع بقاع البلاد العربية كافة، ترك بصماته الواضحة في نتاجه الإبداعي، وفي أفكاره ومواقفه الواضحة، التي لم يحابي فيها أحداً.
كان الشاعر سليمان عويس، على موعد مع الطبيعة البكر، والفضاء المتسع والنقي، فقد ولد بين جبال أجمل بلدات الأردن، وأكثرها سحراً وإلهاماً، حيث ولد في بلدة دبين في محافظة جرش العريقة، وكانت ولادته عام 1943م، وتفتحت عيناه منذ اللحظة الأولى على غابت الصنوبر وأشجار السرو وبساتين الزيتون، فكان خياله كعصفور يقفز من غصن إلى آخر، عندما كان عمره يتقدم عاماً بعد عام، فكانت الأرض الأردنية، وسكان القرى الطيبون، هم ملهمه الأول، وأول من ألقى في فؤاده كلمات الشعر، فكانت خطواته الصغيرة، وهو يلهو بين أشجار الغابات، ودروب البساتين، هي خربشاته البكر، وهو يذهب إلى مدرسته يومياً، وقد نشأ كفلاح حقيقي، تعلم مخاطبة ذرات التراب، وفسلات الزيتون، وشتلات البندورة اليانعة، فهو ابن الأرض المخلص، جمع في أعماقه ملامح أهله، وحمل همومهم وأوجاعهم، وكانت هذه مرتكزات حياته، التي لم يتخل عن أي منها في أي مرحلة من المراحل.
لقد تنازعت سليمان عويس منذ شبابه، الرغبة في الدراسة العلمية، والميول والموهبة الأدبية، فعمل على الموازنة بين هاتين الحالتين، فدرس المواد العلمية، وترك لقلمه الغوص في بحور الشعر، والتحليق في عوالم الخيال ولإبداع، وقد أنهى دراسته الثانوية بتفوق، ودفاتره مليئة ببدايات الكتابة التي تنوعت بين المقطوعات الشعرية، والخواطر النثرية والقصص القصيرة، لقد راودته أحلام كبيرة، وكان مقبلاً على الحياة، متوثباً لدخول المستقبل، واكتشاف مجاهل الأيام القادمة، وكان من حبي العلم، الباحثين عن تحصيله أينما كان، وفي سبيل هذه الغاية، سافر إلى جمهورية مصر العربية، في حدود عام 1964، وقد بادر في الالتحاق بجامعة القاهرة، التي تعد من أعرق الجامعات في البلاد العربية، وكانت مصر في تلك الفترة، تشهد حراكاً ثقافياً سياسياً وعسكرياً لافتاً، وقد أتاحت له القاهرة فرصة غنية، للتواصل مع عدد كبير من الكتاب والشعراء العرب، وفي جامعة القاهرة التحق بكلية التجارة، وتخصص بالمحاسبة والتأمين، وكانت الجامعة ميداناً للحراك السياسي القومي، الداعي للوحدة العربية، ومواجهة الخطر الصهيوني، والعمل على تحرير فلسطين، واستقلال الدول العربية، التي كانت حينها تحت الاستعمار الغربي، وقد تشبع سليمان عويس بالروح القومية التي بلغت أوجها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقد شهد خلال وجوده في مصر حرب حزيران عام 1967، وقد قام بواجبه اتجاه أمته وقضيتها الجوهرية، حيث أسهم في المجهود الحربي بنفسه، وعمل على تعبئة عدد من الشباب العرب، لدعم الجبهة المصرية، واستمر ينهض بهذا الدور خلال حرب الاستنزاف، التي خاضتها مصر ضد إسرائيل بُعيد حرب حزيران.
تمكن الشاعر سليمان عويس من إنهاء دراسته الجامعية، عام 1968 حيث نال شهادة البكالوريوس في المحاسبة والتأمين، عاد بعدها إلى الأردن، أحب مكان في الكون إلى نفسه، وبعد أن استقر به الحال في بلده، عمل عويس موظفاً بتخصصه الذي عاد به من جامعة القاهرة، غير أن المبدع فيه نمي بشكل ملحوظ، فلم يستمر في عمله هذا طويلاً، فالتحق بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، حيث عمل مذيعاً ومحرراً، وقد استمر في عمله بعض الوقت، عاد بعدها إلى وظيفته السابقة في المحاسبة، وبعد فترة من الزمن قرر التفرغ للكتابة، بعد أن ذاع صيته وأصبح شاعراً محترفاً، وقد مكنه هذا القرار من رفد الساحة الشعرية المحلية والعربية، بكم بكبير من القصائد المميزة.
لقد بدأ الأديب والشاعر سليمان عويس مشواره مع الأدب، من خلال كتابة القصة القصيرة، وقد بدأ بنشر أولى قصصه منذ أواخر عقد خمسينيات القرن الماضي، لكنه لم يستمر في كتابة القصة، حيث تفوق الشاعر في داخله على كل شيء، لذا تحول إلى كتابة الشعر منذ مطلع الستينيات الماضية، فتوجه لكتابة الشعر الفصيح، وتمكن من إنجاز ديوانين من الشعر الفصيح هما: ديوان العنقود 1973، وديوان غنيت بغداد 1981، لكن فقدانه لوالدته التي توفيت عام 1976، دفعه إلى كتابة الشعر العامي، وكان هذا الأخير سبب شهرته التي طافت الآفاق، حيث أخلص لهذا الشعر، الذي كان يشبه لون الأرض، ويلامس قلوب ومشاعر البسطاء والمثقفين، وقد كتب الشعر العامي مسرحيات ملحمية، ذات هاجس وطني نضالي، وقد عرف من خلال شعره العامي، بدفاعه عن الضعفاء، وتعريته للفساد والمفسدين، والدفاع عن وطنه ضد كل من حاول النيل من مسيرته وسمعته العالمية النقية.
أطل سليمان عويس على الناس بشكل يومي، من خلال زاويته الصحفية (موال) التي طاف بها الصحف اليومية كالدستور والرأي، وبصوته كل صباح عبر أثير الإذاعة الأردنية، وحفظ الأردنيون أشعاره ورددوها في أحاديثهم، واستشهدوا بها في حواراتهم المختلفة، وقد أصدر بالعامية ديوانين شعريين: ديوان مواويل رافضة 1978، وديوان بيروت كيف حالك 1985، وقد اهتم بالمسرح وكتب له ملحمة بعنوان (بارود) ومسرحية (حكاية بلدنا: حكاية قريتنا)، لقد كرس سليمان عويس حياته للكتابة، فكانت مشروعه الذي بذل في سبيله الغالي والنفيس، وكان تعلقه بهموم الناس، ووقوفه عند القضايا العربية الكبرى، ومساندته لجهود التحرر والنضال والمقاومة العربية، أن جعلته يوقف شعره على معالجة هذا الموضوع، حيث ابتعد من غير تقصد عن الشعر الغزلي، وشعر العاطفة الفردية، وهو الشاعر الرقيق، المتدفق المشاعر، فقد كان سريع التأثر جياش العاطفة، لكن إدراكه لواقع أمته المرير، وارتهانه لكلمته لتكون الرصاصة، التي تدافع عن الوطن والأمة، وتعبر عن حال الناس وأوجاعهم، أبعده عن الشعر الغزلي.
لقد آمن الشاعر سليمان عويس بالثقافة، سبيلاً لاستعادة الأمة لدورها الحضاري، والمعزز الحقيقي للاستقلال والتحرر، لذلك عمل على تأسيس دار نشر باسم دار المهد، وقد اصدر من خلالها مجلة فصلية باسم المهد أيضاً، وقد شارك في هيئة تحريرها الناقد الكبير الدكتور إحسان عباس، والروائي إلياس فركوح، والناقد الدكتور كمال ديب، في حين كان سليمان عويس رئيس التحرير، وقد شكلت هذه المجلة حالة فريدة في الساحة الثقافية المحلية في عقد الثمانينيات، وساهمت في تقديم إبداعات الكتاب الأردنيين بشكل مرضي للقارئ المحلي والعربي، لكن هذه المشاريع الرائدة، عانت من قلة الدعم وضعف الإمكانيات المادية، فلم يكتب لها الاستمرار رغم نجاحها الملحوظ، وقد عمل أيضاً مدير تحرير مجلة وسام التي تصدرها وزارة الثقافة، وهي مجلة متخصصة للأطفال.
شارك الشاعر سليمان عويس خلال مسيرته الإبداعية الزاخرة بالعطاء، في عدد كبير من المهرجانات والندوات الشعرية داخل الأردن وخارجه، وأعطت قصائده ومواويله المتميزة نكهة خاصة لمناسبتنا الوطنية، التي كانت تحملها أشعاره معبرة عن المواطن الأردني المخلص، وقد نال عدد من الجوائز، وتم تكريمه غير مرة، وتقديراً لعطائه المتميز وإبداعه المتفرد، منح وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، وكان دائم الكتابة والعطاء، لكن الأزمة القلبية التي ألمت به لم تمهله، فغادرنا وهو في ذروة إبداعه وهمته، حيث توفي في الثاني عشر من شهر كانون الأول عام 2005، ودفن في مسقط رأسه بلدة دبين. فرغم غيابه المفاجئ، يبقى صوته وشعره خالدين خلود كبار الشعراء، شعر دائم الخضرة كغابات حيث ولد وحيث وري الثرى.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|