فهد مقبول الغبين

فهد الغبين

شكلت البادية الأردنية، من خلال تاريخها الحضاري، وعشائرها الأصيلة منبع الفرسان الأشداء، الذين شهدت لشجاعتهم وإقدامهم ساحات والوغى، وسجلات البطولة التي أثارت عجب وإعجاب العدو والصديق، فلقد ارتبط أبناء العشائر الأردنية، التي انتشرت في عمق البادية وفي بؤر المدن والحواضر، بسمات الرجولة وبالتاريخ الحديث الذي أندغمت فيه هذه العشائر بالحروب والثورات، كثورة الكرك والثورة العربية الكبرى، ومواجهة الغزوات الوهابية، وهي الإرهاصات التي مهدت الطريق لتأسيس إمارة شرق الأردن، ورسوخ أقدامها بسرعة لافتة للانتباه، حيث كان للعشائر دور محوري في بناء الدولة الأردنية ولا زالت، حيث شكل أبناؤها العمود الفقري للقوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي – بالإضافة للأجهزة الأمنية المختلفة، وهي المؤسسات التي وقع على كاهلها حماية الوطن وتوطيد الأمن.

يعد المقاتل البطل فهد مقبول الغبين، واحداً من أبرز ضباط الجيش العربي، الذين كتبوا ببسالتهم وحرفيتهم صفحات من المجد الوطني الخالد، والذين تمكنوا من حماية حدود الوطن، مقدمين في سبيل الأرض والكرامة الغالي والنفيس، فحظوا للأجيال القادمة التمتع بحاضر غني، وبمستقبل واعد في كل مناحي الحياة. وكانت ولادة فهد مقبول الغبين في شهر آذار عام 1930، مع دخول العقد الثاني من تأسيس الدولة الأردنية، حيث ولد في قرية أم العمد وهي من أبرز قرى قبيلة بني صخر، وهي القبيلة ذائعة الصيت في المنطقة، ولعبت دوراً مؤثراً في الأحداث منذ القرن الثامن عشر، وقدمت زعامات عشائرية ورجالات دولة في مختلف المجالات، وكان نصيب الجيش العربي من هؤلاء المقاتلين الشجعان وافراً، فقد كان لطبيعة البدو في التنقل المستمر من أجل المراعي والماء، والظروف الصعبة التي يربى وينشأ فيها الأطفال الذكور، تكسبهم صلابة في العود، وشجاعة في المواجهة، قدرات مبكرة في الاعتماد على النفس، لذا فقد صدف وولدته أمه والعشيرة في رحيلها الموسمي، حيث تابعت المسير بعد الولادة.

نشأن فهد مقبول الغبين في محيط عشيرة دائمة الترحال، وتشرب العادات البدوية الأصيلة، وتحمل صعاب هذا النمط في العيش باكراً، فقد تحركت عشيرته حتى الموصل في العراق، والجوف في السعودية، وبادية الشام وصولاً إلى أطراف مدينة دمشق، وقد أتاحت له هذه الظروف فرصة نادرة لمن هم في مثل ظروفه، في الحصول على فرصة التعليم المتوسط، دون أشقائه وأبناء عشيرته، عندما أقامت عشيرته في مضارب قبيلة الشعلان على مقربة من مدينة دمشق، فالتحق بالكتّاب في مضارب الشعلان، وبعد أن أخذ قسطاً من هذا التعليم الأولي، أنتقل للدراسة في المدرسة الابتدائية ومن بعدها المترك، في مدرسة منطقة دومة الواقعة شرق مدينة دمشق، وقد تطلب منه ذلك المسير ستة عشر كيلومتراً يومياً، بين مضارب عشيرته وموقع المدرسة، وما من شك أن هذا الواقع علمه الصبر والصلابة والقدرة على التحمل.

رغب فهد الغبين بالانتساب للجيش الأردني وهو لم يزل في سن صغير، وكان معه مجموعة من أبناء عشيرته، وعندما قصدوا لجنة التجنيد في معسكر التدريب في ماركا الشمالية، رفضتهم اللجنة لصغر سنهم، لكنهم أصروا على الالتحاق بالجيش، وباتوا عدة ليالٍ بالقرب من الأسلاك الشائكة للمعسكر، محاولين عدة مرات مع اللجنة التي كررت رفضهم، حتى ساعدهم ضابط من قبيلة بني صخر – الملازم زعل ارحيل الزبن – الذي عرف قصتهم، وساعدهم في الانتساب للجيش العربي الأردني، وكان ذلك في نهاية شهر آب عام 1945، وقد انتظم في التدريب العسكري المكثف والصعب، في معسكر ماركا الشمالية حتى شهر تشرين الثاني، حيث نقل بعدها إلى معسكر التدريب الشتوي في الشونة الجنوبية، وبعد مرحلة التدريب نقل إلى كتيبة المشاة الثالثة في مدينة حيفا بفلسطين، وهناك التحق بسرية المدرعات الأولى. لم يأخذ إجازة لرؤية أهلة منذ التحاقه بالجيش حتى قرابة منتصف عام 1946، وكان الجنود يعرفون بأماكن تنقل عشائرهم من إذاعة الشرق الأدنى، فيذهبون للبحث عنهم في تلك المناطق في الإجازات المتباعدة.

ساهم فهد الغبين بتدريب المناضلين الفلسطينيين، بعد أن أمرهم الملك عبد الله الأول دون علم الإنجليز، وبتزويدهم بالسلاح المتوفر والمؤن، وقد عمل على إيصال القوافل إلى يوسف هيكل رئيس بلدية حيفا، ويذكر الغبين أن قوات الجيش الأردني خاضت مع المناضلين عدة معارك قبل حرب جيش الإنقاذ العربي عام 1948، من هذه المعارك: معسكر بيت نبالا، معركة صرفند، النبي يعقوب، معسكر رتنبرغ، حي القطمون وكفار، وقد شارك الغبين في معارك عام 1948، وأبلى فيها بلاءً حسناً، وكان له شرف القتال مع زملائه من أبطال الجيش الأردني في القدس، حيث جرح في هذه المعركة في شارع « مشيرم « في القدس، وأصر على العودة للقتال قبل شفائه بشكل تام، وقد سجل في كتاباته ومذكراته بطولات رفاقه الجنود والضباط من أمثال: زعل ارحيل، بادي عواد، سمارة الحميدي، سعد طرجم، وحابس المجالي وغيرهم الكثير.

أسهم فهد الغبين في تشكل القوة ( ج ) في منطقة أم الرشراش على خليج العقبة، التي كانت أرضاً أردنية، وقد دافعت هذه القوة عن المنطقة حتى وادي عربة، وللأسف تمكنت القوات الإسرائيلية من احتلال الميناء، بسبب تفوقها العددي وتسليحها الحديث، وأصبحت تعرف بعد ذلك بايلات، المنفذ الإستراتيجي لإسرائيل على البحر الأحمر، بعد ذلك استمر مع الكتيبة الثالثة المتمركزة في جنين حتى نهاية عام 1949، عندما أسندت إلى مجموعة من الضباط والجنود مهمة تشكيل كتيبة المدرعات الأولى في منطقة الزرقاء، وفي الأول من تموز عام 1950، أرسل في دورة المرشحين الأولى في منطقة العبدلي، مع مجموعة من خيرة مقاتلي الجيش العربي، وقد قام جلالة المغفور له الملك عبد الله الأول بن الحسين بتخريج الدورة في الخامس عشر من شهر نيسان عام 1951، وحدد مركزه الجديد في كتيبة المشاة الثانية.

وقف فهد الغبين مع مجموعة من الضباط، في مواجهة بعض الإيديولوجيات الحزبية، التي كان لها مخططات مدعومة من الخارج، حيث عانت البلاد من مخاطر داخلية وخارجية عديدة، فكان لإخلاص وسهر هؤلاء الضباط دور كبير في استتباب الأمن، وإفشال هذه المخططات.

 ولم تكن علاقته بقائد الجيش كلوب باشا جيدة، ونتج عن تردي هذه العلاقة، أن أرسله كلوب في بعثة عسكرية إلى اليمن، التي كانت تعاني من مشاكل كبيرة، وقد كان له دور في تأسيس الجيش في جنوب اليمن، وتدريب جنوده وضباطه، وكان لهذه التجربة التي استمرت سنتين، أثرها العميق في نفسه، فقد أضافت له خبرات كبيرة وفي مختلف الميادين، وعمل على تحريض الضباط اليمنيين للإضراب ضد الإنجليز لتحصيل امتيازات يستحقونها، فقاموا بالإضراب مما أضطر الإنجليز أن يستجيبوا لمطالبهم.

في معركة السموع الشهيرة، والتي جرت في شهر كانون الأول عام 1966، قاد كتيبة عبد الله بن رواحة / لواء حطين، وخاض معركة شرسة مع القوات الإسرائيلية، واستشهد مساعده الرائد محمد ضيف الله الهباهبة، وقد وثق لبطولات رفاقه في هذه المعركة. وعندما اندلعت حرب عام 1967، كانت كتيبته – عبد الله بن رواحة – في قطاع بيت لحم الخليل، حيث رفض فهد الغبين أوامر الانسحاب في وضح النهار، وصمد وماطل حتى حلول الليل، وقام بالانسحاب دون أن يخبر جنوده، حتى لا يصيبهم الإحباط ويفقدون معنوياتهم، وذلك بأن أخبرهم بأنهم يتجهون إلى القدس، وعندما أتم انسحابه من الخليل بأقل الخسائر، ولم يترك خلفه الجرحى أو أحداً من الشهداء، أخبرهم بضرورة الانسحاب التكتيكي إلى شرق نهر الأردن، فأصيب الجنود بالإحباط والحزن. وفي معركة الكرامة كان كتيبته في محور الكرامة – سويمة، وتمكنت هذه الكتيبة بسبب كثافة النيران، ودقة الإصابة من منع العدو من العبور، حيث تم تثبيته غربي النهر، وواجهت الكتيبة الاختراقات الأخرى، والتحمت مع العدو وكبدته خسائر جسيمة.

في عام 1969 تم ترفيعه إلى رتبة عقيد، وعين آمراً لمركز تدريب ( 51 ) في المفرق، ومن ثم آمر مركز تدريب ( 91 ) في خو، وفي عام 1970 أوكلت إليه مهمة تشكيل حامية منطقة المواصلات، وعين قائداً لها، وشغل بعد ذلك عدة مناصب عسكرية، فعين مساعداً لقائد الجيش الشعبي، ومساعداً للحاكم العسكري في الزرقاء، وضابط ارتباط الجيش العربي الأردني مع القوات العراقية، كما كان عضواً في القيادة العربية الموحدة، بعد ذلك أحيل على التقاعد في الخامس من آذار عام 1972. وقد استثمر معارفه الواسعة وثقافته التي حصلها على نفسه، بأن كان ناشطاً في عدد من المجالات خاصة في التوثيق العسكري، والعرف العشائري والعادات الاجتماعية، فحضر عدداً كبيراً من المؤتمرات الداخلية والخارجية، وتميز بإحصاء وتوثيق شهداء الجيش العربي، وقدم بحثاً في الجامعة الأردنية عن العرف العشائري بين الشريعة والقانون، كما ألف عدداً من الكتب المهمة: السويقة عند العرب 1984، حروب الماء ونزاعات الشرق الأوسط للعشر سنوات القادمة 1989، الإستراتيجية عند العرب 1998، من فيض الخاطر 2003، ومذكرات محارب 2008. توفي المقاتل البطل فهد مقبول الغبين في التاسع والعشرين شهر أيلول 2009، تاركاً إرثاً خالداً وذكراً طيباً يبقيه حياً بيننا.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).