بشير الغزاوي .. الشيخ المناضل



وضع ابناء « الغزاوية « بصمتها على فترة تاريخية ليست بالقصيرة، وامتد حراكها الاجتماعي والسياسي على رقعة واسعة في جبل عجلون ومحيطه، حتى استقرارها في الأغوار الشمالية، غور الأربعين وجواره.

 و وثق المؤرخون ظهور الغزاوية في الأردن منذ عام 1500، ويبدو أن ترسخ وجودهم في شمال الأردن كان قبل هذا التاريخ.

 كان للأمير البدوي محمد سعيد الغزاوي، دور مؤثر في مقاومة سيطرة العثمانيين على المنطقة، في أعقاب انتصارهم على دولة المماليك عام 1516، غير أن قوات الأمير الغزاوي لم يكن في مقدورها الصمود أمام جيش العثمانيين، التي اعتبرت القوة الأولى في العالم في تلك الفترة، ونظراً لمكانة ونفوذ آل الغزاوية، فقد عمد العثمانيون, على إبقاء زعامتهم على جبل عجلون، الذي ضم معظم بلدات شمال الأردن، وقد كان لأمراء الغزاوية صلات وثيقة مع الأمير شهاب الدين في جبل لبنان، وتحولت هذه العلاقة إلى ما يشبه الحلف.

يرجع الشيخ بشير الغزاوي بنسبه إلى محمد قانصوة، الذي تزعم بلدة صخرة عام 1550، وبقي أمراء الغزاوي حكام جبل عجلون، حتى اشتد ضغط العثمانيين عليهم، بعد أن الغوا الحكم الذاتي لولاية سوريا، وتم حكم الولاية مباشرة من قبل الباب العالي، ومع تزايد الخلافات بين الطرفين، وتضييق الخناق على الغزاوية، تركوا جبل عجلون واستقروا في الأغوار الشمالية، في بلدة المشارع وغور الأربعين، حيث امتلكوا أرضاً شاسعة، وقد رسخوا زعامتهم العشائرية في الأغوار الشمالية والبلدات المقابلة لها غربي نهر الأردن، وغور بيسان، وقد لعبت هذه العشيرة من خلال رجالاتها في مختلف المراحل، دوراً وطنياً مشرفاً منذ أواخر حقبة الدولة المملوكية، وقدموا في سبيل الوطن تضحيات كبيرة، ولم يتخلوا عن واجبهم في أي ظرف من الظروف، لذا فقد سجل التاريخ منجزهم، وحفظت الذاكرة دورهم المشهود.

تشير معظم الروايات أن ولادة الشيخ بشير الغزاوي، كانت في حدود عام 1895، في غور الأربعين، وقد نشأ بشير في بيت الزعامة، حيث كان والده شيخ المنطقة، وقد حظي باحترام كبير في بلدات شمال الأردن، وما ناظرها من بلدات غربي النهر، وتعد الكتاتيب المجال التعليمي الوحيد المتاح لأبناء العشائر في تلك المرحلة، ولا شك أن بشير الغزاوي قد نال فرصة قصيرة في الكتاب، تعلم خلالها مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ عدداً من سور القرآن الكريم، غير أنه تلقى تعليمه الحقيقي من مدرسة والده، حيث كانت مضافته ميداناً يلتقي فيه رجالات المنطقة، يتداولون في أمر حياتهم، وينشدون المشورة في واقعهم ومستقبل بلادهم، وفي المضافة تطرح القضايا والمشاكل، ويبت فيها، وكان بشير منذ طفولته شاهداً وراصداً لكل هذا الغنى المعرفي، وقد ساعدته هذه الخبرات، عندما تسلم الزعامة العشائرية بعد وفاة والده، فقد تربى على مكارم الأخلاق، والجود دون حساب، لمنفعة وخدمة أهله والقيام على حاجاتهم.

أصبح الشيخ بشير الغزاوي شيخاً للغزاوية، والعشائر التي تحالفت معها، وسرعان ما ذاع صيته في أرجاء الوطن، حيث لعب دوراً بارزاً في الأحداث الاجتماعية والسياسية والعسكرية، التي اجتاحت المنطقة، منذ انكشف ضعف الدولة العثمانية، واشتداد الضغط على أطرافها من قبل الدول الغربية، الطامعة في السيطرة على أجزاء من تركتها مترامية الأطراف، حيث كانت المنطقة العربية في شرق المتوسط، ساحة لهذا التنافس المستشري، وقد عرف الشيخ بشير بمواقفه الوطنية، التي كشفت عن وعي فطري بالأخطار التي تحيق بأمة العرب، وقاده حسه اليقظ، المترجم أفعالاً على أرض الواقع، ليصبح أحد أبرز رجالات الحركة الوطنية الأردنية، التي تميزت بمسؤوليتها العالية، وتجاوزت نظرتها الثاقبة حدود اليومي وما هو في المنظور القريب، كان الشيخ بشير ممن رصدوا انزياح الدولة العثمانية عن نهجها، بعد سيطرة حكومة حزب الإتحاد والترقي، التي تحكم بها عدد من الماسونيين ويهود الدونمة، الذين تقصدوا التنكيل بالعرب، ومحاولة طمس هويتهم، وتتريكهم، الأمر الذي انعكس سلباً على علاقة العرب بالدولة.

كان الشيخ بشير من المبادرين إلى الدعوة للثورة العربية الكبرى، حيث استثمر صلاته الوثيقة مع الوطنيين في دمشق وبيروت، وتواصل مباشرة مع رجالات الأردن من الشمال إلى الجنوب، وعندما تحقق الحلم وانطلقت معارك ثورة العرب الكبرى بقيادة المنقذ الأعظم، الشريف حسين بن علي أمير وشريف مكة المكرمة، بدأ الشيخ بشير بمساعدة زعماء المنطقة بحشد عدد كبير من الفرسان، وأرسلهم إلى شمال الجزيرة العربية، للانضمام لجيش الثورة، وتذكر الروايات أن تعداده وصل إلى ما يزيد عن تسعمائة فارس مسلح، وقد لعبت هذه القوة دوراً بارزاً في زيادة زخم الجيوش العربية، التي تقاتل تحت راية الثورة العربية، مما أسهم في تحقيق انتصارات حاسمة على القوات التركية.

 ولم يقتصر دور الشيخ بشير على هذا الجانب، فلقد شارك بالمؤتمر الوطني لأهالي لواء عجلون، الذي عقد في ديوان الشيخ ناجي العزام، في قرية « قم « عام 1920، حيث عرف لدى المؤرخين بمؤتمر « قم « ، وقد ناقش المؤتمرون ما تتعرض له فلسطين من مخاطر، تمثلت بالهجرة اليهودية المدعومة من قبل دولة الانتداب بريطانيا، وتمخض عن المؤتمر تشكيل قوات شعبية من عشائر شمال الأردن، وضعت تحت قيادة الشهيد الشيخ كايد المفلح عبيدات، حيث أغارت هذه القوات على معسكرات الجيش البريطاني، والمستوطنات اليهودية في قرية « سمخ « وتل الثعالب، وشارك الشيخ بشير في المعركة الطاحنة، وكان في مقدمة المهاجمين، وعلى مقربة من القائد كايد العبيدات عندما استشهد مع أخيه وابن أخيه.

لم يرض رجال الحركة الوطنية الأردنية بالانحياز البريطاني لليهود، لذا عاضدوا الثورة الفلسطينية، وقاتلوا مع المناضلين هناك صفاً واحداً، وعمل الشيخ بشير على جمع عدد من رجال شرقي الأردن وقادهم إلى القدس، حيث شارك بفعالية في ثورة البراق، وقد وثق ذلك المناضل العربي الكبير الأستاذ أكرم زعيتر، وأثنى على هذا الموقف النبيل، وفي الجانب الآخر شارك الشيخ بشير في المؤتمر العربي الفلسطيني السادس، عام 1923، ممثلاً عن عرب الأغوار الشمالية وغور بيسان، وعندما أصدرت المحكمة العسكرية البريطانية حكم الإعدام على عدد من المناضلين الفلسطينيين، بعث برسالة تضامنية، بين فيها مشاعره الوطنية الصادقة والداعمة للحق الفلسطيني، وحقه في مواجهة الإرهاب والظلم، وفي الخامس من شهر نيسان شارك الشيخ بشير الغزاوي مع الوفد الذي قابل سمو الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن، للطلب منه التدخل لدى بريطانيا، لإنقاذ (25) مناضلاً فلسطينياً من حكم الإعدام، وقد لبى الأمير عبد الله هذا الطلب، ونجح في إقناع البريطانيين بالعدول عن هذا القرار.

وكان الشيخ بشير الغزاوي من بين رجالات الأردن وسوريا، الذين استقبلوا الأمير عبد الله بن الحسين عند وصوله إلى مدينة معان، على رأس قوة عسكرية، تلبية لدعوة أبنا المنطقة، بعد سقوط دمشق بيد الفرنسيين، وكان من أبرز رجالات مرحلة التأسيس، ويعتبر قريباً من الأمير عبد الله بن الحسين، فلم يتخل عن دوره في المساهمة في دعم الدولة الناشئة، في تثبيت الأمن وفرض القوانين، البدء في مرحلة البناء والتنمية، وتأسيس جيش عربي، قائم على مبادئ الثورة العربية الكبرى، وخلال هذه الفترة لم ينقطع الشيخ بشير الغزاوي عن النضال والمقاومة في فلسطين، فلقد قاد حملة من الأردن هاجمت مستعمرة « شاسيا « وخاض معركة مع المستوطنين اليهود في السابع من نيسان عام 1931، حيث تم قتل ثلاثة وجرح خمسة من المستوطنين، وتدمير حافلة، وعاد المجاهدون إلى مواقعهم دون إصابات. 

ووصفت مضافة الشيخ بشير ملتقى لقادة المقاومة مثل فوزي القاوقجي، الشيخ محمد الأشمر، سعود الخضرة وفوزي جرار، ويذكر عنه قيامه بإطلاق الرصاص في مؤتمر عربي عقد في القدس، معلناً أن هذا وقت الرصاص وليس الخطابات، وأن الوضع لن يحل إلا بالمقاومة العسكرية، لقد عاش الشيخ بشير مناضلاً عربياً، وشيخاً وطنياً عميق الانتماء، وصادق النهج والعمل، ولم يغير من مبادئه حتى توفي أيلول عام 1945، وإن ذكرت بعض المصادر أنه توفي بعد هذا التاريخ، لكنه غادرنا باكراً، وقد شارك في جنازته رجالات الأردن وممثلون من سوريا والعراق، ووجهاء ومشايخ من فلسطين. لم يغب ذكر الشيخ بشير الغزاوي يوماً، فأعماله ونضاله الوطني الواعي يبقى يذكر فيه يوماً بعد يوم.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).