جورج حداد ... شيخ الصحافيين

جورج حداد
يعد الحديث عن شخصية الراحل جورج حداد "أبو أدونيس" حديثا عن أبرز رواد الحركة الثقافية والإعلامية الأردنية ، فهو المثقف والسياسي والحزبي والصحافي الجريء ، فارس الكلمة الحرة التي أعلت بنيان مسيرة نضال عاشها قلباً وقالباً مشرعاً قلمه ليكتب بمداده إيمانه بالوحدة العربية والقضية الفلسطينية حيث كشف في وقت مبكر خطر الصهيونية وتهديدها للأمن القومي للعرب وناهض الصهيونية ورفض وجودها ، وخشي من تهويد المسيحية فدافع عن ديانته كما دافع عن المقدسات المسيحية والإسلامية من ادعاءات وأكاذيب الغرب ، وظل حتى أنفاسه الأخيرة مؤمناً بأمته العربية وبقدرتها على إعادة هيكلة ذاتها وعودة العزة والمجد والفخر لها كونها أمة تستحق ذلك فهي أمة الكرامة والكبرياء. 

قيل عنه إنه أبرز كاتب في جريدة "الدستور" الغراء وهو شيخ الصحافيين فيها حيث كانت زاوية "هزة غربال" والتي ينتظرها رقم قياسي من القراء كل يوم خميس شاهد عيان على أن الكاتب "جورج حداد" شكل ظاهرة غير عادية بملامسته للواقع وبطرحه قضايا اجتماعية سياسية فكرية واقعية بميزة خاصة تجمع بين عمق الموضوع وبساطة أبي أدونيس وعفويته وجمالية عبارته وكلماته الغنية بطيبة الفلاح البار لوطنه وبإيماءات الأخ والصديق والابن المقرب. 

ولد جورج حداد في مدينة السلط العام م1934 وتابع تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدرسة العروبة في إربد وكان من أصدقائه في الدراسة: زياد أو غنيمة وسامح الرجال وغسان زيتون ، وبعد ذلك حصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية ثم عمل في وزارة التربية والتعليم لمدة خمسة عشر عاماً في محافظة إربد وقراها لينتقل بعد ذلك إلى عمان العام م1971 للعمل في القسم السياسي في الإذاعة الأردنية كمعلق سياسي حيث عمل على إعداد برنامج عبري موجه وكان برنامجه الوحيد الذي نجح في العالم العربي بشهادة جامعة الدول العربية ، بعد ذلك عَمًل محللاً سياسياً في التلفزيون الأردني ، كما عمل كاتباً سياسياً بشكل يومي في صحيفة الرأي منذ تأسيسها وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، ثم انتقل للعمل في صحيفة "الدستور" ككاتب يومي واستمر فيها حتى مماته. 

وخلال فترة عمله في التلفزيون الأردني قام الراحل حداد بتأسيس القسم العبري وعُين رئيساً له وكانت لأعماله من نشرات إخبارية وتعليقات سياسية آنذاك التأثير الأكبر داخل المتجمع الإسرائيلي حتى وصفته غولدا مائير إبان حرب العام م1973 قائلة: "بتاريخ دولة إسرائيل لم تتعرض لحرب نفسية شرسة كالتي شنها تلفزيون الأردن" ثم عين مديراً لدائرة الأخبار في التلفزيون العام م1974 ومن ثم مستشاراً سياسياً في وزارة الإعلام. 

كان الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية مولعاً بقراءة مقالات الراحل حداد ، نظراً لغنى محتواها بالأفكار والمبادئ القيمة لدرجة يجد القارئ نفسه متلهفاً لقراءة أفكار أبي أدونيس الذي لم تحد بوصلة قلبه يوماً عن سمو الأفكار والاعتزاز بالهوية الأردنية ليضرب أروع المثل بالوضوح والشجاعة ودقة الموقف وصلابة الرأي في القضايا الحساسة والمصيرية. 

جمعته علاقة طيبة مع الشهيد الراحل "وصفي التل" رئيس وزراء الأردن وكان أبو أدونيس ينظر إليه على أنه قومي عربي والتقى هذان الثنائي بوطنيتهما وعشقهما للتراب الأردني ومحبة الناس والوقوف على همومهم وأوجاعهم ، وفي حديث له عن الشهيد وصفي التل قال أبو أدونيس: وصفي قومي عربي ظُلم كثيراً أراد أن يكون الأردن قوياً كركيزة ومنطلقاً لوحدة الهلال الخصيب. وأضاف في حديث له مع الأستاذ ماجد الأمير قائلاً: كان وصفي قومياً وقائداً عربياً وفلسطين كانت محور حياته ، والثأر لهزيمة العام 1967 كان أيضاً محور حياته وكان الشهيد التل ضابطاً في الجيش السوري العام م1948 واعتقله حسني الزعيم وسجنه ، وهو أحد أعضاء حركة القوميين العرب ، حيث عمل في الجيش البريطاني بناء على حركة القوميين العرب التي طلبت من العديد من أعضائها الانتساب للجيش البريطاني واستغلال التدريب فيه ، وفي العام م1948 أصبح وصفي قائداً في جيش الإنقاذ العربي وأراد أن يواصل القتال ضد اليهود رغم إعلان الهدنة لكن حسني الزعيم اعتقله". 

انضم الراحل جورج حداد إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي وفي حديث له عن نشاطه الحزبي قال: الحزب القومي السوري الاجتماعي لم يؤيد الوحدة بين مصر وسوريا لكنه لم يعمل ضدها ، ولا نعتقد أن العالم العربي أمه واحدة بل هو أربعة أقاليم لأربعة شعوب هي: الهلال الخصيب ، الجزيرة العربية ، وادي النيل "مصر والسودان" والمغرب العربي ، والأصل أن يتم توحيد كل إقليم على حدة ثم تتشكل جبهة عربية واحدة ، لهذا السبب لم نؤيد وحدة مصر وسوريا لأننا نؤمن بوحدة الهلال الخصيب في البداية وباقي الأقاليم. 

أما عن نكبة العام م1948 وما تبعها من مساعدات قدمها أهالي إربد لأشقائهم اللاجئين فجاء قوله: "بدأنا بتقديم المساعدات لهم من أهل المنطقة ولأول مرة دخل إلى قاموسنا مصطلح "لاجئين" ، وذهب العديد من رجال إربد للجهاد في فلسطين مستقلين شاحنات نقل "تركّات" ، والحياة كانت بسيطة في ذلك الوقت حيث كانت مدن إربد والسلط قرى كبيرة وكانت الحياة خالية من الضغوط المادية لكنها مليئة بالقيم الروحية والخلقية وقبل العام م1948 كان ارتباط إربد بحيفا وطبريا ودمشق أكثر من ارتباطها بعمان والكرك في الشؤون الحياتية والاقتصادية والاجتماعية. 

وخلال فترة الخمسينيات كان هناك العديد من الأحزاب المتنوعة في أفكارها ومبادئها وكان العمل الحزبي ضرورة أساسية في حياة الأفراد كالمأكل والمشرب والملبس ومن أبرز الأحزاب التي كانت موجودة في تلك الفترة: الحزب الشيوعي ، حزب البعث ، الإخوان المسلمين ، الحزب القومي السوري الاجتماعي. 

وتابع أبو أدونيس قائلاً: أبو غريبة قال لي أن المعلمين في فلسطين كانوا يحرضون تلاميذهم على عدم استعمال كلمة فلسطين وذلك رفضاً لمؤامرة التقسيم "سايكس بيكو" وحتى العام م1936 كانت بلاغات الثورة في فلسطين توقع باسم (الثورة السورية - فلسطين) ، إن المؤتمرات التي عقدت في القدس في العامين 1919 1920و عقدت باسم (المؤتمر السوري - فلسطين) وأحد هذه المؤتمرات كانت برئاسة هاشم الأتاسي الذي أصبح بعد ذلك رئيساً للجمهورية السورية ، أما مؤتمر القدس الذي عقد العام 1920 فقرر بالإجماع رفض انسلاخ فلسطين عن سوريا ويدلل على النظرة الوحدوية للناس أن الشيخ كايد المفلح العبيدات (أول شهيد أردني على أرض فلسطين) قاد عشيرته العام 1920 لقتال اليهود في فلسطين ، فالشيخ لم يذهب للقتال لأن الفلسطينيين شعب شقيق بل ذهب لأنه كان يعتبر نفسه وعشيرته والأردنيين والفلسطينيين شعباً واحداً. 

برز اهتمام الراحل حداد بكتابة الأغنية الأردنية التي رسمت طريق التراث الأصيل وكانت كلمات أغانيه تبث عبر أثير العديد من الإذاعات العربية للتأكيد على جمالية التراث الأردني الذي ساهم أبو أدوينس بتحديد معالمه. 

لقد شكَّل غياب "جورج حداد" عن ساحة العمل الصحفي - تاركا تراثاً عظيماً بأهميته ومضمونه للأجيال القادمة ، ليبقى مكانه في صحيفة "الدستور" الغراء خالياً من فكره المتألق وذوقه الراقي الرفيع - فجيعة في القلب لكل من عرفه أو سمع به ، حيث هبّ أصحاب الفكر والسياسة لذكر مناقبه وصفاته فقد قال فيه الأستاذ محمد حسن التل رئيس التحرير المسؤول بجريدة "الدستور": "من أصعب الأمور على النفس والروح أن يتهاوى من تحبهم ومن عشت في ساحاتهم واحداً تلو الآخر ، فقد كان أبو أدونيس مدرسة في الصحافة النظيفة ، والفكر العروبي النظيف وشكل حالة خاصة في هذه الميادين على امتداد عقود طويلة". 

"أما رئيس مجلس الأعيان السيد طاهر المصري فقال فيه: جورج حداد عاش من أجل رسالة آمن بها وبقي ناسكاً زاهداً في الحياة ليكون مثالاً يحتذى به في الخلق والعفة ونظافة اليد والفكر ، فالأمة بدون رسالة تكون أمة تائهة وضائعة ، وقد دعا الراحل جورج حداد إلى العمل على نهوض الأمة من خلال تحديد وتجديد تلك الرسالة العظيمة التي حققت فيها الأمة أكبر انجازاتها". 

وحول رحيل أبي أدونيس تحدث الشاعر حيدر محمود قائلاً: "إذا كانت "الصحافة" مدارس متعددة الاتجاهات والميول والأفكار ، فإن "الدستور" بالذات تبقى المدرسة التي جعلت من الحوار الهادئ الرصين عنوانها الرئيسي ومن الطبيعي أن يحضر في هذا السياق الراحلون الكبار: محمود الشريف ، وكامل الشريف ، وجمعة حماد ، ليكونوا في طبيعة الكوكبة التي أسست لذلك النهج من تآلف الألوان على اختلافها وتداخلها وتفاعلها جنباً إلى جنب مع أبي بلال ، وأبي أدونيس وغيرهما من هذه الأسرة الكريمة "أسرة الدستور" لتُخرج مواكب كثيرة وكبيرة من الذين لم يفسد اختلاف آرائهم وتوجهاتهم للود قضية". 

وتحدث وزير الإعلام والاتصال الأستاذ طاهر العدوان قائلاً: "بقي الراحل جورج حداد على الدرب الذي اختاره بعناد ورجولة ، يصوغ كلماته ومبادئه وأفكاره وأحياناً عواطفه وكأنها طقس ديني فهو يعتقد أن فهم ووعي خطورة "المؤامرة اليهودية" يجب أن يكونا جزءاً من تفسير تردي حياة ومصائر العرب الذين يعانون من الانقسام والهزائم". 

أما د. رؤوف أبو جابر وهو أحد الأصدقاء المقربين من الراحل حداد فتحدث قائلاً: "سعدت بصداقتي لأبي أدونيس هذه السنين الطوال وكنت أقدر له هذه الجولات في عالم الصحافة دفاعاً عن العروبة ونهضتها وكنت أعتز بحملاته الشجاعة في الدفاع عن عروبة القدس ومؤسساتها وأهمية قيام كل عربي بواجبه في صيانة أوقافها سواء الإسلامية أو المسيحية منها لأنها الذخيرة والتراث الذي سيعين أهل القدس في الصمود على أرضهم ومواجهة هذا العدوان الاستيطاني الغادر ، كان جورج - رحمه الله - عربياً وكانت له نفثات مستحبة رغم شدتها لأنها كانت تصدر عن نفس نبيلة مدعومة بالمحبة والرجاء والإيمان بأن الحق أقوى ولو طال الزمن". 

وهكذا شكل رحيل "جورج حداد" خسارة فادحة كونه أبرز الكتّاب القلائل المتسلحين بثقافة واسعة وبنظرة ثاقبة لأدق الأمور المتعلقة بالمصير العربي وكشف زيف العدو الصهيوني ، غاب فارس الكلمة الصادقة وشيخ الكتّاب الأردنيين وعميد الصحافيين الأشاوس لكن ذكراه باقية بيننا نستطلعها بقراءة كتاباته المتسمة بدرجة الوعي العالية وبكل معاني الصدق والالتزام.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).