المهندس جعفر الشامي

جعفر الشامي

شكلت حياة المهندس جعفر الشامي، حالة فريدة في تحدي الصعاب، ومواجهة الأوضاع المعيشية القاسية بالعمل والعلم والتميز، فلم ينعم بطفولة سهلة منعمة، ولم يتمتع في شبابه بمغريات الحياة، ولم يأخذه طيش تلك الفئة العمرية، فقد عانى مما عانى منه أبناء جيله في مرحلة بناء الدولة.

كان الفقر والحاجة لأن تتكاتف العائلة، بكافة أفرادها ومن مختلف الأعمار، من أجل مواجهة صعوبات الحياة، وتوفير مستلزمات العيش الكريم، ومتطلبات تعليم الأبناء، وهذا ما تمثل بشكل واضح، في مسيرة حياة المهندس جعفر الشامي، في مختلف المراحل، وهي الفترة الصعبة التي خرجت معظم رجالات الأردن في مرحلة التأسيس والمراحل التي تلتها.

ينتمي جعفر الشامي إلى عائلة سلطية، تعود بأصولها إلى عائلة الدبس الدمشقية، وهي عائلة معروفة في منطقة الميدان بدمشق، ولها تاريخ مشرف في النضال ضد العنصرية التركية في عهد الإتحاد والترقي، ودعم الثورة العربية الكبرى، ومعاضدة الحكومة العربية التي أسست في سوريا، وعلى رأسها الملك فيصل بن الحسين، ومع دخول الفرنسيين دمشق، وملاحقاتهم للعائلات الوطنية، التي رفضت وجودهم ودعمت الثوار، أضطر عدد منها للسفر إلى شرق الأردن والاستقرار فيها، وقد استقرت عائلة الدبس في السلط، التي شهدت حراكاً اجتماعياً وديموغرافياً كبيراً.

في مدينة السلط ظهر لقب « الشامي « كبديل لاسم العائلة، ومع الأيام سميت العائلة بالشامي، حيث سرعان ما اندغمت العائلة في النسيج الاجتماعي لمدينة السلط، ولعبت دوراً ملحوظاً في نهضتها، والجهود التي بذلت للمحافظة على تراثها العميق.

ولد جعفر الشامي في مدينة السلط عام 1925، وتشرب تفاصيل المكان منذ صغره، حيث لعب في حاراتها، ومارس شقاوات الطفولة الأولى، في شوارعها وأزقتها العامرة بالحياة والحركة، ولم تأخذه السنوات أبداً، فقد التحق بمدرسة السلط ودرس فيها المرحلة الابتدائية، وقد كان نبيهاً سريع التعلم، قادراً على تحصيل أعلى العلامات بذكاء، دون أن يمضي وقتاً طويلاً في الدراسة، فقد اعتاد منذ صغره، خاصة في العطل الرسمية والعطلة الصيفية، على مساعدة والده الذي كان صاحب أول كراج لتصليح السيارات في السلط، حيث تعلم الصنعة من والده، وأحبها إلى درجة أنها رسمت مستقبله العلمي والمهني بشكل واضح، وقد برع في مساعدة والده في هذا المجال.

حين انتقل والده إلى مدينة اربد، ليؤسس كسارة للحصمة، كان يلحق بوالده ليساعده في عمله كلما سنحت الفرصة، ومع ذلك لم يتخل عن مشروعه العلمي، فقد واصل دراسته الثانوية في مدرسة السلط الثانوية، وكانت هذه المدرسة تضم خيرة المدرسين من الأردن والمناطق المجاورة، وكان من المعلمين الذين أثروا في شخصيته بشكل كبير: حسني فريز، الشيخ حسن البرقاوي، جميل شاكر الخانجي وغيرهم من المعلمين الذين تميزوا بحسهم الوطني العالي، واهتمامهم بالقضايا الوطنية الكبرى، وقد نقلوا هذا الحس إلى طلبتهم، وكان جعفر الشامي أحد هؤلاء الطلبة، فقد تشبع بالروح الوطنية العروبية، وأصبح مهتماً بما يجرى على ساحات الوطن العربي الكبير، وشارك أساتذته وزملاءه عدداً من المسيرات والمظاهرات، التي خرجت منددة بالمؤامرة الغربية في فلسطين، منادية بخروج المستعمرين، واستقلال العرب ووحدتهم ضمن دولة واحدة قوية، من أجل إعادة الق الحضارة العربية لتواصل مسيرتها التاريخية.

أنهى الشامي دراسته الثانوية من مدرسة السلط عام 1945، وحاز علامات مرتفعة أهلته لدراسة التخصص الأكاديمي الذي يرغب فيه، ونتيجة تعلقه بالميكانيك منذ ورشة والده لتصليح السيارات في السلط، قرر السفر إلى القاهرة، والالتحاق بجامعة عين شمس بكلية الهندسة، حيث درس تخصص الهندسة الميكانيكية، وقد تخرج في الجامعة عام 1949، وخلال فترة دراسته في القاهرة، تواصل مع نخبة الشباب العربي المثقف، وأصبح أكثر قرباً من مجريات الأحداث السياسية، التي تسارعت في المنطقة العربية، بشكل ملحوظ ومثير للقلق، ومارس بعض الأنشطة الثقافية والسياسية التي نادت بالحرية والاستقلال. بعد تخرجه عاد المهندس جعفر الشامي إلى وطنه الأردن، ليباشر مشواره الجديد في الحياة العملية، وهو الذي تعود منذ صغره على العمل وتحمل المسؤولية، فتقدم للعمل بكل حماس ومحبة.

أختار المهندس جعفر الشامي الانضمام للقوات المسلحة الأردنية، مترجماً بذلك تعلقه بتراب الوطن، وإدراكه لضرورة الدفاع عنه، لما في ذلك من قوة ومنعة للعرب جميعاً، وبذلك أصبح أحد ضباط الجيش العربي الأردني، وقد خدم في الجيش حتى عام 1956، وقد رقي إلى رتبة رئيس - رائد – وخلال خدمته العسكرية، تمكن من تحصيل خبرات عملية كبيرة ومتنوعة.

وعندما خرج من الجيش العربي، عين في وزارة الأشغال العامة، حيث عمل مهندساً ميكانيكياً في دائرة الميكانيك، واستمر يعمل مهندساً في هذه الدائرة حتى عام 1965، عندما قرر مغادرة العمل الرسمي، والانخراط في العمل الخاص، حيث أصبح مديراً عاماً لشركة خاصة، وقد وفر له هذا العمل الاستقرار الوظيفي، الذي مكنه من القيام بأنشطة نقابية وسياسية واجتماعية متعددة، جعلت منه شخصية عامة معروفة ومؤثرة.

خاض جعفر الشامي انتخابات نقابة المهندسين، وفاز بمنصب نقيب المهندسين الأردنيين عام 1965، ونظراً لما تمتع به من شعبية كبيرة، وخبرة عملية ومواقف وطنية عروبية صادقة، تمكن من البقاء في منصبه هذا، مدة أربع دورات متتالية حتى عام 1974، وخلال فترة توليه منصب نقيب المهندسين الأردنيين، ولنشاطه الواسع على مستوى الوطن العربي، ولعلاقاته العديدة والعميقة، أنتخب عام 1970 رئيساً لإتحاد المهندسين العرب، مما مكنه من القيام بدور مؤثر على نطاق أوسع، بالإضافة لتحقيق مكاسب نقابية لمنتسبي نقابة المهندسين، حتى عد من أبرز من تبوأ هذا المنصب.

في أعقاب خسارة العرب لحرب حزيران عام 1967، ونظراً لانتمائه الفكري للقومية العربية، ورفضه للاستعمار الغربي، ومقاومته للاحتلال والظلم، شكل مع مجموعة من الشخصيات الحزبية والمهنية وشخصيات مستقلة ما سمي « التجمع المهني « وكان من نشطاء هذا التجمع، وقد تشكل هذا التجمع وفي هاجسه، البحث عن أسباب الهزيمة ومن أجل وضع إطار للعمل الوطني لمرحلة ما بعد الهزيمة، وكان جعفر الشامي أحد أعضاء الهيئة التأسيسية، ممثلاً لنقابة المهندسين، وقد لعب هذا التجمع دوراً بارزاً على الساحة الداخلية خلال الفترة بين عامي 1967 و1971، وأصبح اسمه التجمع الوطني المهني، حيث أسهم في امتصاص الآثار التي أفرزتها أحداث عام 1970، وكان لمقترحات التجمع صداه الإيجابي لدى الحكومة، حيث تبنت حكومة   عبد المنعم الرفاعي معظم هذه المقترحات، وقد ضمت عند تشكيلها عدداً من الشخصيات المنضوية في هذا التجمع، منهم جعفر الشامي والشيخ عبد الحميد السائح وسليمان الحديدي داود الحسني.

تسلم المهندس جعفر الشامي حقيبة وزارة الأشغال، في حكومة  الرفاعي التي شكلت في السابع والعشرين من شهر حزيران عام 1970، وفي عام 1978 اختير الشامي ليكون عضواً في المجلس الوطني الاستشاري، كما صدرت الإرادة الملكية بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان عام 1989. وكان صاحب مبادرات اجتماعية كبيرة، فقد ترأس الجمعية الثقافية العربية، التي تأسست عام 1967، وتمخض عنها تأسيس مدرسة الرائد العربي،  وبقي محباً للسلط مخلصاً لتاريخها وإرثها وناسها، فقد تشارك مع عدد من أبناء السلط،  وقاموا بإنشاء مؤسسة إعمار السلط، التي تأسست عام 1982، من أجل الحفاظ على التراث المعماري لمدينة السلط، حيث ترأس مجلس إدارتها حتى عام 1995، واستمر يعمل وينشط في كافة المجالات حتى توفاه الله في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني عام 1998.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).