الحاج موسى أبراهيم الكريري .. مؤرخ من الزمن المنسي

الحاج موسى الكريري

تشكل الذاكرة الشعبية مخزون نفيس مهدد بالنفاد، فكثير من روائع الأحداث لم توثق، رغم حضورها القوي والفاعل ضمن مرحلتها، ولعل العديد من سير الرجال الكبار في فعلهم والعظام في تأثيرهم، قد حفظت في العقول، ودونت في الصدور، لكن التراث الشفوي يعاني فقد حراسه، ووفاة سدنته، مما يجعل من هذا الإرث الغني عرضة للضياع والاندثار، وهذا يتطلب جهوداً مؤسسية، لتوثيق هذا الكنز لحفظ تاريخ الإنسان والمكان الأردني. وقد أسعفتنا الذاكرة الجمعية، وبعض المدونات المخطوطة، للتعريف بأحد رجالات الطفيلة الأوفياء، الذين تميزوا بالعلم والمعرفة، وأسهموا في بناء الوطن، وتوثيق جانب منسي من تاريخه الاجتماعي والسياسي، وقد كانت لجهود الروائي والمؤرخ الجنوبي سليمان القوابعة، دور فاعل في تزويدنا بما توفر لديه من معلومات مخزنة في الذاكرة، وأخرى استقاها من مذكرات ومدونات الحاج موسى الكريري، الذي غاب في تلافيف الأيام الغابرة، ولم ينشر شيء من كتاباته، ولم توثق سيرته.

يعد الحاج موسى إبراهيم بن كاظم الكريري التنوخي المنصوري، حالة فريدة في تاريخ مدينة الطفيلة، فهو سجل شفهي وتدويني لمفاصل مهمة من تاريخ الأردن، خاصة تاريخ جنوبي الأردن، فلقد حفظ الأحداث ونشرها في جلساته وخطبه، ودون كثير منها في مدوناته ومذكراته، التي ما زالت مخطوطة تنتظر التحقيق والنشر. فهو ينتمي إلى قبيلة المنصوري – المناصرة – وهي من أقدم القبائل التي سكنت الطفيلة، حيث يشار إلى أن استقرارهم في هذه المنطقة كان مع بداية العهد المملوكي، أي قبل نحو سبعمائة عام، حيث كان رجال هذه القبيلة يتولون حراسة السور القديم المنيع الذي كان يحيط بالبلدة، وذلك قُبيل قدوم السلطان العثماني سليم الأول، الذي أخضع المنطقة لحكم الدولة العثمانية القوية حينها، ويذكر الحاج الكريري في مدوناته أن بلدة الطفيلة تعرضت ذات ليلة إلى غزو مفاجئ، حيث نهبت خيراتها، وروع سكانها، ومن سلم منهم رحل إلى بلدة الخليل واستقر هناك.

ولد الحاج موسى الكريري، في بلدة الطفيلة عام 1900، مع إطلالة القرن العشرين، الذي جر المنطقة والعالم إلى تحولات جذرية، وكانت البلاد في تلك المرحلة تعاني سوء الحال، واستشراء الفقر والإهمال، وضعف الدولة العثمانية المسيطرة، ونهجها العنصري في تلك الحقبة، فنشأ الكريري نشأة أبناء الطفيلة البسطاء، وكان له نصيب من الحاجة والشقاء منذ طفولته. لكن ذلك لم يمنعه من الالتحاق بالكتّاب، لتعلم أساسيات القراءة والكتابة والحساب وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، بعد ذلك درس المرحلة الابتدائية ذات السنوات الثلاث.

كان من أبناء الطفيلة النجباء، الذين تحلو بالفطنة والذكاء وسرعة التعلم، وقد مكنه ذلك من دراسة مرحلة الرشدي، التي تناظر المرحلة الإعدادية في فترة لاحقة، وهذه فرصة لم تكن سانحة لكثير من أبناء المنطقة، لكن علمه وثقافته الواسعة، كونهما بتتلمذه على نفسه، فقد جد واجتهد وواظب على الدراسة، فقد كان يطالع الكتب بنهم كبير، وبفهم عميق، حتى عد متفرداً في ذلك وسط مجتمع ريفي، يفتقر للمكتبات ودور العلم وندرة القراء والمثقفين.

«الكريري « من المؤرخين الذين عنوا عناية خاصة، بتوثيق التاريخ الاجتماعي والتاريخ السياسي، وكان يدون ما يجري من أحداث في دفاتره، التي يمكن اعتبارها سجلاً حياً لكثير من مفاصل الحياة اليومية لجنوبي الأردن.

وبالإضافة لتوثيقه لروايات تاريخية شفوية رواها بالتواتر عن أجداده، منها ما نقله عن جده: أنه بين 1798 وعام 1800، حاصر نابليون عكا، اتجهت قبائل أخرى من الطفيلة والبلقاء وقبائل أخرى من شرق الأردن، وقامت بمهاجمة جيش نابليون، للذود عن الأهل والأرض، وقد أسهمت هذه الهجمة في تثبيط عزيمة الفرنسيين. وكان يعتمد في تدوينه للأحداث والأخبار، على منهج الخبر الجمعي، أي يأخذ بالرواية التي أجمع عليها الناس، ممن عرفوا بالموضوعية والثقة، وكان يتجنب ويحذر النقل عن راوٍ واحد، ويعمل على إضافة بعض الشروحات، وتثبيت بعض التفسيرات، التي تساعد القارئ والمهتم في تحصيل المعرفة الضرورية في هذا المجال.
لقد كان تأثير الحاج الكريري في مجتمع الطفيلة كبيراً، فلقد اكتسب محبة كبيرة، وأجمع الأهالي على تقديره، واعترفوا بعلمه وفضله، فكان يؤمه طلاب العلم والمعرفة، فلا يبخل بعلمه أو بتجربته، ولشغفه بالقراءة واقتناء الكتب، تمكن من تأسيس مكتبة خاصة في بيته، كبيرة نسبياً في تلك المرحلة، وجعلها تقوم مقام المكتبة العامة.

كان يقوم بإعارة الكتب لأهالي الطفيلة، وقد أعد سجلاً خاصاً بالإعارة، يسجل فيه عناوين الكتب المعارة وأسماء الذين استعاروها، وتاريخ الإعارة، وكان يحرص على ذلك حرصه على أثمن الأشياء، وقد أسهمت هذه المكتبة في بناء ثقافة ووعي أكثر من جيل في الطفيلة، وكان يشجع القراءة، ويبث أفكاره التنويرية والإصلاحية، في أحاديثه وخطبه، فقد كان إمام وخطيب مسجد الطفيلة، المسمى بالجامع الحميدي، وقد كان يتدافع الأهالي لحضور خطبه، لعمق معرفته وبساطة أسلوبه وظرفه، واختياره موضوعات تلامس حياتهم وتفاصيلهم اليومية.

لقد عرف عنه مساهمته في اختيار المعلمين في الطفيلة، ويساعد هؤلاء المعلمين في كل ما يحتاجون إليه، خاصة في عهد الإمارة، وتميز بكثرة حديثه عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، الذي أوفده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطفيلة وجنوب الأردن، حيث عاش فيها، وله في خاصرة البلد مقام معروف، ونظراً لارتباط الحاج الكريري بسيرة هذا الصحابي، وتكريماً له فقد أطلق الأهالي على عشيرة الكريري أسم « الجوابرة « ، وقد روى الحاج موسى حال العشائر البدوية شرق الأردن، خلال حكم الأتراك، وما تعرضوا له من ظلم وقمع وتنكيل، وقد سجل ممارسات بعينها، وسمى المسؤول عنها، وأرخ لحادثة مرور أول رحلة لقطار الحجاز عام 1908، حيث يقول « فشاهدنا ذلك القطار بلونه الأسود شرقي الطفيلة في منطقة جرف الدراويش، فرأينا منظره مخيفاً وهو يصرخ «.

سجل الكريري زيارة الأمير عبد الله الأول المؤسس، إلى الطفيلة وإقامته في قصر صالح باشا العوران، وحضوره خطبة الجمعة التي ألقاها الحاج موسى، واختيار الأمير الجلوس في الصفوف الأخيرة بين الناس، حيث قال الأمير : « مادامت هناك فسحة لماذا نتخطى رقاب العباد، ثم أليس كل مكان في الطفيلة هو عزيز علينا ... فالطفيلة هاشمية، فجبالها هي السكن السري للدعوة العباسية، ولجدنا محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب « ويعقب الكريري على ذلك بقوله « هكذا يطرح سمو الأمير تواضعه بيننا «.

ومثل هذه الأحداث تكشف جانباً مهماً من تاريخنا غير المدون، والتي سجلها الكريري بمنهجية علمية موثوقة، وهو عادة ما يصحح ويعقب بأسلوب لا يرتقي إليه بعض المؤرخين هذه الأيام، وهو ما يجعل منه مؤرخاً مهماً مع كونه مغموراً، لا يذكره إلا مجموعة من كبار السن في الطفيلة، ما من شك أنه يستحق النظر في ما تركه من إرث، ليتم تحقيقه وتحريره ليطبع وينشر، لما فيه من فائدة للدارسين والمهتمين.

أرخ الحاج الكريري، لجباية الضرائب من قبل الأتراك وقت البيادر بالقوة، وتجنيد الفلاحين لتقطيع أشجار غابات ضانا والضحل لإكمال مد سكة الحديد، وكتب عن صلب فروة الجذامي، ومحطات سير جيش المسلمين إلى موقعة مؤتة، كما أهتم بتسجيل سنوات الجوع والفقر الناتج عن زحف الجراد، الذي أضر بالمحاصيل والكروم، وفي تدوينه لموضوعات وأحداث شتى، وقف الكريري عند الزلزال الذي تعرضت له الأردن عام 1927، وكان قوياً لدرجة أدت إلى تهدم بعض المنازل، وتصدع المباني الحكومية، ونتج عنه وفيات متعددة، وقد قام بتسجيل هذه الوفيات خاصة في منطقة الطفيلة، وأرخ أيضاً لسنوات القحط التي أصابت الجنوب، وأجبرت أصحاب المواشي إلى سوق قطعانهم إلى منطقة البلقاء والشمال، فهي أوفر حظاً من الأمطار، ومن ثم يعودون إلى ديارهم في فصل الصيف.

هذا غيض من فيض عن رجل فريد، عايش مراحل صعبة من تاريخ الأردن الحديث، وكان إحدى عطايا الجنوب النابض بالحياة والتاريخ والأرض العصية، وبقي على حاله هذه بين الناس لا يبدل ولا يتبدل، حتى ابتعد في العمر، فهرم وضعف جسده الذي لم يضعف عزيمته، ولم يتخل عن دوره في الحياة الاجتماعية والعلمية، حتى وفاته عام 1986، حيث وري الثرى في مدينته ومهوى قلبه الطفيلة، وما زال أبناء هذه المدينة المسيجة بالجبال، يذكرونه ويقدرون مسيرته، وما ترك من آثار غنية بالتاريخ، والمعارف التي لا تقدر بثمن.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).