‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1880. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1880. إظهار كافة الرسائل

عبد الله العكشه ... عصامي امتلك فروسية الكلمة وصلابة الموقف

|0 التعليقات


يمكن النظر لمسيرة حياة الشاعر والسياسي عبد الله العكشة، باعتبارها صورة زاهية، عن مرحلة تاريخية كبيرة وبالغة الأثر، في البنية السياسية والاجتماعية، وفي التحولات الكبرى، التي تركت آثار مخالبها في بلدان المنطقة كلها، وقد وجد عدد من المهتمين بحياة هذا الشاعر النبطي الفذ، تشابهاً ملحوظاً مع حياة شاعر الأردن المتمرد مصطفى وهبي التل – عرار – حتى لقب بعرار الجنوب، فلقد تميز العكشة بتمرده على السائد، وتمسكه بالبساطة والزهد، ومناصرته للضعفاء والمهمشين، وعدم سقوطه في إغواء المناصب والوظائف العالية، وعاش منافحاً عن مبادئه، مدافعاً عن أمته وحريتها ووطنه واستقلاله، ودفع في سبيل ذلك ثمناً غالياً، ولم يغير من نهجه هذا طوال سنوات عمره.

يعد عبد الله العكشة علماً من أعلام الكرك، واحد أبرز رجالات العشائر المسيحية في الكرك، منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصفه، وقد انتشرت قصائده ومآثره بين الناس، من جنوب البلاد حتى شمالها، ولأنه ولد في الفترة التي عانت فيها المنطقة من إهمال الدولة العثمانية، وغياب المؤسسات في أبسط صورها، لذا لم يتم التثبت من تاريخ ولادة معظم أبناء هذه الفترة، لكن الدكتور فريد العكشة ابن عبد الله العكشة يشير في مقدمته لديوان والده (عرس البويضا ) أن والده ولد في الكرك نحو عام 1880، ولا شك أنه جاء إلى هذه الدنيا، والبلاد العربية ترزح تحت ثقل سحابة سوداء من الإهمال والتجهيل، وقد عانى الناس من الفقر وضيق ذات اليد، لذا لم تكن طفولة عبد الله العكشة تختلف عن حياة أطفال القرويين والمزارعين في الكرك، فلقد قاسى صعوبة الواقع منذ تفتح وعيه، وأفضل ما تمتع به في طفولته المبكرة، هو اللعب في حواري الكرك، والركض في دروبها الترابية، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، حيث كان ينتزع الأطفال من لهوهم، ويدفع بهم للمساعدة في أعمال الكبار، خاصة في الزراعة، ورعي المواشي، وبعض الأعمال التجارية، فكان أن غادر عبد الله العكشة، طفولته باكراً ليواجه الحياة بما تحمل من مصاعب وقسوة.

لم تكن المدارس الرسمية أو الخاصة متوفرة كما هي اليوم، فلقد شكلت ندرتها عائقاً كبيراً أمام الراغبين في العلم، وهذا ما دفعه لبذل المستحيل للحصول على التعليم بأي شكل من الأشكال، وكان أن أسعفه الحظ بدخوله مدرسة الروم الأرثوذكس، مما وفر له فرصة عز نظيرها لتحقيق حلمه في التحصيل العلمي، ولم يكن في المدرسة مجرد طالب مجتهد، بل تميز بقوة الشخصية، والنباهة والموهبة الأدبية، ما جعله مقرباً من مدرسيه، وقد كان لمعلمه سلامة القسوس تأثيرًٌ واضحٌ على توجهاته الأدبية والفكرية، وعرف بولعه بالقراءة، حتى كان يطلب من والده أن سمح له برعي الغنم، ليتمكن من المطالعة بهدوء الطبيعة، وقد رافق المعلمة هدباء الصناع في قراءة الصلاة في الكنيسة، وعندما أخذ منه راعي الكنيسة الكتاب، الذي يقرأ فيه وسلمه للمعلمة هدباء، اشتكى الأمر للمعلم سلامة الذي أعاد الكتاب إليه.

تعرض مشروعه في تلقي العلم للإحباط، وواجهته مصاعب كبيرة، فلا مدارس ثانوية في الكرك، والناس حينها لا تدرك أهمية العلم، وحالت الظروف دون أن يرسله والده إلى مدرسة في القدس، كما هو حال من يرغبون في إكمال دراستهم في تلك الأيام، لكن مع كل هذه العقبات، لم يتخل عن حلمه، وقرر التعلم على نفسه، وهو الذي اعتاد مكابدة الحياة من بواكير شبابه، وخلال هذه المرحلة بدأت موهبته الشعرية بالظهور، وأخذت قصائده الأولى تصل إلى الناس، ويذكر الدكتور فريد العكشة، أن والده كان يصاب بالغيرة من كل متعلم أو محصل للمعرفة الجديدة، فعندما سمع شابا مقدسيا يتحدث الفرنسية مع الأجانب في الكرك، أسرع إلى راعي الكنيسة الإيطالي، الذي يتقن الفرنسية والإنجليزية بالإضافة للإيطالية، وطلب منه بإلحاح أن يعلمه هذه اللغات، فعلمه مبادئها، وأضطر أن يدرس على نفسه، ويمارس هذه اللغات حتى وإن أخطأ، فتمكن بتفانيه من إتقانها محادثة وكتابة، وكان يستخدمها خلال مرافقته للسياح في البتراء والكرك، كدليل وحارس، حتى عودتهم إلى القدس.

لم تقف طموحاته في العلم عند هذا الحد، ونظراً لعدم قدرته على الإلتحاق بمعاهد علمية، فقد قرر دراسة القانون على نفسه، مع صديقه عودة القسوس، فكانا يدرسان كتب القانون، ويتناقشان فيها، حتى تمكن من تحصيل معرفة قانونية واسعة، مكنته من امتهان المحاماة والتميز فيها، رغم عدم حصوله على مؤهل علمي فيها، وقد عرف كمحام ٍ متميز لا يشق له غبار، وكان له دور نضالي مشهود ضد ممارسات الحكومة التركية، وهو الذي عاش ما قاساه أهله من وراء هذه السياسة، وقد كتب رسالة إلى الصدر الأعظم في اسطنبول، يشرح فيها فساد الحكام في الكرك، وقد غير في خط يده، وتركها دون اسم أو توقيع، ومع ذلك بعد أشهر حقق معه المتصرف، واتهمه بكتابة الرسالة، وقام بنفيه إلى الطفيلة، فأرسل إليها مع جنديين تركيين، ولم يحاول الفرار، فقد تميز بالشجاعة والقدرة على تحمل النتائج.

أسهم عبد الله العكشة في تحويل عشيرته، من المذهب المسيحي الشرقي إلى الغربي، على إثر موقف راعي الكنيسة من ولعه بالمطالعة، وقد تزوج ثلاث مرات أولها عام 1901 حيث تزوج بفتاة من عائلة الحجازين، والثانية من عائلة الزعمط من السلط، والثالثة عام 1917 من عائلة أبو عقلة من بيت لحم. 

واستمر في مواجهة الظلم التركي للعرب، وعندما فرضت ( السخرة ) على العرب، نظم قصيدة تدعو لرفض هذا الحكم الجائر، وقرأها على شيوخ الكرك، فتبنوا دعوته وأرسلوا البرقيات التي تطالب برفع هذا الظلم، حتى استجابت الحكومة وتم رفع السخرة عن الكرك، ونتيجة لنهجه المناهض للدولة التركية، هو وشقيقه خليل وعدد من رجالات الكرك ومادبا، تم إلقاء القبض عليهم ونفيهم إلى منطقة قوزان في تركيا، ولم يتمكنوا من العودة إلى الوطن، إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وقاسى خلال هذه الفترة ويلات الحرب، فعبر عن هذه المعاناة في قصيدة مؤثرة.

خلال فترة الحكومة العربية، في عهد الملك فيصل، عين عبد الله العكشة عضواً في محكمة الكرك، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، فبعد سقوط الحكومة العربية في دمشق، وقيام حكومة محلية في الكرك، انتخب عضواً في المجلس العالي في حكومة الكرك، وقد واكب قدوم الأمير عبد الله بن الحسين إلى معان ومن ثم عمان، وتأسيسه لإمارة شرق الأردن عام 1921، ويعد العكشة من رجالات مرحلة التأسيس، فقد عين في بدايات تلك المرحلة عضواً في محكمة بداية اربد، ودلت هذه الوظائف الأخيرة على تقدير لخبرته القانونية، رغم عدم تحصله على مؤهل علمي، ومع ذلك حافظ على مبادئه، ورفضه لظلم الاستعمار الغربي للبلاد العربية، وخسر في سبيل ذلك وظيفته في المحكمة، عندما رفض تسليم مجاهدين سوريين التجأوا إلى الأردن، إلى الفرنسيين، بعد أن تبين له أنهم مناضلون شرفاء، وقاوم إلحاح المعتمد البريطاني، فتم الاستغناء عنه، فلم يفت ذلك في عضده، وبقي على رأيه وموقفه.

عاد عبد الله العكشة بعد خروجه من محكمة اربد إلى الكرك، وزاول العمل في المحاماة، مدافعاً عن أصحاب الحق، فكان يرفض الدفاع عن أي شخص ليس بصاحب حق، ولا يغريه المال أو الجاه، فقد كان زاهداً، يعيش يومه، ويحتمل الأحزان والخسارات مهما كانت قاسية، حيث تقبل مقتل ابنه البكر بشارة وهو في ريعان الشباب، واحتسبه عند الله، فكان مؤمناً بالقضاء والقدر، وعندما توفي أحد أطفاله الصغار، وفي بيته ضيوف لم يظهر عليه أي شيء. 

ونظراً لخبرته القانونية المشهودة، عين عضواً في لجنة وضع قانون مجلس النواب، في بداية مرحلة التأسيس، ولم يتفق رأيه مع رأي رئيس اللجنة إبراهيم هاشم، فحلت اللجنة وعندما أعيد تشكيلها لم تضم عبد الله العكشة، وخاض الانتخابات النيابية أكثر من مرة، لكنه لم يتمكن من دخول المجلس، وقد قدم للحكومة شكوى مع إثباتات، تبين أنه تم ترسيبه في الانتخابات، لكن شكواه لم تلق الاهتمام، وبقي يعمل في مهنة المحاماة حتى عام 1952، عندما أقنعه ابنه الدكتور فريد بالتقاعد، وعرف في حياته بحبه للعمل في الزراعة، فعمل بيديه دون كلل، وحافظ على حبه للمطالعة بشكل لافت، واستمر متمسكاً بمبادئه ومواقفه، حتى وفاته في عمان في السابع من شباط عام 1956.

توفيق عيسى يونس المجالي

|0 التعليقات
توفيق المجالي

هو صاحب الريادة بحق، فارس مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية الحديث، حيث استطاع بذكاء عميق، ووعي نادر بظروف ومآلات الحالة السياسية، أن يخوض عباب الأحداث والمهام الصعبة والحاسمة، بنجاح وإخلاص لافتين، وأن يضع مستقبله وحياته في سبيل قضية الأمة، منخرطاً في مشروعها التحرري والنهضوي منذ إرهاصاته الأولى، وكان صاحب الأسبقية في التجربة البرلمانية، منذ ما قبل تأسيس إمارة شرق الأردن بعقد تقريباً، فكان أول من مثل أبناء الأردن في مجلس المبعوثان العثماني، وجاء بعده السيد عطا الله الأيوبي، وكان توفيق المجالي قد قام بدوره بنجاح مدهش.

دافع عن قضايا وحقوق المنطقة الواسعة التي مثلها، رغم التهديد والمضايقات التي واجهها، والتي لم تثنه عن أداء الواجب، وكان دائماً مستعداً لم تتطلبه مواقفه من تضحيات، ودفع الثمن مهما غلا.

كان لواء الكرك يضم مناطق من شمال الحجاز حتى البلقاء، ويعد من أهم الألوية الإدارية جنوب الشام، منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى خروج العثمانيين من البلاد العربية، إثر قيام الثورة العربية الكبرى.

 وقد برزت أهميته بشكل خاص نتيجة موقعه الإستراتيجي على طريق الحج الشامي، وتوضح هذا الدور بعد مد سكة حديد الحجاز، الواصلة بين اسطنبول والمدينة المنورة، مما سهل على الحكومة التركية إحكام سيطرتها على المنطقة، وإثقال سكانها وجلهم من البدو والفلاحين، بالضرائب الجائرة والتجنيد الإجباري غير المنصف، الذي لا يراعى فيه السن القانوني المعتمد، وهذا وضع الأهالي في حالة احتقان كبيرة، دفعت الأمور إلى الانفجار فيما بعد، وهذه الظروف صنعت البيئة الاجتماعية والنفسية، التي واكبت ولادة توفيق المجالي.

ولد على أغلب الروايات في عام 1880، في بيت والده الشيخ عيسى يونس المجالي، وقد تربى على قيم الشجاعة والكرم، وتعلم الفروسية واستخدام السيف والبندقية في عمر مبكرة، ولازم مجلس والده منذ نعومة أظفاره، وهذا أكسبه معارف واسعة في الحياة اليومية، مهارات مبكرة في الاستماع والفهم والتحليل، وبالتالي المقدرة على مواجهة مصاعب الحياة القادمة.

حظي توفيق المجالي بفرصة التعلم في الكتّاب، وكانت هذه فرصة مناسبة ليتفتح وعيه باتجاه عوالم جديدة، فكان في دراسته في الكتّاب ذكياً، سريع الفهم والحفظ، محبوباً من الشيخ المعلم، وهذا شجع والده ليلحقه بالمدرسة الابتدائية في الكرك، وهي مدرسة صغيرة فيها عدد قليل من الطلبة والمعلمين، وندرة من أبناء المنطقة من تتاح لهم فرصة الالتحاق بالمدرسة.

أقبل على الدراسة بنهم شديد، وأنتظم فيها رغم أن الظروف المعيشية والسياسية لم تكن سانحة على الدوام، ونظراً لتميزه في التحصيل الدراسي، وتوقه للعلم فقد عمل والده على إرساله إلى دمشق، ليكمل دراسته في مدرسة مكتب عنبر، وهي مدرسة ثانوية ذائعة الصيت حينها، وكان لها الفضل في تخريج عدد من رجالات الأردن، في فترة مبكرة قبيل وبعد تأسيس إمارة شرق الأردن، وكان توفيق المجالي من الرعيل الأول الذين درسوا في هذه المدرسة.

تعرف توفيق المجالي في دمشق على تفاصيل عالم جديد، وتلقى معارف كثيرة داخل المدرسة وخارجها، وأصبح على دراية كافية بما يحدث في ولايات الدولة وفي العالم، من خلال الصحف والمجلات، ولقاءاته مع سياسيين ومثقفين عرب.

كانت دمشق من أبرز الحواضر العربية في تلك الفترة، ولعله كان متابعاً لبدايات الفكر القومي الحديث، الذي أخذ بالتشكل نتيجة ظلم وعنصرية حكام الدولة العثمانية في أواخر عهدها. فعندما أنهى دراسته في مكتب عنبر، عاد إلى مسقط رأسه الكرك، محملاً بالأفكار الوطنية التحررية، ساعياً في الوقت نفس إلى تحسين واقع الناس، وحظهم على تعليم أطفالهم ولو بالحدود المتاحة، واستطاع أن يلفت الانتباه إلى نفسه من خلال أسلوبه وثقافته، ووضعه لما حصله من علم في خدمة أهالي الكرك جميعاً، وهذا أسهم في تميزه، وتقدير الناس له وتعزيز مكانته بينهم.

عمل توفيق المجالي بعد عودته إلى الكرك، في محكمة الكرك النظامية، فقد كان عضواً ناشطاً فيها، منحازاً لقضايا الناس المحقة، وهذا العمل قربه أكثر من الناس البسطاء، وجعل له مكانة بين الأعيان والوجهاء في الكرك. وعندما جرت انتخابات مجلس المبعوثان العثماني في عام 1908 ، الذي يضم في عضويته ممثلين عن الولايات العثمانية المختلفة بنسب معينة، قدمه أبن عمه شيخ مشايخ الكرك قدر المجالي، ليترشح لهذا المنصب المهم والجديد على المنقطة، وقد رشحه إدراكاً منه لأهمية ونوعية المهام المناطة بعضو مجلس المبعوثان، فقد كان توفيق المجالي متعلماً بشكل جيد مقارنة بظروف التعليم في تلك المرحلة، بالإضافة إلى إتقانه للغة التركية العثمانية، مما يسهل عليه التواصل مع المسؤولين في الأستانة، وبالتالي تقديم خدمات أفضل للمنطقة، أخذاً بعين الاعتبار مكانته الاجتماعية وصلاته الوثيقة مع رجالات العرب الأحرار، فحقق النجاح المطلوب، وأصبح أول عضو من شرق الأردن في مجلس المبعوثان العثماني، الذي يعد تجربة جديدة تمر فيها المنطقة بعد عقود طويلة من الإهمال.

بعد نجاحه في الانتخابات أنتقل توفيق المجالي إلى عاصمة الدولة العثمانية الأستانة – اسطنبول – ليواظب على حضور اجتماعات المجلس، مدافعاً عن حقوق ومطالب أهالي المنطقة، وقد وضعه هذا الواقع، بالإضافة إلى وجوده في عاصمة دولة عظمى كالدولة العثمانية، في بؤرة الأحداث الحارة الإقليمية والعالمية، واحتك مباشرة بالمراكز السياسية والثقافية، وعمق من صلاته وعلاقاته بكبار رجالات العرب، من سياسيين ومثقفين وطلبة علم، حيث شكلت الأستانة ملتقى نخبة الشباب العربي.

 وهناك ناهض التمييز العنصر الذي يتعرض له العرب في العاصمة وفي مناطقهم، خاصة أن فترة عضويته للمجلس، جاءت في مرحلة شائكة ومليئة بالتعقيدات والمؤامرات، وصلت رأس هرم الدولة، فقد أطاح الاتحاديون وجلهم من الماسونيين ويهود الدونمة، بالسلطان العثماني عبد الحميد، وما نتج عنه من فرض لسياسة التتريك على رعايا الدولة من العرب، وتضييق عليهم، مما دفع بالمتنورين من العرب، للتحرك في مواجهة هذا الظلم الجائر، من خلال مناقشاتهم داخل المجلس، وفي الصالونات السياسية التابعة لهم، وقيامهم بتأسيس الجمعيات السرية، كجمعية العربية الفتاه، حيث يرجع إلى هذه المرحلة بداية بروز الشعور القومي لدى العرب.

أدى تردي أحوال المنطقة العربية في مختلف النواحي، واستشراء الظلم والتمييز، واثقال كاهل الأهالي بالضرائب، وسوء المعاملة، إلى دفع الناس في الكرك للثورة على هذا الواقع، فاندلعت ثورة الكرك – الهية – عام 1910، وحقق رجال الثورة نجاحاً مدهشاً، مما اضطر والي الشام إلى تسيير طوابير عسكرية مزودة بالمدافع، فعملت على إخماد الثورة بقسوة، وفتكت بالأهالي العزل، وقتلت عدداً كبيراً من الرجال، وشردت القسم الأكبر.

لعب توفيق المجالي دوراً مؤثراً لمعالجة الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة، كإحصاء النفوس والضرائب وتسجيل الأراضي والأملاك، ومحاولة التخفيف من نواتج الثورة على أهالي الكرك ومحيطها، لكنه لم يجد أذناً صاغية، بل حورب وتعرض للمضايقة، وهو الذي حذر مراراً من مغبة الاستمرار بسياسة التعنت، وعدم الاستجابة لمطالب العرب، وتمكن من حشد النواب العرب للدفاع عن قضية الكرك، وقد وصل الأمر بأصحاب القرار في الباب العالي – رئاسة الوزراء – الذين ضاقوا ذرعاً بمطالبات توفيق المجالي، أن اتهموه بالمشاركة في التدبير للثورة، مستندين إلى حجة واهية، وهي نص برقية أرسلها من اسطنبول إلى ابن عمه قدر باشا المجالي، يعلمه فيها بنية الحكومة المضي بقرار إحصاء النفوس في الكرك، وبذلك عليهم التصرف بما يرونه مناسباً، وكان قد كتب مقالاً في جريدة المقتبس الدمشقية عام 1911 بعنوان إصلاح الكرك. 

أعد توفيق المجالي تقارير موسعة عن أحداث الكرك ووزعها على نطاق واسع في اسطنبول، حيث توصل إلى أن المسؤول عن الأحداث هو والي الشام ومتصرف الكرك، ولم يستطع تقديم استجواب لناظر الداخلية لانشغال الدولة بحرب إيطاليا على ليبيا، لكنه قدمه للباب العالي، فنتج عن ذلك تغيير متصرف الكرك وتشكيل لجنة تحقيق، بالإضافة إلى وفد نيابي عربي، قابل ناظر الداخلية وقدم له تقريراً شاملاً عن ولاية الشام، لكن سياسة الانتقام بقيت سائدة، وتم اغتيال الشيخ قدر المجالي أحد أبرز قادة الثورة عام 1917، فاضطر النائب توفيق المجالي مغادرة اسطنبول، بعد مضايقة الاتحاديين وسعيهم لتقديمه للمحاكمة، ومن ثم صدرت الأوامر بالقبض عليه وإرساله تحت الحفظ إلى دمشق، فتم إرساله إلى بيروت في طريقه لدمشق، فتمكن من الإفلات من قبضتهم، والهروب إلى مصر على متن سفينة إنجليزية، وهناك تواصل مع الشخصيات والأحزاب السياسة، وكان مقرباً ومؤيداً لحزب اللامركزية الإدارية العثمانية، وبذلك ربما يكون توفيق المجالي أول لاجئ سياسي أردني. وهناك تمتع بترحاب وتقدير أحرار العرب مثقفيهم من مختلف المناطق. وفي عهد الحكومة العربية في دمشق، عين مساعداً لمتصرف لواء الكرك، وواصل مسيرته في العمل من أجل خير البلاد وتقدمها، حتى وفاته في شهر شباط عام 1920 قبيل تأسيس إمارة شرق الأردن. 

محمد الحسين العواملة .. من أنشط معارضي الإحتلال البريطاني لشرقي الأردن

|0 التعليقات

يذكر الدكتور هاني صبحي العمد في كتابه»أحسن الربط في تراجم رجالات من السلط»أن الشيخ محمد الحسين يوسف أحمد الحمدان العواملة ولد في مدينة السلط في عام 1880 م وتوفي فيها في أواخر عام 1941 م، ونشأ في كنف والده الذي كان من أبرز رجالات السلط وشيوخها في العهد العثماني، وعلى عادة تلك المرحلة التحق الطفل محمد الحسين كأترابه من أبناء جيله بأحد الكتاتيب في السلط لتعلم قراءة القرآن الكريم ومبادىء القراءة والكتابة والحساب، وأتقن في سن مبكرة فنون الفروسية ومارس هواية الصيد .

وكان محمد الحسين من الجيل الذي تفتح وعيه على المظالم التي كان قومه العرب يتجرَّعونها من الفريق جمال باشا السفاح الذي كان ينفذ سياسة حكومة حزب الإتحاد والترقـِّـي التي سيطرت على دولة الخلافة العثمانية في أواخر سنواتها، وكانت غالبية قيادة الحزب من يهود الدونمة ومن الماسونيين، وكان متطرفا في تبني القومية التركيثة الطورانية، ولم تكتف حكومة حزب الإتحاد والترقـِّـي بما كانت توقعه بالعرب من مظالم وتجهيل بل عمدت إلى محاولة إجبارهم قسرا على الإنسلاخ من هويتهم العربية لحساب الهوية القومية التركية الطورانية»سياسة التتريك» .

وكأترابه من أبناء جيله نشط محمد الحسين العواملة في الجناح الشبابي للحركة الوطنية العربية للتصدِّي لمظالم الإتحاديين، وكان الشيخ واحدا من المئات من رجالات وشباب العرب الذين حكم عليهم جمال باشا السفاح بالإعدام، وبعد خروج الأتراك من بلاد الشام وجد محمد الحسين العواملة وأبناء جيله أنفسهم أمام نكبة جديدة تجلت في نكث الإنجليز والفرنسيين لوعودهم وعهودهم التي قطعوها للشريف الحسين بن علي بمساعدة العرب على تأسيس دولة عربية توحد الأقطار العربية إذا حاربوا إلى جانبهم ضد الدولة العثمانية، وفرضوا سيطرتهم بالقوة العسكرية على البلاد العربية، فانخرط محمد الحسين في نشاطات الحركة الوطنية الأردنية التي أخذت على عاتقها التصدِّي للإحتلال البريطاني ولمخططات اليهود لإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين بدعم من الإنجليز تنفيذا لوعد الحكومة البريطانية لليهود من خلال رسالة بعث بها وزير خارجيتها اللورد المتصهين بلفور إلى زعيم اليهود في بريطانيا اللورد روتشلد، وبعد نجاح المحتلين الفرنسيين بتواطؤ مع حلفائهم الإنجليز في إسقاط الحكومة العربية الفيصلية في دمشق التي كانت مناطق شرقي الأردن تابعة لها حاول المحتلون الإنجليز فرض سيطرتهم إداريا على مناطق شرقي الأردن فتصدَّى أهالي شرق الأردن للخديعة الإنجليزية فشكـَّـلوا عدة حكومات محلية كان من بينها حكومة السلط المحلية لتتولى رعاية شؤون منطقة السلط التي كانت تضم إدارياً السلط وعمان ومادبا، وأطلق أهالي البلقاء على حكومتهم إسم»حكومة البلقاء العربية»ترجمة لمشاعرهم العروبية والوحدوية .

وكان الشيخ محمد باشا الحسين اليوسف الأحمد الحمدان العواملة أحد ممثلي السلط في مجلس الشورى الذي انتخبه الأهالي لتسيير أمور الحكومة المحلية، وبعد تأسيس الإمارة الأردنية بزعامة الأمير المؤسِّـس عبد الله الأول بن الحسين إختار الأمير المؤسِّـس الشيخ محمد الحسين العواملة عضوا في اللجنة الأهلية لوضع قانون للمجلس النيابي التي شكلها في عام 1923، وكان عضوا في مجلس بلدية السلط لعدة دورات، وشارك في تأسيس حزب الشعب الأردني الذي تأسَّـس بزعامة الشيخ عبد المهدي الشمايلة في عام 1927 م، وعلى صعيد التصدِّي للمحتلين الإنجليز كان محمد الحسين العواملة من منظمي المظاهرات الصاخبة ضد المحتلين الفرنسيين والإنجليز التي شهدتها السلط ومختلف المدن الأردنية في 8 / 3 / 1928 م بمناسبة ذكرى تأسيس الحكومة العربية بزعامة الملك فيصل بن الحسين في دمشق التي أجهضها المحتلون الفرنسيون بتواطؤ مع المحتلين، وكان محمد الحسين العواملة من بين أعضاء وفد عشائر السلط الذي قابل الأمير المؤسِّـس عبد الله بن الحسين بعد ان أضربت المدينة ثلاثة ايام متواصلة وضمَّ الوفد أكثر من «30» زعيما كان منهم محمد الحسين العواملة وسعيد الصليبي الفاعوري وسرور الحاج القطيشات وفوزي النابلسي ونمر الحمود العربيات وطاهر أبوالسمن الحياصات وعبد الله الداود الجزازي وفلاح الحمد الخريسات،وتحدث الشيخ محمد الحسين العواملة نيابة عن الوفدمخاطبا الأمير:»ياصاحب السموفوجئنا بالمعاهدة»الأردنية ـ البريطانية»ونحن اهالي البلاد الذين يحق لهم وحدهم تقرير مصيرهم وبما ان المعاهدة تقضي بان تكون بلادنا مستعبدة لانكلترا وهي بمثابة اعنة وضعت في رقابنا يقتادنا بها الإنكليز إلى حيث يشاؤون فاننا نرفضها» .

وطالب محمد الحسين باسم أهالي السلط باخذ رأي الأمة قبل التصديق على المعاهدة مشددا على ان مقاطعة البلقاء حضرها وباديتها ترفض هذه المعاهدة، وعلى ذات الصعيد شارك محمد الحسين العواملة مع وفد من شيوخ السلط ورجالاتها في المؤتمر الوطني الأول الذي شارك فيه شيوخ ورجالات الأردن من مختلف المناطق في 25/7/1928 م في مقهى حمدان الشهير في عاصمة الإمارة الأردنية عمان، وصاغوا فيه ميثاقاً وطنيا ً التقت عليه كل أطياف المجتمع الأردني في تلك الحقبة، ويعكس ما كان يتمتع به أجدادنا وآباؤنا الأفذاذ من رجالات الرعيل الأول من وعي سياسي وقانوني وإداري واقتصادي، إلى جانب ما كانوا يتمتعون به من روح وطنية ومشاعر عروبية ووحدوية،»يمكن مطالعة النص الكامل لمقررات المؤتمر وأسماء أعضاء الوفود للمؤتمر في الكتاب الوثائقي»تاريخ الأردن في القرن العشرين»لمؤلفيه الأستاذين منيب الماضي وسليمان الموسى»، وكان الشيخ محمد الحسين العواملة أحد ةممثلي البلقاء في اللجنة التنفيذبة لمتابعة قرارات المؤتمر والسهر على تنفيذها.