حسن غرايبة .. فلاح قرأ معرفته من أرضه وسكب فيها تعبه



لم يتعلم الزراعة بالدراسة والبحث العلمي وحسب، بل كان مزارعاً عتيقاً ورث حرفة حب الأرض جيلاً بعد جيل، فهو ابن سهل حوران الذي كان يطعم الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف خبزاً، لذا يعد سليل مزارعي الأردن القدامى منذ ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، فالزراعة كانت منذ الأزل الركيزة الأساسية التي نهضت عليها حضارات الأردن القديمة بدءاً بمستوطنات عين غزال ومروراً بممالك عمون وحشبون ومؤاب وايدوم والأنباط، كما شكل خصب تربتها، وموقع هذه البقعة من الأرض نقطة جاذبة لأطماع إمبراطوريات عالمية كبرى مثل اليونانية والرومانية والفارسية، كما أن الآثار المتعلقة بالصناعات الزراعية كالطواحين القديمة وبقايا معاصر الزيتون الباقية منذ آلاف السنين يدلل ما للزراعة من مكانة كبيرة في الأردن منذ فجر الإنسانية إلى يومنا هذا، وهي الضمانة الحقيقية للمستقبل.

حسن الغرايبة هو مزارع محترف تحدرت أصوله من كبار مزارعي العصور السالفة، فهو ابن فلاح قرأ معرفته من أرضه وسكب فيها تعبه، وعلم أولاده كيف يعشقونها حتى تلين تربتها بين أيديهم، فوالده الحاج رشيد الغرايبة مزارع بالوراثة، كذلك كانت والدته الحاجة خديجة الحسين الخطيب، فلقنوه فنون الأجداد في الزراعة، وكانت فلاحة الأرض وتربية الماشية الحرفة التي أمتهنها أهالي القرى خاصة في حوران ومحيطه، لذا ولد حسن الغرايبة في فترة كانت الأرض المصدر الرئيسي لحياة الغالبية العظمى للناس في الأردن، في بلد شحيح المياه وأمطاره متقلبة، والأرض الصالحة للزراعة في تناقص مستمر، فكانت الخبرة والمعرفة أساس النمو الزراعي، وهو ما تميز به الخبير الزراعي حسن الغرايبة، وما عمل على تطبيقه وتعميمه على المزارعين من خلال عمله في وزارة الزراعة.

ولد حسن رشيد الغرايبة في بلدة حوارة القريبة من مدينة اربد في الامتداد الجنوبي لسهل حوران الشهير، وكانت ولادته عام 1929 والدولة الأردنية الناشئة تواجه أعباء التأسيس الكبيرة، بمواردها القليلة وطموحاتها الكبيرة، وقد تربى في كنف والده المزارع البسيط، وكانت أوضاع الناس خاصة المزارعين أوضاعاً معيشية صعبة، قاسوا فيها الفقر ورضوا بالقليل الذي بالكاد يغني من جوع، فلم يتمتع بطفولة كما ينبغي، بل كان يعمل في الأرض ليساعد أهله في الزراعة منذ صغره كحال أقرانه من أبناء البلدة، وقد تلقى دروسه الأولى في الكتّاب، ثم التحق بعدها بالمدرسة الابتدائية في مدارس اربد، ورغم صعوبات العيش، وقيامه بالأعمال الزراعية الشاقة، إلا أنه تميز بتفوقه في التحصيل الدراسي، وكان دائماً من الطلبة الأوائل، وبعد أن أنهى المرحلتين الابتدائية والإعدادية في اربد، لم تحل الظروف دون طموحه في إكمال دراسته الثانوية التي لم تكن في متناول الجميع في تلك الفترة.

انتقل حسن الغرايبة من اربد إلى مدينة السلط التي ضمت أول مدرسة ثانوية في الأردن، وقد خرجت هذه المدرسة عدداً كبيراً من كبار رجالات الأردن في تلك الفترة، وقد أقام الغرايبة في السلط وكان يزور أهله خلال العطل، وقد تعرف على عدد من الطلاب من مختلف المدن والبلدات الأردنية، وزاد من قدرته في الاعتماد على النفس، وقد أثرت هذه الأشهر في نفسه كثيراً، وبعد عام واحد من دراسته في السلط تم افتتاح مدرسة ثانوية في اربد، فعاد والتحق بهذه المدرسة ليكون قريباً من أهله، وبذلك كان من ضمن أول فوج يحصل على الثانوية العامة من مدرسة اربد، وقد قاوم كل مغريات العمل في وظيفة جيدة، حيث كانت شهادة الثانوية العامة حينها تؤهله لنيل وظيفة يسعى إليها أغلب الشباب، فقرر مواصلة مشواره في الدراسة، متحدياً ظروفه المعيشية، باحثاً عن فرصة في فترة لم يتوفر فيها جامعات في الأردن.

سافر حسن الغرايبة إلى مصر مغادراً بلاده للمرة الأولى، حيث أقام في أكبر وأنشط حاضرة عربية خاصة في تلك الفترة، حيث كانت مدينة القاهرة ملتقى طلاب العلم ومجمع مثقفي العرب وأحرارهم، وقد التحق جامعة القاهرة العريقة، ليدرس في كلية الزراعة، متخصصاً في العلوم الزراعية، وخلال دراسته الجامعية انفتح على المجتمع المصري، وبنى علاقات صداقة قوية مع عدد من الشباب العربي المثقف المتواجد في القاهرة، وقد كان لسنوات دراسته الجامعية تأثيرها الكبيرة في وعيه وفكره وتعميق حبه للأرض وفلاحتها، وبعد أربع سنوات نال شهادة البكالوريوس في العلوم الزراعية، ليعود إلى الوطن متحفزاً للعمل من أجل توظيف ما حصله من معارف وعلوم في مجال الزراعة.

كانت المحطة الأولى للغرايبة في العمل في التدريس، حيث عين مدرساً في كلية الجبيهة الزراعية، وقد تميز كمعلم محب لمهنته في تعليم الزراعية على أسس علمية حديثة، وكان له تأثيره الملحوظ على طلبته وزملائه المعلمين، ونظراً لشهادة الأكاديمية وتميزه الوظيفي، فقد قررت الحكومة إيفاده في بعثة دراسية إلى جامعة أدنبرة في المملكة المتحدة، من أجل التخصص في مجال دراسته، حيث درس في هذه الجامعة مدة سنتين نال بعدها كأستاذ علوم متخصص عام 1957، وبعد عودته إلى الأردن عين في وزارة الزراعة، وقد أسندت إليه وظيفة مراقب مشروع تربية الحيوان ذلك بين عامي 1958 و1959، حيث تم تغيير وظيفته إلى ضابط أبحاث تربية الحيوان، وكانت وزارة الزراعة تولي الدراسات الزراعية العلمية عناية خاصة بغية تحسين الإنتاج الزراعي في البلاد، مع الزيادة المضطردة للسكان.

في عام 1962 أصبح حسن الغرايبة مدير زراعة، غير أنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع الوظيفي، فقد قامت وزارة الزراعة بإيفاده في بعثة دراسية إلى جامعة ( نيو ساوث ويلز ) في استراليا عام 1963، وتمكن من إكمال دراسته الجامعية العليا حيث نال درجة الدكتوراه في تربية الأغنام، حيث عاد عام 1966 إلى عمان لعيين بوظيفة أخصائي أبحاث في وزارة الزراعة، وبعد عام واحد أصبح رئيساً لقسم أبحاث الثروة الحيوانية، كما أسندت إليه مهمة مراقب مشاريع الثورة الحيوانية وتربية الأسماك، وبعد ذلك تم اختياره ليكون مستشاراً في الأعلاف والمراعي التابعة لمشاريع دائرة البحث العلمي الزراعي، حيث أولت وزارة الزراعة عناية خاصة بالثروة الحيوانية، وسعت لدعم مربي المواشي من خلال الدراسات الحديثة، وتوفير الأعلاف النباتية والمرعي الطبيعية بمواصفات علمية مدروسة.

نظراً لم تميز به من مكانة علمية وخبرات علمية فريدة، تم انتدابه إلى حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، فعين فيها بمنصب مدير زراعة، وقد ساعد كثيراً في تنشيط الزراعة في الإمارات العربية على أسس تلاءم الظروف المناخية في الخليج العربي، وبعد أن أنهى فترة انتدابه عاد لوزارة الزراعة ليصبح مدير إدارة البحث العلمي والإرشاد الزراعي، وقد شهد بعد ذلك نقلة مهمة في حياته المهنية عندما عين أميناً عاماً لوزارة الزراعة خلال الفترة من 1978 وحتى 1980، ركز خلالها على الدراسات العلمية والبحوث الزراعية، كما أولى الإرشاد الزراعية عناية خاصة.

عين الخبير الزراعي حسن الغرايبة عضوا في المجلس الوطني الاستشاري عام 1983، وكان من الناشطين داخل المجلس، وشارك في عدد من اللجان كما كان مقرراً للجنة الزراعية، وقد تم تسميته من قبل الحكومة الأردنية مرشحاً لمنصب الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، فنال توافق ممثلي العرب، واحتفظ بمنصب الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية خلال الفترة 1985 و1990، وقد عزز مكانة الأردن داخل هذه المنظمة العربية المنبثقة عن جامعة الدول العربية، كما شارك في عدد من المؤتمرات والندوات عربياً وعالمياً، وقام بنشر بحوث ودراسات عديدة في المجلات المختصة داخل الأردن وخارجه، وأسهم في إعداد السياسات الزراعية، بالإضافة لعمله مستشاراً لعدد من المؤسسات الدولية في الجمهورية السورية والمملكة العربية السعودية.

 وبقي مولعاً بالأرض والزراعة حتى لحظاته، فقد توفي الدكتور حسن الغرايبة في شهر شباط عام 2005، تاركاً إرثاً كبيراً من المنجزات العلمية في مجال الزراعة، وعملاً طيباً وكثير من محبي الزراعة على يديه، وسيبقى كما الأشجار المثمرة ويعطي بصمت حتى في غيابه عن أعيننا، فهو في القلوب الحية باقٍ ما بقيت أرض تعطي أسرار الحياة.
تعليقات (فيس بوك)
1تعليقات (بلوجر)

1 التعليقات:

  • لعبة زوما يقول :
    30 أغسطس 2012 في 2:53 م

    رائع جدااا شكرا على الخبر

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).