عوني بلال قاسم .. من صقور سلاح الجو الأردني

اللواء عوني بلال قاسم

لقد أدرك سمو الأمير المؤسس عبد الله الأول بن الحسين، أهمية بناء القدرات العسكرية لإمارة شرق الأردن، نظراً للظروف العسكرية والسياسية التي تمر بها المنطقة، ولعدم توفر الإمكانيات المادية والقوى البشرية المؤهلة، تم إيلاء القوات المسلحة البرية الأولوية، لكن لا يعني ذلك تأخر تشكيل نواة السلاح الجوي كثيراً، فلقد حتمت الظروف المحيطة، أن تضطلع الأردن بمهام، وتواجه أعباء تفوق حجمها وقدراتها، حيث كانت البلاد العربية تقع تحت هيمنة القوى الاستعمارية الغربية، وإدارة دول الانتداب، ومن هذه الدول بريطانيا التي انتدبت على فلسطين والأردن والعراق.

وقد عملت بريطانيا على إقامة قاعدة جوية في الأردن عام 1931، وكان لهذه القاعدة دور في إدارك أهمية هذا السلاح الحديث للأردن، حيث قامت الأردن بتأسيس نواة لهذا السلاح عام 1950، كانت بمثابة ذراع جوية أردنية، كانت تسمى ( الفيلق الجوي العربي ) وتم تدريب طيارين أردنيين في بريطانيا، التي اعتبرت الأفضل عالمياً في تلك المرحلة في هذا المجال، وقد ظهرت مساهمة سلاح الجو الناشئ لأول مرة، خلال تفوقه بمعركة البحر الميت عام 1964، على الطيران الإسرائيلي الحديث وصاحب الخبرة، وأيضاً في مواجهات معركة السموع 1966، وحرب حزيران 1967.

يعد اللواء عوني بلال قاسم، من أبرز ضباط وقادة سلاح الجو، وهو من رجالات العشائر الشركسية، التي لعبت دوراً مؤثراً خلال مراحل تأسيس الدولة المختلفة، حيث أضافوا غنى عميقاً في التركيبة الديموغرافية للأردن، واسهم وجودهم في توسيع أفق التنوع الثقافي، وقدموا منذ انخراطهم في النسيج الوطني الاجتماعي، رجالات تميزوا بالولاء والإخلاص، والقدرة على القيام بالمهام الصعبة في أحلك الظروف، وأقصي المواقف. ينتمي عوني بلال إلى عشيرة ( قالة ) أو( غالة ) الشركسية، التي كانت تتميز بما تميز به الشركس عبر تاريخهم الطويل بالفروسية والشجاعة، حيث انخرط عدد كبير من أبناء العشائر الشركسية، في القوات المسلحة الأردنية، وفي مختلف التشكيلات البرية والجوية، فقدموا ولا زالوا يقدمون الجنود والضباط والقادة والشهداء الأبرار.

ولد اللواء عوني بلال قاسم قالة في عام 1945، وقد زاملت ولادته مرحلة الاستقلال، والتي تحولت بعدها إمارة شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية، حيث بدأت مرحلة جديدة من مسيرة الأردن في تكريس الدولة والنهوض بالتنمية في كل الميادين. نشأ عوني بلال في مسقط رأسه مدينة عمان، التي كانت تشهد حراكاً بشرياً لافتاً، اقتران بالأحداث السياسية الكبرى في المنطقة، وتربى على أخلاق الفرسان، التي توارثها الشركس جيلاً بعد جيل، فكان منذ صغره شجاعاً وكريم النفس، محباً لوطنه ومخلصاً لقيادته، وقد التحق بالمدرسة في عمان ودرس المرحلة الابتدائية، ومن ثم درس المرحلة الثانوية، حتى نال شهادة الثانوية العامة من مدرسة رغدان الثانوية، وكان من بين الطلبة المتفوقين، حسب مستوى التحصيل الدراسي في تلك المرحلة، وقد أهلته هذا الشهادة للحصول على وظيفة جيدة، حيث قام بعدد من الأعمال.

تعلق عوني بلال منذ صغره بالمغامرة، ولا شك وراودته أحلام الطيران في سماء الوطن، وكان له أن حقق هذه الأمنية، عام 1964 عندما التحق بسلاح الأردني الفتي، حيث دخل هذا السلاح كتلميذ مرشح، وبعد ذلك أرسل في بعثة إلى بريطانيا، وبذلك نال تدريب عالٍ على الطيران، في سلاح الجو الملكي البريطاني، وبعد أن أنهى بعثته التدريبية بتفوق، عاد إلى الوطن ليصبح ملازم طيار، وكان ذلك عام 1966 وقد تميز كطيار صاحب مهارات قتالية متميزة، وكضابط عرف بعسكريته المنضبطة، وأفكاره الإدارية التي أكسبته ثقة قادته، ومكنته من التقدم بشكل مضطرد، وخلال فترة ليست بالطويلة، أصبح عوني بلال قائد سرب، في مرحلة تميزت بالمواجهات المباشرة مع سلاح الجو الإسرائيلي، فكان كغيره من صقور سلاح الجو الأردني، شجاعاً لا يخشى المواجهات غير المتكافئة تقنياً، متجاوزاً بمهاراته تفوق الطائرات الإسرائيلية الحديثة.

بعد نجاحه كقائد سرب مقاتل، أصبح قائد قاعدة جوية، حيث توسعت صلاحياته، وقد أولى تطوير قاعدته العسكرية جل عنايته، كما ركز على ضرورة حصول الطيارين على تدريب مستمر، يرتقي بمستواهم المهاري، ويساعدهم على تطوير قدراتهم، من خلال اطلاعهم على احدث الأساليب والأسلحة الجديدة في هذا المجال، وقد انعكست جهوده في تطوير سلاح الجو الأردني بشكل عام، حيث تم تعيينه بعد هذه المرحلة مديراً للعمليات الجوية، وهذا الموقع وسع صلاحياته في مجال تحسين وتطوير قدرات سلاح الجو، الذي أصبح رغم قلة عدد الطائرات وقدمها نسبياً، من أقوى أسلحة الجو في المنطقة، بسبب مهارة الطيارين، والخبرات الكبيرة التي اكتسبوها، خلال المواجهات المباشرة وشبه اليومية، في عقد الستينيات من القرن الماضي، مع سلاح الجو الإسرائيلي الأكثر تطوراً في المنطقة.

أصبح عوني بلال قاسم ملحقاً عسكرياً، في السفارة الأردنية في باريس، حيث ركز على تمتين العلاقات العسكرية بين الأردن وفرنساً، خاصة في مجال الطيران، وعندما أنهى عمله كملحق عسكري، عاد إلى الأردن حيث أسند إليه منصب المفتش العام لسلاح الجو الأردني، وقد عرف عنه عنايته بأدق التفاصيل، وجديته في سعيه لتطوير قدرات هذا السلاح الحديث، صاحب الأثر الحاسم في معارك العصر التقني، وقد تدرج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة لواء.

تم تعيينه بعد ذلك مساعداً لرئيس أركان سلاح الجو الأردني للعمليات والدفاع الجوي. ويؤكد كل من عمل برفقته على ما تمتع به من جدية كبيرة، وتواضع عميق، حيث كان رغم تميزه بالانضباط العسكري الحازم، طيباً وقريباً من رفاقه في السلاح، يعامل الجميع بالإنصاف وبأخلاق الفرسان، وهذا جعله مقرباً ومحبوباً من الجنود والضباط والقادة، فكان دائماً محط الثقة ومعقد الأمل، ومؤهلاً بخبراته وتفانيه وقدراته للقيام بمهام أي منصب عسكري بكفاءة عالية، جعلته موضع الإعجاب والتقدير.

أصبح اللواء عوني بلال قائداً لسلاح الجو الأردني ( رئيساً لأركان سلاح الجو ) وكان ذلك في الخامس من كانون الأول عام 1993، فيكون قد توج خدمته العسكرية المتميزة، بوصوله إلى هذا المنصب الرفيع، الذي مكنه من مواصلة جهوده في الارتقاء بإمكانيات سلاح الجو، وجعله في طليعة الأسلحة المماثلة في المنطقة. وقد نال خلال خدمته العسكرية درجة الماجستير في العلوم العسكرية.

نظراً لما تمتع به من قدرات قيادية متميزة، وللجهود الكبيرة التي بذلها منذ انضمامه لسلاح الجو، منح اللواء عوني بلال قاسم وسام الاستحقاق، وكذلك منح وسام الاستقلال، ووسام الكوكب الأردني، ووسام النهضة، غير أن العمر لم يطل بهذا الصقر الأردني، حيث فارقنا باكراً، فخلال وجوده في مدينة واشنطن في زيارة رسمية، وهو ينهض بأعباء منصبه الجديد رئيساً لأركان سلاح الجو، تعرض لنوبة قلبية مفاجئة، أدت إلى وفاته في واشنطن، في الثامن والعشرين من كانون الثاني عام 1994، وقد كانت وفاته فاجعة تركت في النفوس حزنا عميقا وغصة كبيرة، فهو فقيد وطن، وخسارة لقائد خبير. وقد نعاه جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال إلى الشعب الأردني، وأمر جلالته بدفنه في المقابر الملكية، حيث شيع جثمانه بعد وصوله إلى عمان رجالات الأردن عسكريين ومدنيين، وبقي اسم اللواء عوني بلال قاسم قاله في التاريخ العسكري الأردني، مدون في سجلات الوفاء والفخار، بماء الذهب كأحد أبطال الجيش العربي الأردني، سياج هذا الوطن العزيز.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).