محمد رسول الكيلاني

محمد رسول الكيلاني

كان من الرجال الذين ارتبطت أسماؤهم بالمهام الجسام، والظروف الصعبة، وممن سطروا سفر بطولاتهم في سجلات المجد الوطني، فكان من الذين دافعوا عن الوطن في أحلك المواقف، فغدا خلال مواقفه المشهودة، وولائه العميق للأرض والإنسان والقيادة، سداً منيعاً في وجه المتآمرين الظلاميين.

  بقي محافظاً على مكانته ومواقفه، التي لم يساوم عليها في يوم من الأيام أو مرحلة من المراحل، ولم يتخل عن دوره أو يتردد في أداء واجبه، حتى عندما تطلب ذلك تحمل مخاطر العمل، لذا أضطر في أكثر من مرحلة وظيفية، أن يضع روحه  صوناً لأمن الوطن واستقراره، فقد عد نفسه جندياً في خطوط الدفاع الأولى، ولم يقبل أن يتراجع عن حماه قيد أنملة، وهو الذي تنقل في عمله بين الخدمة المدنية، وشرف الخدمة العسكرية، وجهاز الأمن العام والمخابرات العامة، والسلك الدبلوماسي والمناصب الوزارية، فكان ولا زال إنموذجاً للأردني المتميز بالولاء والعمل والإخلاص.

كانت السلط بتاريخها العميق، وإرثها الاجتماعي الثري وحاضرها المزدهر، المدرسة الحقيقية التي تلقي فيها معارفه ومهاراته وسماته الأصيلة، فمن هذه المدينة الناهضة برز معظم رجالات الأردن، حيث شهدت مدرستها الريادية وساحاتها ومضافاتها، حراكاً سياسياً وفكرياً عز نظيره، وهي الواقعة في منطقة التأثير والتأثر، حيث ارتبطت بالنضال العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعاضدت النضال الفلسطيني، ودعمت الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، فكان أن تأثر محمد رسول الكيلاني، بالرعيل الأول من رجالات الأردن، من أبناء السلط أو ممن درسوا في مدرستها العريقة. وقد ساعدته نشأته في حارات وأزقة السلط العامرة بالحياة والنشاط، أن تعلق بالأرض الأردنية، مدركاً منذ صغره أهمية المحافظة عليها والذود عنها، فقد رهن عمره القادم دفاعاً عنها بالغالي والنفيس.

ولد محمد رسول الكيلاني في مدينة السلط، حاضرة البلقاء والمدينة الأنشط في وسط البلاد في تلك الفترة، فقد كانت ولادته في الثلاثين من شهر آذار عام 1933، حيث كانت إمارة شرق الأردن في معترك مرحلة التأسيس، في ظل ظروف اقتصادية وسياسية بالغة الصعوبة. وقد ترعرع الكيلاني في هذه المدينة المليئة الحياة في مختلف المجالات، حيث تلقى بعض المهارات الدراسية في الكتّاب، لكنه سرعان ما التحق بالمدرسة الابتدائية، وقد تميز بجديته وتفانيه في الدراسة، والالتزام بالأخلاق الكريمة والصفات النبيلة، وبعد أن تمكن من إنهاء المرحلة الابتدائية بنجاح بتميز، انتقل إلى مدرسة السلط الثانوية، وهي أول مدرسة ثانوية في إمارة شرق الأردن، وخلال دراسته في هذه المدرسة، بدأ وعيه الوطني والسياسي بالتشكل، وقد زامل وتعرف على عدد من رجالات البلاد في مختلف المجالات، وكانت المدرسة ومن خلال مدرسيها وطلبتها، منفتحة على الأحداث السياسية والعسكرية في المنطقة العربية، وتتفاعل معها من خلال المسيرات والوطنية، التي تطالب بحرية العرب واستقلالهم الحقيقي.

تمكن محمد رسول الكيلاني من إنهاء دراسته الثانوية، وتخرج من مدرسة السلط حاصلاً شهادة الثانوية العامة، وكان من الطلبة والمجتهدين، وفضل رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية، أن يتابع مشواره في الدراسة، فقد رغب في الدراسة الجامعية، ولم يكن في الأردن في تلك الفترة جامعات، فسافر إلى الجمهورية السورية، حيث التحق بالجامعة السورية، التي أصبحت فيما بعد باسم جامعة دمشق، وأصبح طالباً في كلية الاقتصاد، وقد تخرج من جامعة دمشق عام 1956، حاصلاً على لسانس في العلوم المالية والاقتصادية، ولم يكتف الكيلاني بهذه الشهادة، فقد قرر مواصلة الدراسة في نفس الجامعة، ولكنه اختار تخصصاً جديداً، حيث درس القانون في كلية الحقوق، ونال شهادة اللسانس في الحقوق عام 1969.

وكان محمد رسول الكيلاني الذي عاد إلى وطنه الأردن، ليتفرغ لحياته العملية التي بدأها قبل ذلك، عندما عمل مدرساً في مدارس وزارة التربية والتعليم، وذلك خلال الفترة بين عامي 1953 و1957، وكانت هذه مرحلة غنية بالخبرة، وقربته كثيراً من الناس من مختلف الفئات. وبعد عمله الناجح، ولما حصله من خبرات علمية وعملية، قرر الالتحاق بالجيش العربي – القوات المسلحة الأردنية – حيث كان الجيش يضطلع بمهام جسام، وبحاجة إلى عدد من الشباب المتعلم، والقادر على حمل راية التطوير والتحسين النوعي، لقطاعات القوات المسلحة المختلفة، وقد دخل الخدمة في الجيش برتبة ملازم، ولم يلبث أن أصبح مستشاراً عدلياً في الجيش حتى عام 1960، مستثمراً شهادته الجامعية في الحقوق، وفي عام 1961 تم نقل محمد رسول الكيلاني إلى جهاز الأمن العام، ورقي إلى رتبة رئيس أول.

عمل الكيلاني نائباً لمدير المباحث العامة، حيث تم ترقيته عندها ليصبح برتبة مقدم، وقد لفت الانتباه بما تميز به من ذكاء، وقدرة ودقة في التحليل وبراعة في جمع المعلومات وتصنيفها، بالإضافة لما تمتع به من انضباط والتزام، فقد أهلته هذه المرتكزات ليصبح مديراً لمكتب التحقيقات السياسية، وكان عندها قد رقي إلى رتبة عقيد، وذلك خلال الفترة الممتدة من عام 1962 وحتى عام 1964. وكان لهذه الخبرات الكبيرة التي حصلها، وتميزه في القيام بمهامها باقتدار، أن أهلته ليتبوأ منصب مدير المخابرات العامة، وكان ذلك في شهر نيسان من عام 1964، وقد استمر بهذا المنصب حتى عام 1968، وكانت له جهود كبيرة في تطوير وتحديث جهاز المخابرات العامة، حتى أعتبر مؤسس المخابرات الأردنية الحديثة، وقد تسلم أعباء هذا الجهاز الوطني، في فترة بالغة الصعوبة، وكثيرة التعقيد محلياً وخارجياً.

بعد مغادرة منصب مدير عام المخابرات العامة، عين سفيراً فوق العادة في وزارة الخارجية، لكن وبعد مضي سبعة أشهر، تم تعيين محمد رسول الكيلاني مديراً لمديرية الأمن العام حتى عام 1969. بعد هذا المنصب دخل إلى الحياة السياسية عندما أسندت إليه حقيبة وزارة الداخلية، في فترة بالغة الحساسية، وقد استمر بمنصب وزير الداخلية حتى شهر شباط عام 1970، ونتيجة للأحداث الأمنية التي شهدها الأردن مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عين الكيلاني مستشاراً للمغفور له الملك الحسين بن طلال لشؤون الأمن القومي، ومديراً للمخابرات العامة، وقد أخذ عليه  ، صرامته وعدم تهاونه في فيما يتعلق بأمن الوطن والمواطن، وكان هذه المآخذ نفسها، سبب تعلق الناس به وحبهم لهم، فقد كان ولا زال في عيونهم بطلاً وطنياً، عمل على حماية وطنه من المؤامرات.

عمل محمد رسول الكيلاني مديراً للمخابرات العامة حتى عام 1974، حيث أحيل على التقاعد من الخدمة العسكرية، وفي عام 1984 عين سفيراً للأردن في المملكة العربية السعودية، ليعود للعمل العام، وقد استمر بمهمة الدبلوماسية هذه حتى عام 1988، حيث عاد إلى الأردن بعدها، وقد صدرت الإرادة الملكية بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان الأردني، حيث استمر عضواً في مجلس الأعيان من عام 1988 وحتى عام 1993، وبعد انفضاض المجلس عين مستشاراً للمغفور له الملك حسين بن طلال لشؤون الأمن القومي، وذلك خلال الفترة من عام 1993 وحتى عام 1996.

وأعيد تعيين محمد رسول الكيلاني عضواً في مجلس الأعيان الأردني منذ عام 1996 وحتى عام 2003، وقد عرف الكيلاني بعمله الجاد والمخلص، ونهض بمسؤولياته حتى لحظاته الأخيرة، ولم تثبط عزيمته التهديدات أو محاولات الاغتيال، التي فشلت في النيل منه أو من مواقفه، وبقي ممسكاً بحبل الولاء، منافحاً عن وطنه وناسه، حتى توفي الفريق الأول محمد رسول الكيلاني، في التاسع والعشرين من شهر كانون أول عام 2003.
تعليقات (فيس بوك)
2تعليقات (بلوجر)

2 التعليقات:

  • غير معرف يقول :
    11 يناير 2012 في 1:36 ص

    شكرا جزيلا على هذا المقال الرائع. الله يرحمك ويرحم ترابك

  • مدير الموقع يقول :
    11 يناير 2012 في 1:53 ص

    مشكور أخي الكريم على مرورك

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).