عيسى أبو دلهوم .. عايش تحولات القرون في الشرق



التاريخ الشفهي؛ يزخر بإرث عظيم وبكنوز مخبوءة، تختفي أسرارها برحيل رواتها الثقات، مما يحرم الأمة من جوانب مهمة من تاريخها غير المدون، فتذوب ركائز نهضت عليها حضارة الأمة ورسخت ثقافتها وحضورها المتواصل، ومن بين هذه المحفوظات المهددة بالخطر، ما يتعلق بمنجزات شخصيات وطنية فذة، عاشت وعملت بصمت بسبب ظروف متعددة، أبعدتها عن الإعلام والتدوين، فحفظتها القلوب النقية، ونقشتها الذاكرة الشعبية في أماسي الحكايات والتذكر، فلولا ذلك لكانت خسارتنا في هذا الجانب كبيرة وصعبة التعويض.

إن سيرة الشيخ عيسى أبو دلهوم، تعد تصويراً لشخصية فريدة، عايشت مراحل مهمة من الحراك العربي من أجل الحرية، وواكبت ثورة العرب الكبرى وجهود تأسيس الدولة الأردنية على يد نجل شريف مكة ومنقذ العرب الشريف الحسين بن علي، الأمير المؤسس عبد الله بن الحسين، فقد سجلت الروايات كما أفادنا الأديب ممدوح أبو دلهوم أن الشيخ عيسى بن عبيد الله بن محسن الدلاهمة أبو دلهوم ، قد ولد في حدود عام 1868، في مرحلة كانت فيها المنطقة تأن تحت ثقل قرون من الحكم العثماني، الذي أهمل العرب خاصة في أواخر عهده ونكل بهم. لقد ولد الشيخ عيسى أبو دلهوم في قصر شبيب التاريخي الذي يتوسط مدينة الزرقاء اليوم، وهو قصر يعود للأمير شبيب، فالشيخ عيسى هو سليل الأمير شبيب ابن مهيد الذي شيد هذا القصر، وكانوا أجداده من كبار ملاكي أراضي غرب عمان، خاصة في مناطق دابوق وصويلح وشفا بدران والشميساني، ولا شك أن هذا الإرث الكبير من التقاليد والقيم المتعلقة بالزعامة العشائرية، قد كونت منظومة أساسية في نشأتة وأسهمت في بناء شخصيته الفذة.

تربى في كنف والده الشيخ عبيد الله فأخذ عنه الكثير من صفات التي ميزته كالشجاعة والكرم وطيب النفس والإيثار، وهي سمات أهلته للزعامة العشائرية، بالإضافة لما تميز به من ذكاء وفطنه وسرعة بديهة، وكان قد تعلم الفروسية منذ طفولته، فكان يجوب الأراضي الممتدة من الزرقاء حتى غربي عمان على صهوة حصانه دون كلل أو ملل، وتعلم ومن والده وشيوخ تلك الفترة الذين خبرهم صغيراً وشاباً الكثير من أمور الحياة، فعرف القضاء العشائري، وأخذ عنهم كيف يقوم على الناس ويخدمهم ويحل مشاكلهم، وحفظ الشعر النبطي، ودون في ذاكرته كثير من قصص البطولة التي زخرت بها البادية في مراحل مختلفة، فكان أنموذجاً لفرسان عصره، بزعامته المتوارثة وبتواضعه وقربه من الناس، لتكريسه حياته لخدمتهم إكرامهم، وتقدم المساعدة لمن يحتاجها، فلا يبخل بغالٍ أو نفيس.

تميز الشيخ عيسى كقاضٍ عشائري ذائع الصيت، وهو عمل أوقف عليه سنوات عمره الطويلة التي امتدت على قرنين زاخرين بالأحداث الجسام، وقد سعى إليه طلاب الحق من مختلف مناطق الأردن، وبعضهم قصده من خارج البلاد، لما عرف عنه من تحري العدل مهما كان نيله صعباً، ولمعرفته العميقة بشؤون القضاء، حتى عد حجة لا يشق له غبار في هذا المجال، حيث كان للقضاء العشائري دوراً رئيسياً معوضاً عن غياب المؤسسات المدنية، خاصة في الحقبة العثمانية، حيث تحولت العشيرة إلى مؤسسة حكم محلي، وتجاوزت وظيفتها الاجتماعية بحكم الظروف الواقعية، وقد كفل له القضاء مكانة اجتماعية واسعة النطاق، فكان شيخاً مهيباً، أحبه الناس وسعوا إليه.

عرف الشيخ عيسى بإصلاح ذات البين، فكثيراً ما كان يدفع من جيبه الخاص نقوداً ليصلح خلافاً أو يساعد محتاجاً، فقد عرف بأنه كريم معطاء، يجزل العطاء لكل مستحق أو صاحب حاجة، فقد كان من الملاكين الكبار للأراضي الخصبة والواسعة الممتدة بين شفا بدران وصويلح وماحص ودابوق والشميساني، فكانت له قرية حيث أقام وقد سميت باسمه – قرية عيسى – أقام بها ديوانه الشهير الذي عرف بين الناس باسم ( عراق عيسى ) وقد نتج عن مبادراته المالية اتجاه كل من يقصده، وعطاياه المتواصلة وولائم الخير التي كان يقيمها، أن أخذت أراضيه بالتناقص المطرد، من قبل المرابين الذين عرفوا بجشعهم في تلك الفترة، فخسر كثيراً من الأراضي الزراعية، خاصة في سنوات القحط عندما ازداد قُصّاده من أصحاب الحاجة.

كان الشيخ أبو دلهوم مقرباً من المغفور لهم بإذن الملك المؤسس عبد الله الأول ابن الحسين، والملك طلال بن عبد الله والملك الحسين بن طلال، وكان صديقاً للأمير شاكر بن زيد، وعلى صلة قوية بزعماء القبائل الأردنية من أمثال ماجد العدوان وسلطان العلي ومثقال الفايز ونهار الرقاد وعبد ربه العساف وعبد الله اللوزي وحمد أبو حيدر وذوقان الحسين، غيرهم الكثير من الشيوخ والوجهاء ورجالات الوطن الرواد، فقد كان على علاقة وطيدة مع رؤساء الحكومات ورجال الدولة من قادة الجيش والدرك وعدد من الوزراء ومسؤولي الحكم المحلي، فهو بمكانته وما يقوم به من خدمات عامة ولما تمتع به من رأي سديد وكلمة مقدرة، كان معاضداً لمؤسسات الدولة ولرجال الحكم، فكثيراً ما يطلبون مشورته، أو يوكلون له بعض المهام التي تتطلب حكمة وقدرة على التقدير وحسن التصرف، فيحل قضايا شائكة بخبرته ومصداقيته العاليتين، فهو بحق من الرجال الكبار الذين عاصروا مراحل صعبة.

 ذكر المرحوم سعيد بينو، أنه عندما وصل الشيشان إلى الأردن عام 1906، مهاجرين من بلادهم في القفقاس، نتيجة لتنكيل الروس بهم بعد احتلال بلادهم، وعندما أسس الأمير عبد الله إمارة شرق الأردن عام 1921، طلب من العشائر التي تقطن الشفا وصويلح تخصيص الأراضي حول عين صويلح للشيشان إكراماً لهم، ولحاجتهم إلى الإقامة قرب مصادر المياه، فسارع زعماء العشائر بتنفيذ رغبة الأمير عن طيب خاطر فذلك من شيمهم، وقد قدر الأمير مبادرتهم فأكرمهم، حيث قام بإهداء الشيخ عيسى منطقة « جناعة « في محافظة الزرقاء حالياً، وهذا يدلل على ما تمتع به هذا الشيخ الجليل من مكانة مؤثرة، فكان كثرى هذا الوطن معطاءً بلا منة، متقبلاً بتواضع، يدرك أن السياج الحقيقي للوطن هو تماسك نسيجه الاجتماعي الذي يشد بعضه بعضاً كالبنيان المرصوص.
أقامت عشيرة الدلاهمة بجوار عشائر الشيشان والشركس وعشائر من العدوان والسلطية، وتدلل الروايات أن الدلاهمة عاضدوا الأمير عبد الله بن الحسين في جهود تأسيس إمارة شرق الأردن، كما أن الشيخ عيسى أبو دلهوم شارك في استقبال الأمير عبد الله لدى وصوله إلى عمان قادماً من معان، وفي عام 1924 كان له دور ملحوظ مع شيوخ العشائر ورجالات البلاد في استقبال الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز، الذي زار عمان لفترة من الوقت. لقد عاش الشيخ عيسى عمراً طويلاً، حيث امتد عمره على مدى ثلث القرن التاسع عشر وثلثي القرن العشرين، معاصراً أحداثاً كبيرة وتحولات حاسمة شهدتها المنطقة، وعرف بزهده وتقواه والتزامه بالفروض ومعرفته الجيدة بالعبادات.

اضطر الشيخ عيسى إلى ترك قرية عيسى – دابوق – وهجر ديوانه عراق عيسى، بعد ضياع أراضيه التي أخذها التجار بما عرف حينها ، بالفايض وهو نوع من الربا ساد في تلك الفترة، فغادر هذه المناطق في أواخر أربعينيات القرن الماضي، ليقيم في قرية جناعة في محافظة الزرقاء، حيث كرمه أخواله بني حسن أحسن تكريم، ,هكذا فعل أنسباؤه بني صخر، وبقي مقيماً في جناعة حتى وفاته عام 1970، ورغم أن سنوات طويلة مرت على وفاته فإنه مازال حياً حاضراً بفضل الذاكرة الشعبية والذكر الطيب. 
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).