يعقوب حنا العودات ... البدوي الملثم

يعقوب حنا العودات
يعتبر يعقوب حنا العودات (البدوي الملثم) أحد أهم رواد الحركة الثقافية والأدبية في الأردن. فقد كرس حياته للإنتاج الأدبي والثقافي ، فأغنى المكتبة الوطنية والعربية بمؤلفات مهمة عملت على رصد الحركة الأدبية خلال فترة مهمة من تاريخ الدولة الأردنية. لذلك فإن أديباً ومفكراً أردنياً مثل يعقوب العودات وهو يعد بحق أبرز مؤسسي الحركة الثقافية في الأردن يستحق منا أكثر من مجرد تقديم إضاءة حول مسيرة حياته التي تستحق الوقوف عندها.

ولد يعقوب حنا العودات في مدينة الكرك عام 1909م. والده حنا العودات أول رئيس لبلدية الكرك في العهد العثماني ووالدته هي هدباء بنت جابر العودات. تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة طائفة الروم الأرثوذكس ومدرسة (الإليانس) الأمريكية ومدرسة المعارف في الكرك ، توفي والده وهو في العاشرة من عمره مما اضطره للإنقطاع عن مواصلة دراسته وقد ورد في مذكراته قوله: توفي والدي ولي من العمر عشر سنوات وعشنا بؤساء وبعدها أنهيت دراستي الابتدائية حالت والدتي - رحمها الله - دون متابعتي الدراسة ، لحاجتها وشقيقتي لمن يمدُّ لهما يد العون ويدفع عنهما غائلة الجوع ولذا فقد اضطررت للعمل تاجراً لكي أستطيع تأمين القوت لأسرتي الصغيرة ، واصلت العمل سبع سنوات عشت خلالها عيشة الزهد والتقشف وكافحت كفاحاً متواصلاً في سبيل اللقمة الحمراء ، والمستقبل الزاهر الذي ينتظرني ، وعلى صوت المؤذن كنت استيقظ مع كل فجر ، لأعد الشاي والفلافل للعمال المبكرين لأعمالهم خارج المدينة ، فأظل في حركة مستمرة حتى يأوي الناس إلى مخادعهم فأغلق باب متجري المتواضع واستسلم للنوم.

ورغم قسوة الظروف التي ألمت بالبدوي الملثم إلا أنه أصر على متابعة دراسته ولو على نفسه وبمساعدة أساتذة المدرسة الأميرية في الكرك تمكن من التقدم لامتحان الشهادة الإعدادية واجتيازها بتفوق بعد ذلك التحق بمدرسة إربد الثانوية حيث أمضى فيها سنتين ليحصل منها على شهادة الدراسة الثانوية ، التحق يعقوب العودات بالجامعة السورية في دمشق - جامعة دمشق - ولكن نظراً للظروف الصعبة فإنه لم يستطع إكمال دراسته الجامعية.

عُين يعقوب العودات معلماً في وزارة المعارف - وزارة التربية والتعليم - وقد درّس مادتي الأدب العربي والتاريخ في العديد من مدارس المملكة كمدارس عمان وسوف وجرش والرمثا لمدة ستة سنوات. بعد ذلك انتقل للعمل ككاتباً في المجلس التشريعي وبعدها بأربع سنوات نقل إلى ديوان رئاسة الوزراء. ثم نُقل سكرتيراً معاراً للمجلس التشريعي وبعد ثماني سنوات أمضاها في الوظيفة الحكومية في شرقي الأردن قدم استقالته وسافر إلى القدس ليعمل مترجماً في قلم الترجمة بدائرة السكرتير العام لحكومة فلسطين مدة ثلاث أعوام ، وأثناء إقامته في القدس تزوج من رفيقة دربه السيدة نجلاء إبنة الصحافي المعروف بولس شحادة. عاد إلى شرقي الأردن مع أعداد اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة عام م1948 ، حيث تم تعيينه في ديوان المحاسبة في وزارة المالية وفي عام 1950 شد الرحال إلى أمريكا الجنوبية حيث أمضى فيها نحو سنتين. وعند عودته إلى ارض الوطن عاد ليشغل وظيفته في وزارة المالية والتي بقي فيها إلى أن تم إحالته على التقاعد في أواخر عام 1968م. بعد ذلك انتقل للعمل في دولة الكويت في إحدى الشركات وبقي هناك بضعة شهور ثم عاد إلى وطنه الأردن لينشغل بأمور الكتابة والتأليف.

عَمًلَ يعقوب العودات على نشر إنتاجه الأدبي في العديد من الصحف والمجلات العربية وذلك بتواقيع مستعارة مثل: أبو بارودة ، حماد البدوي ، فتى مؤاب ، أبو نظارة ، فتى البادية ، نواف" ولكنه وفي عام 1926 استقر على توقيعه الشهير الذي عُرف به وهو (البدوي الملثم) أما السبب وراء اختياره هذا المسمى فقد ورد في مذكراته قوله: حملت مقالاتي وكتبي التي صدرت بتوقيع البدوي الملثم وراح العاملون في حقل أدبنا المعاصر يتساءلون: من يكون صاحب هذا التوقيع المستعار؟ وبعد أن حسروا اللثام عن صاحبه أخذوا يمطرونني بتساؤلهم: كيف وقعت على هذا التوقيع ورداً عن تساؤلهم أقول: تعود بي الذاكرة إلى عام م1926 العام الذي شرعت أنشر فيه نفثات قلمي في صحف سورية وفلسطينية بتواقيع مستعارة ، ظلت حائرة قلقة في نفسي واذكر منها: "أبو بارودة ، حماد البدوي أبو نظارات ، نواف ، فتى مؤاب ، فتى البادية. وذات يوم كنت أتنزه بمفردي على طريق السيل في مسقط رأسي ، فلمحت بدوياً ملثماً على ظهر ناقة تسير به خبباً... والمحجن في يده ، فطربت لمنظر هذا البدوي الرائع وعزمت من توي على أن يكون البدوي الملثم هو توقيعي المستعار".

لقد قدَّم البدوي الملثم للمكتبة العربية واحداً وعشرين كتاباً مطبوعاً بالاضافة إلى العديد من المخطوطات الهامة فتراه قد أبدع في مجالات الشعر والمقال والقصة والنقد والتأريخ والتربية.

وتحدث البير أديب صاحب مجلة الأديب البيروتية فقال في يعقوب العودات: إن مجلة الأديب التي لم تشعر بالخسارة المعنوية والمادية التي لحقت بها قدر ما تشعر بها اليوم بوفاة صديقها الغالي البدوي الملثم ، لتدلي شهادة الحق أمام الرأي العام المنكر معترفة بأن البدوي الملثم ، بما بذله من جهوده الجبارة من أجل إقالة عثرة (الأديب) وإنهاضها من كبوتها المادية المتلاحقة ، وتأمين الإعلانات لها من بعض الدول العربية واستقطاب المشتركين والمناصرين لها من كل ديار له فيها صداقة ، هو في الندرة القليلة الضئيلة من الأصدقاء الأوفياء الذين لا تعوض خسارتهم.

ويرى الدكتور كامل سوافيري أن: البدوي الملثم كان كوكباً مشرقاً في سماء الأدب لا في الأردن فحسب بل في الوطن العربي ، وكان من الأفراد القلائل الذين حققوا مجدهم بأنفسهم وشقوا طريقهم في الحياة بجهادهم الشخصي لم يتوكأوا وأعلى أحد ولم يعتمدوا على مال ولا جاه ، لقد أدمى قدميه على الصخر وأحنى مقلتيه على الورق ، أرّقه المجد وأضناه الدرس فقطع الفيافي وجاز البحار وجاب البلاد يستخلص ألوان المعرفة ويستقصي جوانب البحث وينقب عن الجواهر فيخرج على الناس بمؤلفاته وآثاره التي تنطق بما بذل من جهد وتشهد بما احتمل في سبيلها من وصب ، وما أعظم نضال الذين يبنون مجدهم بأنفسهم ويرفعون بنيانهم بسواعدهم. إنهم النجوم ، إنهم الرواد الذين يفتحون لنا النافذة ويعبَّدون الطرق لنسلك سبيلهم وننهج نهجهم ، إنهم الذين ننحني إجلالاً بما كابدوا ، وإكباراً لما قدموا ، وبهم نفاخر الأمم وتباهي الأجيال وتعتز الأوطان.

وعدّ محمد أديب العامري الاهتمام بالسير والتراجم من مزايا العودات ، يقول: "ومن مزايا البدوي الملثم أن أدبه كان - على النمط الحديث - أدب دراسة ومعاناة ، وقد شدّه إلى ذلك فطرته كأديب سيرْ أو أديب تراجم.

أما وحيد بهاء الدين فقد قال فيه: يعد البدوي الملثم رائداً في المضمار الذي قدر له أن يخوضه ويفتح قلاعه ويثبت وجوده فيه بجدارة واستحقاق.

ويرى الدكتور محمود السمرة (أن مؤلفات العودات تتضمن الكثير من الصفات التي يجب أن تتوفر في كتابة السيرة وفي الصدق والتحليل الدقيق والحيوية والأسباب والبعد عن الاستطراد.

وتحدث وزير الثقافة السيد نبيه شقم في شخصية العودات فقال: إن الأديب الراحل العودات استطاع بصبره وكفاحه أن يحقق شهرة واسعة في عالم الإبداع وتجلياته فهو مثقف موسوعي رشح قلمه بالروائع من سير وتراجم وفكر وأدب متنقلاً داخل الوطن وخارجه بحثاً عن المعرفة.

عُرف العودات بحرصه الشديد على متابعة دراسته وبصبره وجلده وقدرته على تحمل الصعاب وحُسن تقديره للأمور وعُرف أيضاً بأخلاقه الحسنة وبذكائه الوقاد.

وله العديد من شهادات الحق التي أدلى بها معاصروة فقال فيه عارف العارف: ما دخلت عليه مرة في بيته إلا ورأيته وراء مكتبه دائباً ، جاداً مسطراً ، باحثاً ، كاتباً ومؤلفاً ، فقد أغنى المكتبة العربية بعدد كبير من كتبه ومؤلفاته وإني لأشهد في غير محاباة أو مغالاة أنني ما دخلت عليه إلا ورأيته جاداً ويروح يقرأ لي آخر ما توصل إليه من سطور حول هذا أو ذاك من المواضيع التي كان يعالجها.

وتحدث الدكتور زياد الزعبي في كتابه يعقوب العودات البدوي الملثم فقال: ظهر للعودات في حياته تسعة عشر كتاباً ، ظهر أولها وهو "إسلام نابليون" عام 1937 (يقع في إطار الكتب التاريخية) وآخرها رسائل إلى ولدي خالد عام م1970 وطبع له بعد رحيله كتابان: "من أعلام الفكر والأدب في فلسطين" عام م1975 و "رواد من الأدب المعاصر" عام 1995 وترك العودات إضافة إلى هذه الكتب عدداً من المؤلفات المخطوطة وقد أطلعت على مخطوطتين لكتابين غير مكتملين ، أولهما عن "عنترة" والثاني عن "مي زيادة" وذكر الدكتور محمود السمرة في كلمته التي ألقاها في حفل تأبين العودات مخطوطات أخرى منها: عريس الخلود فوزي المعلوف ، وأبو القاسم الشابي: النغم الحزين في شعرنا المعاصر ، والشاعر الثائر: ولي الدين يكن ، وشواعر العروبة ، والناظر في مجمل الكتب التي قدمها العودات للمكتبة العربية يجد أن معظمها يقع في باب أدب السير والتراجم" ولكن ما ينبغي أن يشار إليه هو أن تراجم العودات وسيره لم تكن تراجم أو سير محضة بل مزجت أحياناً بصورْ من البحث والدراسة وأخرى بعناصر من التوثيق والتسجيل ما جعل بعضها مراجع رئيسة في بابها كما هي الحال في كتابه الضخم: الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية الذي يمثل موسوعة مهمة اشتملت على مناحي تاريخية واجتماعية وأدبية وفكرية بحثية إضافة إلى عناصر عديدة تسجيلية توثيقية لحياة العرب في أمريكا الجنوبية وكذلك فإن كتابه "عرار شاعر الأردن ، يمثل مرجعاً مهماً عن حياة هذا الشاعر وأشعاره وآثاره فقد تقصى فيه الأخبار والحكايات والمواقف والنوادر والكتب التي وضعها العودات عن شعراء وأدباء ومفكرين هي أغلب كتبه نذكر بعضها: الغواني في شعر إبراهيم طوقان ، شاعر الطيارة فوزي المعلوف ، البستاني والإلياذه هو ميرس ، شكري شعشاعة الإنسان والأديب ، عبد العزيز الرشيد مؤرخ الكويت الأول ، القافلة المنسية ، من أعلام الفكر والأدب في فلسطين وهناك كتابات مترجمان عن الإنجليزية: الناطقون بالضاد في أمريكا الشمالية ، أصراع أم تعاون في فلسطين.

لقد كان الراحل العودات من أهم أدبائنا الرواد الذين أثروا المكتبة العربية بإنتاجهم الأدبي والفكري ، توفي العودات في منزله في عمان في الثالث والعشرين من شهر أيلول 1971م.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).