خليل خريسات ... كلل مسيرته بالعطاء والولاء والمحبة

خليل خريسات
خليل خريسات اسم يتردد صداه في الذاكرة الوطنية، فهو من رجالات الوطن الأوفياء الذين يمتد أثرهم الطيب كالصدقة الجارية، فقد وزع سني عمره على خريطة الوطن، ليشكل من خلال تنقلاته ووظائفه المتعددة فسيفساء رائعة من العمل المخلص والانتماء الصادق، مختطاً طريقه إلى النجاح والتميز من خلال محبة الناس، والصدق في التعامل وتقصى العدل والمساواة في حل القضايا، وتقديم الخدمات للناس في مختلف المحافظات، ساعياً للمساهمة في بناء الثقة وتكريس مؤسسية عمل الدولة، فلم يدخر في إتقان عمله سبيلاً، ولم يظن على تراب الوطن بنقطة عرق حقيقية، فقد كان مثالاً يحتذى في الصدق والتواضع والعمل الناجح، وبقي محافظاً على نهجه حتى وفاته.

لم تكن مدينة السلط عنده مسقط الرأس ومربى الطفولة والشباب وحسب، بل كانت نبض القلب وفضاء الروح، والصورة الأبهى التي بقي يرسمها طوال حياته، فقد ولد فيها في السابع عشر من شهر تموز عام 1938، وكانت السلط حينها حاضرة بارزة، وتتمتع بتنوع ديموغرافي وثقافي ثري، مما جعلها منارة لا تنطفئ في سماء الوطن، وقد شكلت كل هذه السمات عوامل إثراء نهلت منها شخصيته، التي لفتت الانتباه وأهلته لخوض عباب الحياة الصعبة وتحقيق التميز فيها، وقد زادته صلابة في المواقف التي تتطلب الشجاعة في المواجهة، وكذلك لين وطيبة قلب جعلتا منه إنساناً رقيقاً صاحب روح شفافة.

ينتمي خليل صالح حسن إلى عشيرة الخريسات التي تعود إلى قبيلة سعد من منطقة الطائف في الحجاز، وتقول الرواية أن جد الخريسات جاء من الطائف وأقام في عمان بوادي خريس الذي يعرف اليوم بوادي الحدادة، وقد رحل واستقر في السلط منذ ثلاثمئة عام، وقد سميت العائلة التي نتجت عنه بالخريسات، وأصبح لهذه العائلة امتداد في جنوب الأردن وشماله، من خلال تنقل بعض أبناء هذه العائلة في أكثر من مكان، وقد كان نصيب خليل خريسات في التنقل والترحال كبيراً، فقد قاده العمل الحكومي للعمل في أماكن عديدة من مدن وبلدات الوطن. دخل إلى المدرسة في عمر السادسة، مفتشاً عن مفتاح المستقبل القادم، ولا شك أنه كان يحمل إلى غرفته الصفية أحلام وشقاوات طفولته في ساحة البيت وأزقة الحارة، متطلعاً إلى الأيام القادمة بثقة وفرح، هكذا أنهى المرحلة الابتدائية، لينتقل بعدها إلى دراسة المرحلة الثانوية، التي تمكن في نهايتها من الحصول على شهادة الثانوية العامة، وكان ذلك عام 1957 من مدرسة السلط، حائزاً إعجاب معلميه، فقد كان محبوباً ومقرباً من الجميع طلبة ومدرسين، وهذه ميزة احتفظ بها أينما ذهب.

كانت الثانوية العامة كافية في تلك الفترة ليحصل خليل الخريسات على وظيفة مناسبة، فقد عين معلماً في مدارس وزارة التربية والتعليم عام 1958، ليدخل الحياة العملية بوقت مبكر، ونظراً لإدراكه لأهمية العلم في بناء الوطن وتقدمه، فقد قرر مواصلة تعليمه الجامعي، دون أن يخل بعمله الوظيفي، لذا انتسب لجامعة بيروت العربية من أجل دراسة الحقوق، وقد تمكن عام 1968 من نيل شهادة الليسانس في الحقوق من جامعة بيروت العربية، وكانت مسيرة العملية وفي وزارة التربية والتعليم ناجحة، عمل خلالها مدرساً ومدير مدرسة وإدارياً، وقد تمت إعارته إلى إمارة أبو ظبي في والإمارات العربية المتحدة، في قوة دفاع أبو ظبي، حيث عمل خلال مدة إعارته التي وصلت إلى ست سنوات، على تأسيس قسم الثقافة العسكرية وعين مديراً له، وكانت له بصماته الواضحة في هذا المجال في هذه الإمارة العزيزة.

لم يكن خليل خريسات ليضيع فرصة لتلقي مزيداً من العلم والمعرفة، فالتحق بمركز الدراسات في القاهرة، ليدرس مدة سنة ( دراسة عليا ) عام 1971، كما عمل خلال فترة خدمته في التربية والتعليم على الالتحاق بالجامعة الأردنية، ليدرس دبلوم عالي في التربية والتعليم، وقد كانت مدة الدراسة سنتين، ونال بعدها شهادة الدبلوم هذه عام 1976، وفي هذا العام انتقل خليل خريسات للعمل في وزارة الزراعة، حيث عين مستشاراً قانونياً ومديراً لشؤون الموظفين، وقد استمر عمله في وزارة الزراعة خلال الفترة من 1976 وحتى 1979، ويعد هذا العمل خبرة جديدة أضافها إلى سيرته العملية، وكان من الأشخاص القلائل الذين يتركون بصمات نجاحهم وتميزنهم، في أي عمل يقومون به أو أي مهمة يكلفون بها.

كان عام 1979 يحمل معه تحولاً كبيراً في مسيرته الوظيفية، فقد انتقل إلى وزارة الداخلية، ليعمل حاكماً إدارياً برتبة متصرف في مركز الوزارة، وكانت هذه الوظيفة الجديدة تتسق مع تخصصه الأكاديمي، وكانت فضاءً جديداً يكشف المزيد من قدراته وخبراته المتعددة، ففي عام 1980 عين متصرفاً ومساعداً لمحافظ البلقاء وهو عمل جعله في مواجهة مباشرة مع الناس من مختلف المستويات، وأن يتصدى لحل مشاكلهم ومواجهة قضياهم بهدوء متقصياً العدل من خلال نصوص القوانين وروح هذه النصوص، فاكتسب المحبة الصادقة وحقق النجاح والتميز في عمله، وخلال هذه الفترة عين رئيساً للجنة بلدية عين الباشا، كما عين مسؤولاً عن خدمات مخيم البقعة وذلك ما بين عامي 1980 و1982.

عاد خليل خريسات للعمل متصرفاً في مركز وزارة الداخلية، خلال الفترة من عام 1982 وحتى عام 1984، حيث تسلم عدة مهام ضمن هذه الفترة منها: مدير مديرية السلامة العامة ومدير مكتب وزير الداخلية، وكانت هذه المهام تتطلب قدراً كبير من المعرفة والخبرة في التعامل مع المراجعين من جهة ومع كبار رجال الدولة من جهة أخرى، حيث يعد عمله هذا ركيزة أساسية في وزارة الداخلية، التي تنهض بأعباء كبيرة، يزداد ثقلها مع تقدم الحياة وتعقد العلاقات، وكان خريسات مثالاً يعز نظيره في التواضع والجرأة، والقيام بمسؤولياته بكفاءة عالية، جعلته دائماً محط الأنظار وموضع الثقة والتقدير.

انتقل إلى ثغر الأردن الجنوبي، عندما عين عام 1984 متصرفاً للواء العقبة حينها، وكانت العقبة وما زالت واحدة من أكثر المدن نشاطاً وحيوية، وقد وظف فيها خبرته الكبيرة التي اكتسبها في وظائفه المختلفة، وقد واصل العمل في العقبة حتى عام 1988، وخلال هذه المدة وبحكم وظيفته أصبح رئيساً للجنة بلدية العقبة من عام 1985 وحتى 1987، كما عين عضواً في مجلس إدارة سلطة إقليم العقبة، وبذلك يكون قدم خدم في أهم مؤسسات مدينة العقبة، حيث عرف عنه حماسته الكبيرة في العمل، وقدرته على تحفيز المحيطين به للعمل بكل نشاط وجدة.

نقل خليل خريسات للعمل متصرفاً في مدينة مادبا عام 1988 وسرعان اكتسب رضا ومحبة كل من عرفه وعمل معه، وتمكن من تمتين الصلة بين المواطن ومؤسسة الحكم المحلي، غير أن المقام لم يطل به في مادبا، حيث عين عام 1989 مديراً للجنسية والإقامة وشؤون الأجانب في وزارة الداخلية، وتعد مسؤوليات هذا المنصب ذات حساسية كبيرة وتعقيدات ليست بالسهلة، لكنه كان دوماً أهلاً للثقة وعلى قدر المسؤولية مهما صعبت وعظم شأنها، ونظراً لنجاحاته المتواصلة والمضطردة، عين محافظاً وأميناً عاماً لوزارة الداخلية عام 1993، وكان هذا المنصب الرفيع والمهم دليلاً على ما تمتع به خليل خريسات من قدرات إدارية وصفات قيادية، أهلته ليكون الرجل الثاني بوزارة كبرى وسيادية، وتتويجاً لمسيرته العملية الناجحة واللافتة التي بدأها معلماً في وزارة التربية والتعليم.

احتفظ خليل خريسات بمنصبه أميناً عاماً لوزارة الداخلية مدة  زادت عن السنتين، أي حتى إحالته على التقاعد عام 1995، بعد رحلة عملية حافلة بالمتاعب والنجاحات والتحولات، لكنه مع ذلك لم يركن للراحة، بل واصل القيام بواجبه أينما دعي له، فقد أصبح مستشاراً لمؤسسة المدن الصناعية منذ عام 1995 وحتى نهاية عام 2004، كما اختير عضواً في لجنة مجلس أمانة المؤقتة عام 2007، وخلال مسيرته العملية شارك في عدد كبير من الدورات المتخصصة منها: دورات في الإدارة المتوسطة والطويلة وفي معهد الإدارة العليا، بالإضافة لدورة في الإدارة المحلية في ألمانيا. عانى في أشهر عمره الأخيرة من مرض عضال واجهه بصبر وصمت حتى وفاته في الثاني من شباط عام 2009، ومازال رغم غيابه مكتمل الحضور بيننا، لما تمتع به من محبة وتقدير وعمل صالح يبقى يذكر به وتزاد ذكراه عبقاً مع مرور الأيام.  
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).