المجاهد الشيخ عبد الحميد حميدي الدخيل النميري النعيمي .. أحد قادة الثورة العربية الكبرى



شكلت الفترة الزمنية الممتدة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، ميداناً خصباً لبروز عدد من المجاهدين العظام، الذين تحملوا أعباء المرحلة الصعبة، وقدموا أرواحهم قبل أموالهم، دفاعاً عن الأمة وصوناً لكرامتها، من خلال النضال المسلح من أجل استقلال البلاد العربية، وصناعة مستقبل أفضل للعرب في وطنهم الممتد، وقد شكلت بلاد الشام وحدة جغرافية واجتماعية، جعلت منها كياناً موحداً على مر التاريخ، وقد سمح هذا الواقع الثري، لحراك ديموغرافي واسع النطاق، ويعد سهل حوران مع هضبة الجولان حتى منطقة مرجعون، نطاقاً جغرافياً وبشرياً حيوياً واحداً، حتى أن عدداً من رجال هذا الإقليم، طالبوا بالانضمام إلى الأردن، والخلاص من قبضة الفرنسيين، وقد كان لمجاهدي الأردن دوراً بازاً في المقاومة الشعبية في سوريا ضد فرنسا، واستشهد عدد منهم في المعارك الطاحنة التي خاضوها، دفاعاً عن الأرض العربية، وقد استضافت بلدات وقرى الشمال الأردني، الثوار العرب الملاحقين من قبل المستعمر، فالتحمت الأرواح وتوحدت المصائر، فكانت الأردن الداعم والحامي والسند.

يعد المناضل عبد الحميد النعيمي، واحداً من أولئك المجاهدين الكبار، الذين صدقوا عهدهم وما بدلوا ولائهم، حتى عد مثالاً فريداً للفداء والتضحية من أجل الوطن، وهب للدفاع عن بلداته ومدنه، بغض النظر عن المخاطر المحدقة، وبعد المسافة عن مسكنه، فقد كان يرى أنه لا يمكن حماية البيت دون حماية الوطن الكبير.  ولد المناضل عبد الحميد النعيمي عام 1894، في الزمن الحرج، حيث تستعد المنطقة لأحداث جسام غيرت شكلها حتى اليوم، وتربعت قريته ومسقط رأسه ( إسبته ) على ربوة من ربوات هضبة الجولان، على مقربة من مدينة القنيطرة، وكانت عشيرته من العشائر البدوية المشهود لها بالفروسية والكرم، والحراك في المنطقة المحيطة، وقد تربى عبد الحميد على الفروسية والشجاعة، وحمل السلاح من سيف وبندقية منذ نعومة أظفاره، وقد تلقى تعليماً أولياً من خلال الكتّاب، حيث تميز بالذكاء والفطنة، والسرعة في التعلم واكتساب المعارف، وقد أتيحت له الفرصة فيما بعد ليلتحق بمدرسة التجهيز في دمشق.

 كان عبد الحميد النعيمي من بين الطلبة الملفتين للانتباه، فقد وقع عليه الاختيار، مع عدد من الطلبة العرب من قبل الحكومة التركية، ليدخل الكلية الحربية في اسطنبول، فسافر بناءً على ذلك إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية، ودخل الكلية الحربية عام 1916، وتلقى علومه العسكرية فيها، وخدم في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، مع عدد من الضباط العرب، منهم محمود الفاعور وأحمد مرويد وعلى خلقي الشرايري، وقد بقي في اسطنبول حتى خروج القوات التركية من بلاد الشام عام 1918، حيث عاد بعدها مع زملائه إلى دمشق وانضم للجيش العربي الشمالي، التابع للحكومة العربية التابعة للملك فيصل بن الحسين، بعد انتصار جيش الثورة العربية الكبرى على الأتراك، وكانت عشيرة النعيمي وعشائر المنطقة المحيطة، قد عملت على تسليح جيش الثورة العربية، من خلال جمع التبرعات، وبيع حلي النساء، بالإضافة لتطوع عدد من المجاهدين للقتال مع جيش الثورة العربية الكبرى.

عمل عبد الحميد ضمن الجيش الفيصلي في مدينة درعا، التي شهدت إعادة تشكيل وتنظيم القوات العربية، عاد بعدها إلى دمشق ليشهد إعلان المملكة العربية واعتلاء الملك فيصل العرش، غير أن الفرنسيين هاجموا سوريا، وتمكنوا من دخول دمشق في أعقاب خسارة العرب لمعركة ميسلون عام 1920، التي خاضها عبد الحميد بكل شجاعة، وقد نجا بأعجوبة خلال المعركة، وقام بالإشراف على سحب قوات اللواء السادس، تحت القصف الشديد، واضطر عبد الحميد إلى مغادرة قريته مع أفراد عشيرته، بعد أن خاضوا معركة حامية، مع القوات الفرنسية في منطقة مرجعيون، حيث قرروا الانضمام للأمير عبد الله بن الحسين، الذي وصل مدينة معان على رأس قوة عسكرية، تلبية لدعوات رجالات بلاد الشام، وقد كان عبد الحميد من بين مستقبلي الأمير عبد الله في معان، وخلال ذلك وضع هو ورفاقه الأمير بواقع العمليات العسكرية ضد الفرنسيين، وقد طلب الأمير استمرار مشاغلة المستعمرين على أطراف نهر اليرموك، حيث قامت القوات الشعبية من قرى الشمال الأردني وقرى حوران والجولان بمهاجمة الفرنسيين في الزوية والاستيلاء عليها ومعاقبة الخونة، لكنهم انسحبوا بتوصية من علي خلقي الشرايري، بعد أن علم بتقدم قوات فرنسية كبيرة باتجاههم.

أنظم عبد الحميد النعيمي إلى الأمير عبد الله، الذي وصل مدينة عمان، وعمل على تأسيس إمارة شرق الأردن، وقد أسهم النعيمي بتأسيس نواة الجيش العربي الأردني، الذي عد نواة لجيش عربي كبير، من أجل تحرير الأرض العربية، وساعد في جمع الأموال لتسليح الجيش، وقد باع جواهر وحلي نساء عشيرته من أجل ذلك، وكان من بين هذه الأسلحة المدفع الموجود حالياً أمام قصر رغدان، وقد تركت هذه الواقعة أثراً طيباً في نفس الأمير عبد الله بن الحسين، وكان النعيمي قد دخل الجيش برتبة ملازم أول، وبعد ذلك تم ترقيته إلى رتبة رئيس _ نقيب _ حيث أمضي في الجيش مدة أربع سنوات، غير أن الفرنسيين استمروا بملاحقته، والمطالبة بتسليمه لتنفيذ حكم الإعدام بحقه، وهو حكم أصدرته المحكمة العسكرية بحقه غيابياً، أعقاب معركة الزوية، وقتل حاكمها وعدد من جنود فرنسا، وقد هدد الفرنسيين المندوب السامي البريطاني باتخاذ إجراءات حازمة في حال عدم تسليمه لهم، فقام البريطانيون بتسليمه لهم عن طريق درعا، حيث نقل إلى سجن القلعة، وتم إعادة محاكمته من جديد، وطالت فترة محاكمته إلى مدة أربع سنوات، حيث صدر عفو عام عن السجناء السياسيين، فأفرج عنه ووضع في الإقامة الجبرية في مسقط رأسه ( إسبته ).

عمل المناضل عبد الحميد النعيمي، على دفع أبنائه للانضمام للجيش الأردني، فكان أن حملوا جميعهم شعار الجيش العربي، وبقي النعيمي وطنياً صلباً، ويناضل في كل المواقع، فكان من المناهضين للانتداب البريطاني، ومن المعارضين لمعاهدة عام 1928، وكان ولاؤه لقيادته الهاشمية ولاءً مطلقاً، عبر عنه بشكل عملي طوال سنوات عمره الطويلة، واستمر قابضاً على جمرة الانتماء للأمة والأرض العربية، وربى أولاده على الشجاعة وحب الوطن، وقد استشهد أبنه موسى في القدس خلال معارك الجيش الأردني على أسوار القدس في حرب حزيران عام 1967، ولم يزده ذلك إلا فخراً وعزة، وهو من رهن شبابه وكهولته خدمة لقضايا أمته، ولم يتخلى عن دوره النضالي في مرحلة من الراحل، فحمل السلاح في معارك مختلفة، وقاتل في سوريا وفلسطين ولبنان، وشارك علي خلقي الشرايري، في السفر إلى الهند للعمل على الإفراج عن الضباط العرب الذين أسروا في معركة ( كوت العمارة ) في العراق عام 1915، ونقلوا إلى المعتقلات البريطانية في الهند، حيث تم نقلهم إلى مصر، من أجل إعادة تدريبهم، لضمهم إلى الجيش العربي الشمالي.

بعد مرحلة التدريب تم نقل أول كتيبة من هذه القوة إلى العقبة، وقد تم تثبيت رتبهم العسكرية عليهم، فاستقبل الملك فيصل في دمشق، كل من علي الشرايري وعبد الحميد النعيمي، وشكرهم على جهودهم الكبيرة، كما تجدر الإشارة إلى أن النعيمي، كان أحد ضباط الدرك الاحتياطي، الذي تم تشكيله في بداية مرحلة التأسيس، ووضع تحت قيادة القائد عبد الرحمن سليم، لكن هذه القوة لم تعمر كثيراً، حيث تم حلها وتشكيل القوة السيارة، التي ضمت مجموعة من أفضل الضباط منهم: عمر لطفي، صبحي العمري، عبد القادر الجندي، سعيد عمون، محمود الهندي، محمد النجداوي، حسين المدفعي، شكري العموري، منيب الطرابلسي، محمد جانبك، سعيد اسحاقات، عبد الكريم الحص، عبد الحميد النعيمي وأحمد التل.

لقد شكل المناضل عبد الحميد النعيمي، حالة فريدة تعددت صورها في تاريخ الأردن الحديث، فقد مثلت سنوات عمره التي تجاوزت الثمانون عاماً، صفحات ناصعة في سفر البطولة الأردنية، التي لا تقف عند حد أو مرحلة، وسيبقى عبد الحميد النعيمي في بؤرة الذاكرة على مر الأجيال، فلم يغب عنا رغم وفاته يوم الجمعة في الرابع من كانون الثاني عام 1974، حيث أقيمت له جنازة عسكرية شاركت فيها موسيقات القوات المسلحة، وكبار الضباط والفعاليات الرسمية والشعبية، وشيوخ ووجهاء العشائر من الأردن خارجه.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).