كاسب الجازي |
لحضوره هيبة الأبطال، ولنظرته حدة الصقر، يحمل في ذاكرته قصص البادية وإيقاع الصحراء، جاعلاً من طفولته الصعبة بوابته الواسعة لولوج معارج الحياة، بما فيها من متاعب وعقبات وصعاب، فكان دائماً عالي الهمة، وثق بالمستقبل ثقته بإيمانه الراسخ، ناظراً إلى الأرض الأردنية باعتبارها بوابة الأمة والقلعة الحصينة ضد الطامعين بالعرب وخيراتهم، وقد سعى طوال حياته العامرة بالمنجزات والمواجهات الحاسمة، من أجل الذود عن هذا الحمى، وحفظه للأجيال القادمة، وهو هاجس حمله الأردنيون جيلاً بعد جيل.
أحب الخدمة العسكرية منذ نعومة أظفاره، ورغب بأن يصبح جندياً قبل الأوان وكأنه يسابق الزمن، فلقد ارتبطت العسكرية بالفروسية لدى القبائل البدوية، لذا أقبلوا على الجيش الأردني وتميزوا فيه جنداً وقادة، وسطروا على خطوط النار وفي ساحات الوغى أروع صور البطولة والفداء، فرووا بدمائهم أسوار القدس، وكانوا في طليعة مواكب الشهداء البررة.
كاسب صفوق الجازي نمر من نمور البادية، وقمر في فضاء الصحراء فاقع اللمعان، فهو ابن الظروف والبيئة القاسية، التي جعلت منه فارساً شديد المراس من فرسان القوات المسلحة الأردنية، ولم يكن أحد شهود العصر على أحداث حاسمة وحسب، بل كان مشاركاً فيها وحاضراً في منجزها. ولد كاسب الجازي على سيف الصحراء، حيث كانت ديار معان ومحيطها مضارب قبيلة الحويطات المؤثرة في التاريخي الأردني المعاصر، وتعد عشيرة الجازي أكبر عشائر هذه القبيلة العربية الممتدة عبر الزمان والمكان، فكانت ولادته في حدود عام 1928 أي بعيد تأسيس إمارة شرق الأردن بسنوات قليلة، وتعد منطقة « غدير أبو صفاه « القريبة من الجفر مسقط رأسه، حيث كانت هذه النواحي – الجفر والجرباء وغدير أبو صفاه والحميمة – من أبرز مناطق القبيلة، تتحرك فيها مضاربهم حسب فصول السنة وتعاقب المواسم، وقد شكلت هذه المناطق بالإضافة لمعان الفضاء الذي شكل مخزونه وبنى شخصيته، وشحذ الذاكرة العبقة بالأصالة التي لازمته طوال حياته.
تربى كاسب صفوق الجازي في بيئة جافة عانى الناس فيها من صعوبات العيش، وتنقل مع عشيرته بحثاً عن الماء والخصب، ونهل من والده وأهله صفات الشجاعة والكرم والإيثار، والتضحية بالغالي والنفيس صوناً للأرض والعرض، ولم تتوافر في مضارب العشيرة مدارس، غير أنه تلقى تعليماً أولياً فيما عرف بالكتّاب، على يد شيخ دين قدم من الطفيلة، كان يعلم الأطفال القراءة والكتابة والحساب وحفظ عددا من السور، وبعد أن كبر التحق بمدرسة جديدة فتح في منطقة الجفر، وتعلم فيها على يد الأستاذ محمد العسلي، وكان من بين رفاقه في المدرسة - كما يذكر ذلك الدكتور مهند مبيضين – اللواء صايل حمد الجازي وكايد ذيابات، وقد درس كاسب الجازي في هذه المدرسة حتى الصف الثالث الابتدائي، ولم تتح له فرصة إكمال دراسته في تلك المرحلة، فأنخرط في حياة القبيلة بعمر مبكرة.
ما إن بلغ كاسب الجازي عمر الثانية عشرة من عمره، حتى قرر مغادرة مضارب العشيرة والذهاب إلى منطقة المفرق، بحثاً عن فرصة عمل، يساعد فيها أهله ويعيل نفسه، وكان ذلك عام 1940، ليعمل بحفر الخنادق للجيش البريطاني، غير أن هذا العمل لم يرق له، فسعى إلى تحقيق حلمه من خلال الالتحاق بالجيش العربي – القوات المسلحة الأردنية – غير أن طلبه جوبه بالرفض وذلك لصغر سنه، لكنه لم يفقد الأمل انتظر الفرصة السانحة، فقد قام في عام 1943 بمقابلة كلوب باشا قائد الجيش، الذي أعجب بشخصيته وحماسته فجنده وأرسله للتدريب، وقد باشر التدريب في مدرسة التدريب العسكري في العبدلي، وكان على رأس هذه المدرسة في تلك الفترة الشريف محمد هاشم.
حقق كاسب الجازي تميزاً لافتاً في التدريب، وكان من الجنود المتفوقين، ونتيجة لما حققه من تميز تم تعيينه مدرباً عسكرياً للمشاة، السلاح الأبرز في تلك المرحلة، وقد ترك بصمته العسكرية على عدد كبير من الجنود، الذين دربهم وغرس فيهم صفات الانتماء والشجاعة والتفاني بالخدمة، وقد استمر يعمل مدرباً في مدرسة التدريب مدة سنتين، بعدها انتقل إلى سرايا المشاة، وكانت حينها من ثلاث كتائب وحاميتين، وقد خدم في السرية الأولى التي قادها النقيب فارس العبد، وكان مقرها مدينة رفح قبل أن تأتيها الأوامر لتنتقل إلى مدينة القدس، وبعدها نقلت إلى عمان ومنها تحركت إلى الشمال حيث تمركزت على جسر المجامع وجسر الشيخ حسين، وكان لها دور كبير في حماية تلك المنطقة.
وكان كاسب صفوق الجازي شاهداً ومشاركاً في بطولات الجيش الأردني في فلسطين خلال حرب الـ 48، خاصة في المعارك التي خاضها الجيش مع القوات الإسرائيلية في حي الشيخ جراح وباب الواد واللطرون، وقد حقق الجيش الأردن على قلة عدده وضعف تسليحه انتصارات كبيرة على الإسرائيليين، غير أن الهدنة التي فرضت على العرب غيرت الموازين، حيث تمكن الصهاينة من حشد قوات كبيرة جلبت من أوروبا وأسلحة ثقيلة متطورة، وكان من نتيجة ذلك أن خسر العرب الحرب، واحتفظ الجيش الأردني بالضفة الغربية والقدس، بعد أن سطر صفحات من البطولة الأسطورية، واستشهد عدد من رفاقه وأصدقائه على أسوار القدس منهم: مهاوش مذيب وعايض الجازي وساري عوض الدراوشة، وفارس محمد العبد وسلطان عليق العودات الجازي ومن أبناء عمومته سالم عودة الجازي ومدلول راعي الحصان الجازي.
واكب الجازي تطوير الجيش الأردني بعد حرب الـ 48، والتوسع بتشكيل الكتاب والتسليح قد المستطاع، وقد رقي إلى رتبة رقيب، ونظراً لسمعته العسكرية الطيبة وشجاعته وتفوقه على صعيد التخطيط وفي الميدان، فقد تم تنسيبه من قبل قائد الكتيبة ضمن دورة المرشحين الأولى، وقد اجتاز الدورة بكفاءة كبيرة، والتحق بعد أن أنهى الدورة عام 1951 بكتيبة الحسين الثانية، التي تمركزت في كفار عصيون قرب الخليل، وقد استمر بتطوير قدراته العلمية والعملية بجد كبير، ففي عام 1955 أرسل في دورة لتعلم اللغة الإنجليزية في بريطانيا، لكنه أضطر لقطع دورته بعد عام واحد والعودة، نتيجة تداعيات قرار تعريب قيادة الجيش الأردني، وتوتر العلاقة العسكرية مع بريطانيا.
خدم بعدها في الكتيبة الثانية في القصور الملكية، وتم إيفاده في دورة تدريبية عام 1958 إلى العراق، لكنه عاد إلى الأردن قبيل الانقلاب العسكري الدموي في العراق، وخاض كاسب الجازي حرب الـ 67 مع رفاق السلاح في الجيش الأردني، حيث كان برتبة مقدم وقائد كتيبة في لواء الحسين بن علي في العقبة، وقد قام المغفور له الملك الحسين بن طلال بالتوقيع على وثيقة القيادة العربية المشتركة في القاهرة عشية الحرب، وتعيين الفريق عبد المنعم رياض – المصري – قائداً للجبهة الأردنية، فوجد الأخير الخطط العسكرية معدة سلفاً ومركزها مدينة القدس، متضمنة الدفاع حتى آخر جندي ضد أي هجوم يستهدف القدس، وقد تضمنت الخطة ضرب تل أبيب إذا لزم الأمر، غير أن النكسة وقعت سريعاً بسبب عدم قدرة سلاح الطيران المصري تغطية الأجواء كما كان مخططاً، بعد أن دمر من قبل الإسرائيليين، فخسر العرب الحرب مرة أخرى، وتركت الخسارة مرارتها لدى العسكريين والمدنيين.
تم إعادة تنظيم الجيش من جديد فتشكلت فرقتان الأولى بقيادة مشهور الجازي والثانية بقيادة عاطف المجالي، وأصبح كاسب قائداً للواء الأميرة عالية، وكان برتبة مقدم، وعين قائداً لمحور عمليات وادي شعيب وكان محور العارضة بقيادة قاسم المعايطة وكذلك محور سويمة بقيادة بهجت المحيسن، فكان أحد أبرز قادة معركة الكرامة الخالدة 1968، التي حقق الجيش الأردني من خلالها الانتصار العربي الأول على الجيش الإسرائيلي وكسر أسطورته، وأعاد الثقة لدي الجيش والعرب، بعد ذلك أصبح قائداً للواء الحرس الملكي، وبعد أن تم ترفيعه إلى رتبة عقيد عين قائداً للفرقة الثالثة الملكية، وقد عهد إليه بتشكل الفرقة الرابعة الملكية. هذا وقد عين في أحداث أيلول 1970 حاكماً عسكرياً لمدينة عمان. حيث أحيل على التقاعد عام 1977 وهو برتبة لواء.
عين عضواً في مجلس الأعيان الأردني شباط 1977 واستمر عضواً في هذا المجلس عدة دورات برلمانية خلال الأعوام 2000 و2001 و2003. ولكاسب الجازي من الأبناء: ممدوح وعبد العزيز ويوسف ومحمد وصفوق وزهرة وإيمان وسناء، بقي الفارس كاسب صفوق الجازي قابضاً على عهد الولاء والإخلاص للوطن والقيادة حتى توفاه الله في نهاية شهر حزيران عام 2010.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|