توفيق عيسى يونس المجالي

توفيق المجالي

هو صاحب الريادة بحق، فارس مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية الحديث، حيث استطاع بذكاء عميق، ووعي نادر بظروف ومآلات الحالة السياسية، أن يخوض عباب الأحداث والمهام الصعبة والحاسمة، بنجاح وإخلاص لافتين، وأن يضع مستقبله وحياته في سبيل قضية الأمة، منخرطاً في مشروعها التحرري والنهضوي منذ إرهاصاته الأولى، وكان صاحب الأسبقية في التجربة البرلمانية، منذ ما قبل تأسيس إمارة شرق الأردن بعقد تقريباً، فكان أول من مثل أبناء الأردن في مجلس المبعوثان العثماني، وجاء بعده السيد عطا الله الأيوبي، وكان توفيق المجالي قد قام بدوره بنجاح مدهش.

دافع عن قضايا وحقوق المنطقة الواسعة التي مثلها، رغم التهديد والمضايقات التي واجهها، والتي لم تثنه عن أداء الواجب، وكان دائماً مستعداً لم تتطلبه مواقفه من تضحيات، ودفع الثمن مهما غلا.

كان لواء الكرك يضم مناطق من شمال الحجاز حتى البلقاء، ويعد من أهم الألوية الإدارية جنوب الشام، منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى خروج العثمانيين من البلاد العربية، إثر قيام الثورة العربية الكبرى.

 وقد برزت أهميته بشكل خاص نتيجة موقعه الإستراتيجي على طريق الحج الشامي، وتوضح هذا الدور بعد مد سكة حديد الحجاز، الواصلة بين اسطنبول والمدينة المنورة، مما سهل على الحكومة التركية إحكام سيطرتها على المنطقة، وإثقال سكانها وجلهم من البدو والفلاحين، بالضرائب الجائرة والتجنيد الإجباري غير المنصف، الذي لا يراعى فيه السن القانوني المعتمد، وهذا وضع الأهالي في حالة احتقان كبيرة، دفعت الأمور إلى الانفجار فيما بعد، وهذه الظروف صنعت البيئة الاجتماعية والنفسية، التي واكبت ولادة توفيق المجالي.

ولد على أغلب الروايات في عام 1880، في بيت والده الشيخ عيسى يونس المجالي، وقد تربى على قيم الشجاعة والكرم، وتعلم الفروسية واستخدام السيف والبندقية في عمر مبكرة، ولازم مجلس والده منذ نعومة أظفاره، وهذا أكسبه معارف واسعة في الحياة اليومية، مهارات مبكرة في الاستماع والفهم والتحليل، وبالتالي المقدرة على مواجهة مصاعب الحياة القادمة.

حظي توفيق المجالي بفرصة التعلم في الكتّاب، وكانت هذه فرصة مناسبة ليتفتح وعيه باتجاه عوالم جديدة، فكان في دراسته في الكتّاب ذكياً، سريع الفهم والحفظ، محبوباً من الشيخ المعلم، وهذا شجع والده ليلحقه بالمدرسة الابتدائية في الكرك، وهي مدرسة صغيرة فيها عدد قليل من الطلبة والمعلمين، وندرة من أبناء المنطقة من تتاح لهم فرصة الالتحاق بالمدرسة.

أقبل على الدراسة بنهم شديد، وأنتظم فيها رغم أن الظروف المعيشية والسياسية لم تكن سانحة على الدوام، ونظراً لتميزه في التحصيل الدراسي، وتوقه للعلم فقد عمل والده على إرساله إلى دمشق، ليكمل دراسته في مدرسة مكتب عنبر، وهي مدرسة ثانوية ذائعة الصيت حينها، وكان لها الفضل في تخريج عدد من رجالات الأردن، في فترة مبكرة قبيل وبعد تأسيس إمارة شرق الأردن، وكان توفيق المجالي من الرعيل الأول الذين درسوا في هذه المدرسة.

تعرف توفيق المجالي في دمشق على تفاصيل عالم جديد، وتلقى معارف كثيرة داخل المدرسة وخارجها، وأصبح على دراية كافية بما يحدث في ولايات الدولة وفي العالم، من خلال الصحف والمجلات، ولقاءاته مع سياسيين ومثقفين عرب.

كانت دمشق من أبرز الحواضر العربية في تلك الفترة، ولعله كان متابعاً لبدايات الفكر القومي الحديث، الذي أخذ بالتشكل نتيجة ظلم وعنصرية حكام الدولة العثمانية في أواخر عهدها. فعندما أنهى دراسته في مكتب عنبر، عاد إلى مسقط رأسه الكرك، محملاً بالأفكار الوطنية التحررية، ساعياً في الوقت نفس إلى تحسين واقع الناس، وحظهم على تعليم أطفالهم ولو بالحدود المتاحة، واستطاع أن يلفت الانتباه إلى نفسه من خلال أسلوبه وثقافته، ووضعه لما حصله من علم في خدمة أهالي الكرك جميعاً، وهذا أسهم في تميزه، وتقدير الناس له وتعزيز مكانته بينهم.

عمل توفيق المجالي بعد عودته إلى الكرك، في محكمة الكرك النظامية، فقد كان عضواً ناشطاً فيها، منحازاً لقضايا الناس المحقة، وهذا العمل قربه أكثر من الناس البسطاء، وجعل له مكانة بين الأعيان والوجهاء في الكرك. وعندما جرت انتخابات مجلس المبعوثان العثماني في عام 1908 ، الذي يضم في عضويته ممثلين عن الولايات العثمانية المختلفة بنسب معينة، قدمه أبن عمه شيخ مشايخ الكرك قدر المجالي، ليترشح لهذا المنصب المهم والجديد على المنقطة، وقد رشحه إدراكاً منه لأهمية ونوعية المهام المناطة بعضو مجلس المبعوثان، فقد كان توفيق المجالي متعلماً بشكل جيد مقارنة بظروف التعليم في تلك المرحلة، بالإضافة إلى إتقانه للغة التركية العثمانية، مما يسهل عليه التواصل مع المسؤولين في الأستانة، وبالتالي تقديم خدمات أفضل للمنطقة، أخذاً بعين الاعتبار مكانته الاجتماعية وصلاته الوثيقة مع رجالات العرب الأحرار، فحقق النجاح المطلوب، وأصبح أول عضو من شرق الأردن في مجلس المبعوثان العثماني، الذي يعد تجربة جديدة تمر فيها المنطقة بعد عقود طويلة من الإهمال.

بعد نجاحه في الانتخابات أنتقل توفيق المجالي إلى عاصمة الدولة العثمانية الأستانة – اسطنبول – ليواظب على حضور اجتماعات المجلس، مدافعاً عن حقوق ومطالب أهالي المنطقة، وقد وضعه هذا الواقع، بالإضافة إلى وجوده في عاصمة دولة عظمى كالدولة العثمانية، في بؤرة الأحداث الحارة الإقليمية والعالمية، واحتك مباشرة بالمراكز السياسية والثقافية، وعمق من صلاته وعلاقاته بكبار رجالات العرب، من سياسيين ومثقفين وطلبة علم، حيث شكلت الأستانة ملتقى نخبة الشباب العربي.

 وهناك ناهض التمييز العنصر الذي يتعرض له العرب في العاصمة وفي مناطقهم، خاصة أن فترة عضويته للمجلس، جاءت في مرحلة شائكة ومليئة بالتعقيدات والمؤامرات، وصلت رأس هرم الدولة، فقد أطاح الاتحاديون وجلهم من الماسونيين ويهود الدونمة، بالسلطان العثماني عبد الحميد، وما نتج عنه من فرض لسياسة التتريك على رعايا الدولة من العرب، وتضييق عليهم، مما دفع بالمتنورين من العرب، للتحرك في مواجهة هذا الظلم الجائر، من خلال مناقشاتهم داخل المجلس، وفي الصالونات السياسية التابعة لهم، وقيامهم بتأسيس الجمعيات السرية، كجمعية العربية الفتاه، حيث يرجع إلى هذه المرحلة بداية بروز الشعور القومي لدى العرب.

أدى تردي أحوال المنطقة العربية في مختلف النواحي، واستشراء الظلم والتمييز، واثقال كاهل الأهالي بالضرائب، وسوء المعاملة، إلى دفع الناس في الكرك للثورة على هذا الواقع، فاندلعت ثورة الكرك – الهية – عام 1910، وحقق رجال الثورة نجاحاً مدهشاً، مما اضطر والي الشام إلى تسيير طوابير عسكرية مزودة بالمدافع، فعملت على إخماد الثورة بقسوة، وفتكت بالأهالي العزل، وقتلت عدداً كبيراً من الرجال، وشردت القسم الأكبر.

لعب توفيق المجالي دوراً مؤثراً لمعالجة الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة، كإحصاء النفوس والضرائب وتسجيل الأراضي والأملاك، ومحاولة التخفيف من نواتج الثورة على أهالي الكرك ومحيطها، لكنه لم يجد أذناً صاغية، بل حورب وتعرض للمضايقة، وهو الذي حذر مراراً من مغبة الاستمرار بسياسة التعنت، وعدم الاستجابة لمطالب العرب، وتمكن من حشد النواب العرب للدفاع عن قضية الكرك، وقد وصل الأمر بأصحاب القرار في الباب العالي – رئاسة الوزراء – الذين ضاقوا ذرعاً بمطالبات توفيق المجالي، أن اتهموه بالمشاركة في التدبير للثورة، مستندين إلى حجة واهية، وهي نص برقية أرسلها من اسطنبول إلى ابن عمه قدر باشا المجالي، يعلمه فيها بنية الحكومة المضي بقرار إحصاء النفوس في الكرك، وبذلك عليهم التصرف بما يرونه مناسباً، وكان قد كتب مقالاً في جريدة المقتبس الدمشقية عام 1911 بعنوان إصلاح الكرك. 

أعد توفيق المجالي تقارير موسعة عن أحداث الكرك ووزعها على نطاق واسع في اسطنبول، حيث توصل إلى أن المسؤول عن الأحداث هو والي الشام ومتصرف الكرك، ولم يستطع تقديم استجواب لناظر الداخلية لانشغال الدولة بحرب إيطاليا على ليبيا، لكنه قدمه للباب العالي، فنتج عن ذلك تغيير متصرف الكرك وتشكيل لجنة تحقيق، بالإضافة إلى وفد نيابي عربي، قابل ناظر الداخلية وقدم له تقريراً شاملاً عن ولاية الشام، لكن سياسة الانتقام بقيت سائدة، وتم اغتيال الشيخ قدر المجالي أحد أبرز قادة الثورة عام 1917، فاضطر النائب توفيق المجالي مغادرة اسطنبول، بعد مضايقة الاتحاديين وسعيهم لتقديمه للمحاكمة، ومن ثم صدرت الأوامر بالقبض عليه وإرساله تحت الحفظ إلى دمشق، فتم إرساله إلى بيروت في طريقه لدمشق، فتمكن من الإفلات من قبضتهم، والهروب إلى مصر على متن سفينة إنجليزية، وهناك تواصل مع الشخصيات والأحزاب السياسة، وكان مقرباً ومؤيداً لحزب اللامركزية الإدارية العثمانية، وبذلك ربما يكون توفيق المجالي أول لاجئ سياسي أردني. وهناك تمتع بترحاب وتقدير أحرار العرب مثقفيهم من مختلف المناطق. وفي عهد الحكومة العربية في دمشق، عين مساعداً لمتصرف لواء الكرك، وواصل مسيرته في العمل من أجل خير البلاد وتقدمها، حتى وفاته في شهر شباط عام 1920 قبيل تأسيس إمارة شرق الأردن. 
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).