محمد صبحي أبو غنيمة

يعد محمد صبحي أبو غنيمة رجلاً من رجال الرعيل الأول الذين تركوا بصمات واضحة في بناء الدولة الأردنية فقد عُرف عنه إخلاصه لوطنه ولأمته وحمل الأمانة في وجدانه ، كان أديباً مرهف الحس عذبّ أسلوبه قبل أن يكون طبيباً وسياسياً.

ولد محمد صبحي أبو غنيمة ما بين عام م1900 وعام م1902 ، في مدينة إربد لأسرة كان لجهودها التنويرية في التعليم أثر في النهضة العلمية والفكرية المبكرة في شرق الأردن مثلما كان لها أثر في نبوغه المبكر ويعود أصل عائلة أبو غنيمة إلى الصعيد المصري. فلقد قدم جد العائلة من صعيد مصر مع حملة إبراهيم باشا واستقر ابنه علي في عكا بعدها انتقل إلى اربد وعمل في التجارة.

وكان قد تحدث المرحوم محمد صبحي أبو غنيمة في مذكراته فقال: "أذكر أن إسماعيل فاضل والي سوريا آنذاك جاء في رحلة إلى إربد فلقنني المعلم (إسماعيل أفندي الجركس) بعض كلمات بالتركية لألقيها أمامه ولما فعلت لم أشعر إلا والوالي يضمني إليه ثم يتكلم مع إلقائه قام وقال لوالدي أريد أن آخذ أبنك إلى الشام فقال أبي: يا أفندينا لي ولدان أحدهما في استانبول والثاني في الشام وهذا الطفل أريد أن أربيه بنفسي غير أن الوالي دبر مكيدة وعن طريق عسكره تمكن من خطفه أثناء لعبه مع أصدقائه على البيادر فأركبه القطار ومضى به إلى بيت الوالي حيث بقي هناك أياماً ثم أدخله مدرسة أهلية وذلك لتعذر قبوله في مدرسة عنبر نظراً لصغر سنه ويتابع قائلاً: وبعد جهود أرسلني إلى اربد فصحح سني إلى أكبر وكان الشاهد جارنا (موسى المقلد) الذي عندما سأله القاضي: كيف نثبت أن عمره كذا؟ أجاب: يوم ولد هذا الأفندي الصغير انكسر ثوري (في البقعة) فذهبت إلى والده وكان مخيماً في (المزيريب) وبشرته فأعطاني والده ثوراً وكان القاضي واسمه موسى بك على ما أذكر يداعبني بعد ذلك كلما لقيني فيقول: "تاريخ ولادتك معروف يوم كسر الثور الأبيض".

بعد أن أتم صبحي أبو غنيمة جزءاً من علومه الابتدائية في اربد انتقل ليدرس في مكتب عنبر بدأت بواكير نشاطه الأدبي والوطني تتجلى بارزة وكانت مدرسة عنبر من أهم دور العلم فقد كانت صرحاً علمياً ومركزاً للقومية العربية وكانت بمثابة جامعة للتربية القومية. خرّجت مئات المناضلين الذين صنعوا تاريخ أمتنا الحديث ، وبعد أن أمضى صبحي أبو غنيمة عشر سنوات في مدرسة عنبر انتقل قبل أن يتم دراسته الثانوية فيها إلى اسطنبول ودخل مدرسة الهندسة العليا ، لكن الحرب العالمية الأولى ومرضه دفعاه للعودة إلى مدرسة عنبر حيث أتم دراسته الثانوية بتفوق.

كان وعي صبحي أبو غنيمة ورفاقه نحو الرجولة ينمو ليتجاوز سني شبابهم الغض ونضج حسه الوطني فنظّم صبحي أبو غنيمة والشاعر عرار إضراباً في عنبر وذلك لإقرار نظام الفتوة وحمل السلاح والتدرب عليه إلى أن تم إقرار النظام فبدأوا بالتدرب لكن الإدارة والوزارة قرروا أن يبعثوا بهم إلى حلب.

لم يقتصر نشاط محمد صبحي أبو غنيمة في العشرينات على عنبر بل شارك في التعبئة الشعبية والدعوة إلى الجهاد المقدس التي أعلنها الشيح كايد المفلح العبيدات دفاعاً عن عروبة فلسطين.

وفي الساعة الواحدة ظهر يوم السادس من نيسان سنة 1920 التقت الزعامات العشائرية والقوى الوطنية ووجهاء فلسطين في قرية قم ليتم عقد مؤتمر قم الشهير وتحدث محمد صبحي أبو غنية وألقى كلمة حماسية أكد فيها حق العرب بالمقاومة ورفض السياسة البريطانية التي ترمي إلى سلخ فلسطين عن الوطن العربي.

عمل محمد صبحي أبو غنيمة معلماً في حوران في (جباب) لمدة عام وفي آواخر سنة 1922 غادر صبحي أبو غنيمة إلى ألمانيا لدراسة الطب في جامعة برلين وبعد مرور عام على دراسته أصدر مجلة "الحمامة" وقد أراد أن يجعلها (علمية أدبية فنية مصورة) تنقل ما يحدث في أوروبا من اختراعات فنية وعلمية وتصور الانقلابات الفكرية والأدبية وتكون صلة بين الناشئة في الوطن وبين المغتربين وقد صدر العدد الأول منها عام 1923 والثاني في نيسان عام 1924 ولم يصدر منها إلا عددان فقط حيث صادرها الفرنسيون بحجة أنها مجلة مأجورة للألمان وصادرها الألمان أيضاً بحجة أنها مأجورة للفرنسيين.

عاد محمد صبحي أبو غنيمة طبيباً أواخر عام 1928 وافتتح عيادته في اربد ثم نقلها إلى عمان وكان أول من أنار عيادته بالكهرباء في عمان وقد عمل على تجهيز عيادته بأحدث الأجهزة الطبية وقد كانت حفلة افتتاح مستوصف د. صبحي الأولى من نوعها لا بترتيب المكان وبإعداد كافة وسائط الرفاهية للحضور بل بتشريف صاحب السمو أمير البلاد المعظم سمو الأمير طلال.

لقد قام محمد صبحي أبو غنيمة مع لفيف من الرعيل الأول من أحرار الأردن منهم عدد من شيوخ العشائر أمثال سليمان السودي ونمر الحمود وحسين الطراونة ومصطفى المحيسن وحامد الشراري وحديثه الخريشة وعادل العظمة وطاهر الجقة بتشكيل لجنة وطنية تحت اسم (اللجنة التنفيذية للمؤتمر الأردني) وقد عُقد هذا المؤتمر في 25 تموز 1928 في مقهى حمدان في عمان. وكذلك شارك في العديد من المؤتمرات وبعد انعقاد المؤتمر الخامس للجنة التنفيذية أصدر صبحي أبو غنيمة وعادل العظمة سنة 1933 جريدة "الميثاق" لتكون ناطقة باسم اللجنة.

وبعد استلام جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال سلطاته الدستورية وتحديداً عام 1963 عينه الملك سفيراً للأردن في دمشق وبقي على رأس عمله حتى عام 1966 ومما يجدر ذكره أنه عاد للعمل في السفارة بعد ذلك بسنة.

لقد أحب أبو غنيمة الوطن بحسن الشاعر المرهف ونظر في أحواله بعلم الطبيب كانت شخصيته مزيجاً عجيباً من السياسي والأديب والطبيب والعالم فمارس الأدب بحس سياسي ومارس الطب بعقل العالم ودقة ملاحظته.

عبر مسيرة حياته كان له العديد من المؤلفات وأصدر العديد من المجلات ففي عام 1922 صدرت له في دمشق مجموعة (أغاني الليل) كتب على غلافها (مجموعة قصص اجتماعية أخلاقية أدبية) وترجم عن اللغة الألمانية بعض الأشعار مقطوعة بعنوان -الحزين - وقصيدة أخرى بعنوان -الطفل - كما ترجم قصصاً أيضاً تحت عنوان -فقراء برلين - .

ونتيجة للظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي أصابت المنطقة فقد شعر الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة بألم عميق لذلك بدأت صحته بالتدهور حيث أصيب بنزيف في المعدة وقد توفاه الله في شهر تشرين الأول عام م1971 ، وهو يعمل في السفارة في دمشق وقد دفن في مدينة اربد وتحديداً على تلها الشهير بحسب ما أوصى به ، رحم الله محمد صبحي أبو غنيمة وأسكنه فسيح جناته.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).