جريس الهلسا .. معلم رائد وتربوي أصيل

الأستاذ جريس الهلسا
معلم من عصر الإمارة درّس الملك الراحل الحسين بن طلال

جلبت عقود الإهمال المتواصلة في الحقبة العثمانية، وبالاً على مؤسسات المجتمع المدني، أو ما كان يفترض أن يكون، وقد عانى قطاع التربية والتعليم من ضرر كبير، دفع المنطقة عامة والأردن خاصة للتراجع كثيراً، بعد المرحلة المملوكية المزدهرة نسبياً، فقد شكلت مدرستا الكرك وحسبان في عهد المماليك، منارة حقيقية في بلاد الشام، فقد خرجت العلماء والقضاة والأدباء، لكن انهار كل ذلك بعد أن أخضع العثمانيون المنطقة العربية برمتها لسلطانهم، وكان من نتيجة ذلك أن زحفت الأنماط البدوية نحو الحواضر، وعانت البلدات والمدن ضغط البدو وتراجع الحياة المدنية، وكان ذلك نتيجة طبيعية لسياسة العثمانيين، الذي اهتموا بالشؤون العسكرية، وتأمين طريق الحج الشامي، وجمع الضرائب لتغذية خزينة الدولة المترامية الأطراف، فدخلت البلاد حالة من السبات الإجباري.

إن نهوض الأمة من هذا الإرث الثقيل، جاء نتيجة جهود رجال عظام، أخذوا على عاتقهم تحمل أعباء مرحلة تعد من أكثر مراحل تاريخ العرب الحديث تأثيراً، بل هي فاصلة مهمة في المشروع النهضوي العربي، حيث كانت التربية والتعليم الركن الأساسي، في دفع الشباب العربي إلى تبني القومية العربية، سبيلاً لتحرير العرب وبناء مستقبلهم في العصر الحديث، ومن أمثال هؤلاء حسني فريز ونسيم الصناع وداود المجالي ومحمود سيف الدين الإيراني وغيرهم كبار المدرسين في الزمن الصعب، ويعد المدرس والتربوي الكبير جريس الهلسا، واحداً من أبرز من تجشموا متاعب تلك المرحلة، التي نتج عنها بناء الأردن الحديث واللافت للانتباه، وقد أتيحت الفرصة له ليكون مدرساً لعدد من كبار رجالات الأردن وعلى رأسهم المغفور له الملك الحسين بن طلال رحمه الله، وتمكن من تسجيل اسمه بأحرف من ذهب في سفر التربويين الكبار، أصحاب الريادة والتميز، محتفظاً ببصمات مشرقة على أجيال من أبناء هذا الوطن الطيب.

ولد جريس سلامة الهلسا في الفترة الفاصلة والمليئة بالأحداث والتحولات، فقد ولد في عهد آخر السلاطين العثمانيين السلطان وحيد الدين الذي حكم خلال الفترة بين عامي 1918 و1922، كما ذهب إلى ذلك الدكتور مهند مبيضين في ترجمته لهذا التربوي النبيل، وقد كان الأهالي يتأخرون في توثيق تاريخ ولادات أبنائهم، فعلى الأغلب أنه ولد قبل ذلك، وقد تميزت مسقط رأسه قرية « حمود « على أطراف الكرك، بحضورها الكثيف في حياته وذاكرته، حيث كانت في طفولته قرية عامرة بالحياة، بيوتها من القناطر والعقود، أهلها على بساطة حياتهم وعملهم في الزراعة وتربية المواشي، كان يميلون إلى التعليم وتقدير أهميته، وقد نشأ جريس الهلسا في قرية « حمود « ولعب في دروبها ومروجها الخضراء فرغم تعلقه بها، فإن حلم بالمستقبل الذي سيأخذه بعيداً، لكنه سيعود إليها دائماً ولو بذاكرته النشطة، وكان الأولاد في تلك الحقبة يساعدون أهاليهم في الأعمال الزراعية الشاقة، فلم يتمتعوا بعمر الطفولة كما هم أطفال اليوم، بل كانوا يعاملون باعتبارهم أطفالاً صغاراً، وتوكل لهم مهام ومسؤوليات كبيرة.

التحق جريس الهلسا بمدرسة دير الروم الأرثوذكس القريبة، وكانت المدرسة بالنسبة له تجربة فريدة، وخطوة نحو حياة قادمة مليئة بالمتغيرات والإنجازات. حتى أن والده المزارع سلامة الذي زرع الأرض سنوات طويلة، لم يلبث أن تحول للتجارة مستفيداً من البضائع التي تجلب من الشام والقدس، وتمكن من بناء تجارة رابحة نسبياً، وبعد أن أنهى جريس الهلسا الصف الثاني في مدرسة دير الروم الأرثوذكس، انتقل مع ابن عمه ميخائيل مفضي إلى الكرك من أجل إكمال دراستهما فيها، بمساعدة عمه سلامة الشرايحة الذي تحدث مع مدير مدرسة الكرك الأستاذ صبحي أبو غنيمة فقبلهما، وفي مدرسة الكرك بدأت شخصيته بالتوضح، وهو الطالب النجيب الذي أخذ ينهل من معلميه المعارف والثقافة والتوجهات القومية، وقد أقام مع ابن عمه وجدته في دار قديمة لجبرائيل الهلسا في شارع الخضر بقصبة الكرك.

في مدرسة الكرك تعرف على القضايا العربية الحارة، وكانت القضية الفلسطينية أكثر هذه القضايا حضوراً وإثارة للقلق والمخاوف، وكان يشارك مع طلبة المدرسة في المسيرات والاحتجاجات ضد ما يجري في المنطقة من مؤامرات استعمارية كبرى، حتى أن الطلبة خرجوا لرجم سيارة علموا أنها تقل يهوداً، معلنين احتجاجهم الصغير الذي يحمل دلالات كبرى، وقد درس جريس الهلسا في مدرسة الكرك حتى الصف الثامن، وكان من زملائه كل من: عبد السلام المجالي وأحمد الطراونة وداود المجالي وعبد الوهاب المجالي. لم يتمكن جريس الهلسا من إكمال دراسته الثانوية في الكرك، لعدم توفر المدارس الثانوية فيها في تلك الفترة، فكان عليه الذهاب إلى مدينة السلط التي أسس فيها أول مدرسة ثانوية في عهد الإمارة، وكان يصل إليها من الكرك إما على الخيل إلى مادبا ومنها عمان فالسلط، أو يذهب إلى القطرانة ليركب القطار إلى عمان فالسلط، وقد طابت له الإقامة في السلط العامرة بالحركة والنشاط، وكان مدير مدرسة السلط المربي والأديب محمد أديب العامري، المعروف بهيبته وقوة شخصيته.

درس جريس الهلسا في السلط الصفين التاسع والعاشر، وهما يناظران المرحلة الثانوية اليوم، وكان يشارك في الأنشطة الوطنية المنددة بالاستعمار ووعد بلفور وتقسيم فلسطين، وقد تم التحقيق معه ومع عدد من طلبة المدرسة المتأثرين بالمناخ القومي، وبالفكر المستنير الذي نقله معلمي المدرسة للطلبة، وتمكن من إنهاء دراسته في مدرسة السلط بتميز، وقد كانت السلط مرحلة ممهدة لجريس الهلسا قبل انتقاله إلى حاضرة مهمة من الحواضر العربية الناشطة بالعلم والفكر والسياسة، فقد انتقل إلى مدينة بيروت من أجل إكمال دراسته في الجامعة، فالتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، التي تعد مهد فكر القومية العربية في تصوراته الأولى والأكثر نضجاً من الإرهاصات الأولى، وفي هذه الجامعة أثبت الهلسا تفوقه من اللحظة الأولى، فقد تقدم لامتحان باللغة الإنجليزية وحقق نجاحاً لافتاً، حيث دخل نتيجة لذلك إلى السنة الثانية مباشرة، وقد عانى صعوبات كبيرة خلال دراسته بسبب الأوضاع الصعبة التي مرت بها بيروت نتيجة للحرب العالمية الثانية، وتردي الظروف الاقتصادية والمعيشية.

نال جريس الهلسا شهادة البكالوريوس في العلوم، من الجامعة الأمريكية عام 1943، وقد تعرف عليه في بيروت مدير مدرسة المطران في عمان « جيمس ستن « وطلب منه أن يعمل مدرساً في المدرسة أسوة بالمعلمين العرب، فوافق وعاد إلى عمان ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، وبذلك أصبح مدرساً للكيمياء والفيزياء والأحياء وذلك خلال الفترة من عام 1943 وحتى 1956، حيث أصبح عام 1957 مديراً لمدرسة المطران، وكان بذلك أول مدير عربي للمدرسة، وبقي يدير هذه المدرسة حتى عام 1990، وقد درس المغفور له الملك الحسين بن طلال، الذي كان في الصف نفسه مع دولة زيد الرفاعي وفارس كلوب باشا، حيث يذكر أن الملك حسين – الأمير حينها – كان يأتي إلى المدرسة على دراجة هوائية، وقد تميز بالذكاء والتواضع وحظي بحب الجميع.

خاض جريس الهلسا الانتخابات النيابية عام 1951 وأصبح عضواً في مجلس النواب عن لواء الكرك حتى عام 1954، ونجح معه عن الكرك كل من أحمد الطراونة وهزاع المجالي، وقد شهد هذا المجلس تأدية الملك الحسين اليمين الدستورية، وكان لقاء خاص بين الملك الطالب والمعلم النائب، وفيما بعد عرض على جريس الهلسا منصب وزاري لكنه اعتذر، منحازاً لرسالته التربوية الأصيلة، وبقيت حياته حافلة بالكثير من العطاء والتميز، وقد نال التكريم على مختلف المستويات، حيث نال وسام الاستقلال عام 1989، وقبل ذلك نال وسام التربية والتعليم من الدرجة الأولى عام 1975، وهو ينظر إلى ما أنجز من خلال ما وصل إليه طلابه عبر مراحل مختلف، فيغمره شعور بالرضا والطمأنينة.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).