الملك طلال بن عبدالله |
الهاشميون صُنَّاع التاريخ ، والمستعرض لسيَّر حياتهم يجد أنهم مميزون نسباً وخُلْقا فآثارهم وبصماتهم واضحة وملموسة في تغيير مجرى التاريخ منذ بداية القرن العشرين ، حيث هيأ شريف مكة (ملك العرب) الحسين بن علي الأسباب والظروف لنشأة وقيام الدولة الأردنية ليقوم نجله الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين بتأسيسها وتثبيت قواعدها. أما عهد جلالة المغفور له الملك طلال بن عبد الله فقد كان عهد انطلاق ثوري أبيض نحو المزيد من القوة والمنعة ونحو الأفضل ونحو التطور والعمران للإنسان الأردني الحديث ، فصاغ دستور المملكة على أكمل وجه ليضاهي دساتير الدول المتقدمة في ذلك الوقت ، وفي عهد الملك الباني المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال شهدت الدولة الأردنية انجازات متسارعة في عجلة التنمية المستدامة التي شهدت جميع القطاعات فمن تعريب الجيش إلى إنشاء الجامعة الأردنية إلى انجاز الميثاق الأردني إلى الانتصار في معركة الكرامة وغيرها الكثير من المنجزات الهامة ثم قام جلالة الملك المعزز عبد الله الثاني بن الحسين أطال الله في عمره بتعزيز ما بدأه والده فكان سلاحه الشرف وعدته الإيمان بالحق فكانت مبادئ الثورة العربية الكبرى الخطوط العريضة التي إنطلق منها جلالته لحمل راية الأردن معززاً هذا الوطن في جميع المجالات وعلى مختلف الأصعدة.
وفي هذا المقام أردنا أن نستعرض سيرة حياة أحد الملوك الهاشميين وثاني من تولى عرش المملكة الأردنية الهاشمية. على الرغم من أن فترة حكمة كانت قصيرة إلا أنه استطاع بحكمته وذكائه أن يتجاوز الصعاب التي كانت تواجهه ، عُرف بوداعته ولطفه ودماثة أخلاقه وعكوفه على الدرس والمطالعة فآمن بأبناء شعبه وكان قريباً منهم فالتف الأردنيين حوله وأحبوه حباً عظيماً.
ولد الأمير طلال بن عبد الله في مكة المكرمة في 26 شباط م1909 ونشأ في كنف والده الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين وتحت رعاية جده ملك العرب وقائد الثورة العربية. وقد وصفه والده الملك المؤسس عبد الله بن الحسين قائلاً: "طلال بكر الأنجال ورهن الدلال حاضره ناضر ومستقبله بعناية الله باهر ، وهو للعمل وللآتي من الزمن أمل ، له معي نادرتان أولاها أذهبت غيظي وآخراهما كانت سبباً لتعزيتي ، الأولى شكاية من معلمه أثارت حفاظي عليه وثارت بي إليه مبادئ العقاب ، ولكن عندما رآني وقد كدت أن أبادءه بما اعتزمت هش في وجهي وقال أبي فأنهى الغضب فصفحت وانصرفت ، وأما الأخرى فكانت يوم المصيبة الكبرى يوم فقد الوالد وضياع الملك الماجد حيث قابلني وأنا متقدم إلى غرفة الفقيد الشهيد فأجهش في وجهي وهو في حالة بين الباسم والباكي ثم انكفأ على رجلي يقبلها ففهمت ما وقع وكان لي نعم العزاء يذكرني بما عليَّ من واجب الصبر على المصاب وتحمل ما سيأتي من مصاعب وأتعاب يجدر بابن الفقيد والله الفعال لما يريد". "أنت يا طلال صوغ يدي وفلذة كبدي وولي عهدي وخليفتي من بعدي". بعد أن أتم سمو الأمير طلال بن عبد الله دراسة العلوم التي تقرأ في المدارس الثانوية على أيد أساتذته الخصوصيين ، في عمان وهم عبود النجار ، مصطفى الغلاييني ، نجيب بليق ، عمر الأنسي وعلي منصور. التحق سموه بكلية ساندهيرست العسكرية في بريطانيا وتخرج فيها برتبة ملازم عام م1929 فكان أول ضابط عربي أردني يتخرج من الكلية والتحق بخدمة جده مفجًّر الثورة العربية الكبرى عندما كان في قبرص ثم رجع إلى عمَّان ، والتحق الأمير طلال بالجيش العراقي في العراق ثم عاد إلى عمَّان ليكمل التدريب العسكري الذي بدأه في قوة الحدود.
وفي عام (1942)م التحق صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد الله بكتيبة المشاة الثانية من كتائب الجيش العربي الأردني وساهم في تدريبها وتطويرها ، وعندما شُكل لواء السيارات المسلحة من الكتائب الأولى والثانية والثالثة عام م1943 كان سموه يزوره باستمرار ويشترك في المناورات والتمارين التي يقوم بها ، أولى سمو الأمير سلاح المدفعية جُل اهتمامه وكان يعتني بشكل خاص بكتب التدريب العسكري وقدَّم سمو الأمير طلال كراسات التدريب الخاصة بالمدفعية جلبها معه من كلية ساندهيرست العسكرية عندما بوشر بتشكيل أول فئة مدفعية عام م1940 وقد قام سمو الأمير بزيارتها وفرح بها فرحاً عظيماً. أصبح سمو الأمير طلال ولياً للعهد في 17 آذار م1947 حيث قام صاحب الجلالة الملك عبد الله الأول بن الحسين بإصدار إرادة ملكية سامية بأن يصبح الأمير طلال ولياً للعهد وذلك عملاً بالمادة (22) من الدستور.
وعندما بدأ القتال في فلسطين عام م1948 انتقل الأمير طلال بن عبد الله إلى رام الله حيث اتخذ موقعاً أمامياً مع بطارية المدفعية المساندة للوحدات التي كانت تهاجم المواقع الإسرائيلية في القدس وقد أمضى سموه وقتاً كثيراً في الخطوط الأمامية يحث الجنود على الاحتفاظ بمواقعهم والاحتفاظ بمرتفعات الرادار وبيت سوريك والنبي صموئيل. وقد تعرض للقصف الإسرائيلي شأنه شأن الجنود المرابطين في الجيش العربي مع حرصه المطلق على بث روح الشجاعة والصبر والإيمان بين أفراد الجيش والعمل على رفع معنوياتهم ، ونتيجة لبطولات الأمير الشاب وموافقة القتالية ازداد إعجاب أفراد الجيش العربي به وازدادوا ارتباطاً بسموه.
عند استشهاد المغفور له الملك عبد الله بن الحسين في رحاب المسجد الأقصى في 20 ـ 7 ـ 1951م. نودي بالأمير نايف بن عبد الله وصياً على العرش بقرار من مجلس الوزراء برئاسة توفيق أبو الهدى حيث كان سمو الأمير طلال يستشفي في سويسرا وعقد مجلس الأمة جلسة طارئة يوم 4 ـ 9 ـ 1951 وقرر بالإجماع المناداة بالملك طلال ملكاً دستورياً على البلاد اعتباراً من 5 أيلول م1951 في الوقت الذي كانت البلاد بحاجة إليه وبالفعل غادر سمو الأمير نايف والسيد سعيد المفتي عمان إلى سويسرا ثم عاد الأمير نايف مع أخيه الأكبر طلال وفي اليوم السادس من أيلول م1951 وصل الملك الشاب عائداً من سويسرا وحضر إلى قاعة مجلس الأمة وأقسم اليمين الدستورية وسط فرحة النواب والأعيان بهذا الحدث وأطلقت المدافع إحدى وعشرين طلقة. وقد قرر مجلس الأمة المناداه بالأمير حسين ولياً للعهد يوم المناداة بوالده ملكاً على الأردن وبتاريخ 9 أيلول أصدر الملك طلال إرادة بأن يلقب الأمير حسين (ولي العهد) طبقاً للفقرة (ب) من المادة (22) من الدستور والتي تنص على أن يكون الوارث للعرش أكبر أبناء الملك سناً.
وقد استهل الملك طلال عهده بالعمل على تأسيس الكيان الأردني لما يتمتع به من حكمة وشجاعة وإصرار فاستطاع أن يتجاوز الصعاب الكبيرة في أحلك الظروف التي عصفت بالمنطقة مستنيراً بإيمانه وإخلاصه والتفاف أبناء الدولة الأردنية حوله ساعياً إلى تحقيق أهداف الثورة العربية الكبرى المتمثلة في الحرية والوحدة والحياة الفضلى.
عَمًل جلالة الملك طلال على إعلان الدستور الجديد وإبرام اتفاقية الضمان الجماعي العربي وتأليف مجلس الدفاع المشترك وإنشاء ديوان المحاسبة وإلزامية التعليم الابتدائي وغيرها من الانجازات المتمشية مع روح العصر.
وفي عهد جلالة الملك طلال أصبح التعليم الابتدائي إلزامياً ومجانياً وبذلك فإن الملك طلال وضع حجر الزاوية من أجل تحقيق نهضة تعليمية حديثة ، وقد عَمًل جلالته على تطوير الحياة السياسية في البلاد فأمر بتعديل الدستور ليصبح بصيغة جديدة ليواكب التطورات العظيمة التي حلت بالمملكة بعد وحدة الضفتين وازدياد الشعور الوطني لدى أفراد الدولة الأردنية الواحدة فأعلن جلالته في هذا الدستور أن المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة وأن الشعب الأردني جزء من الأمة العربية. ونص في المادة الثالثة والعشرون على حق جميع المواطنين في العمل ، ووضع التشريعات الضرورية للمحافظة على حقوق العمال وتنظيماتهم النقابية ، وجاءت المادة الرابعة والعشرون لتنص على أن الأمة مصدر السلطات ونصت المادة (51) على أن رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما أن كل وزير مسؤول أمام مجلس النواب عن أعمال وزارته ونصت المادة الثالثة والخمسون على أنه يتوجب على الوزارة أن تستقيل إذا قرر مجلس النواب عدم الثقة بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه.
وفي عام 1934 تزوج الملك طلال من الملكة زين الشرف بنت جميل بن ناصر بن علي ورزقا بكل من جلالة الملك حسين وسمو الأمير محمد وسمو الأمير الحسن وسمو الأميرة بسمة ، وكانت الملكة زين رحمها الله رمزاً من رموز الأردن النسائية حيث حظيت باحترام ومحبة الشعب لما اتصفت به من حكمة وشجاعة وقوة شخصية ساعدت على رعايتها للوطن في ظروف وأوقات صعبة مر بها ، وكانت من رائدات الحركة النسائية والتي ساعدت صفة القيادة لديها مشفوعة بالقيم والتعاليم الإسلامية من جعلها أنموذجاً يحتذى به للمرأة المسلمة والعربية ، وأسست جلالة الملكة زين عام 1944 أول اتحاد نسائي في الأردن وتبعه بتأسيس الفرع النسائي لجمعية الهلال الأحمر الأردني عام م1948 ، مثلما قامت بدور فعّال ومهم في تطوير الحياة السياسية الأردنية في الخمسينات من القرن الماضي وكانت عاملاً مساهماً إلى جانب الملك طلال في صياغة دستور المملكة عام م1952 الذي أعطى المرأة كل حقوقها ، ونتيجة للعلاقة الصادقة والحميمة التي تكونت بين الملكة زين الشرف والشعب الأردني لقبوها "بأم الأردنيين" ومن رحيلها إلى بارئها يوم 26 نيسان م1994 انتهى فصل مهم من التاريخ المعاصر للأردن لكن ذكراها ستظل قائمة وموضع إجلال وفخر في قلب الوطن والمواطن.
اتصف جلالة الملك طلال بن عبد الله بصفات لصيقة بشخصيته فكان لطيف الخلق مهذباً صاحب خلق رفيع لا يهاود في الرأي ولا تأخذه في الحق لومة لائم كما كان له في سمو أخلاق والده وعظيم مبادئه أكبر نصيب في حياة كونه الشاب النبيل صاحب القلب الكبير ، ينظر إلى الأمور نظرة العاقل الأديب فينفذ في صميمها ، ويحكم عليها فيصيب بعيد أهدافها يحمل قلباً طيباً يساعد المحتاجين فتجده قريباً منهم فأحبه جميع أفراد المجتمع الأردني. قال حسن خالد أبو الهدى في شخصية الملك طلال بن عبد الله: كنت أعجب من دعته ولطفه ودماثة أخلاقه وعكوفه على الدرس والمطالعة ، ينظر إلى الأمور فيصيب الهدف ولا غرو فهو فرع تلك الدوحة الطاهرة المطهرة وسليل بيت النبوة ، وحفيد رسول الهدى ، ومهبط الوحي ومعدن اليقين ، إنه شريف النفس أبيها ، كثير التأمل والتفكير مغرم بالتحصيل والاستفادة ، يميل إلى الحياة الديمقراطية والاتصال بطبقات الشعب على اختلاف أنواعها.
أما شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار) فقد عَمًل سكرتيراً خاصاً لجلالة الملك طلال وحول ذلك فقد تحدث قائلاً: "أما صفات الملك طلال بن عبد الله فأبرزها الصراحة في القول والعمل والقصد في الكلام وقد يبلغ بصراحته درجة التطرف إذا جد الجد وكان الموضوع مما لا تصح فيه هوادة في الرأي وفي الحكم ، وإني أدع للأيام ولسموه تقديم خير الأمثلة وأسماها على وطنيته وشدة تمسكه بإسلاميته وعروبته وسموه بسيط في مجالسه قليل الرسميات مع حاشيته يتبسط في معاشرة أصدقائه تبسطاً يزيد في رزانته ووقاره ومن صفاته الخاصة التي تعجبني وتطربني ولعه البالغ بالمطالعة وشغفه بقراءة الكتب التاريخية والسير والتي تحتوي خزانه سمو والده منها الكثير النادر ، وأستطيع أن أقول أن تسعة أعشار أوقاته يقضيها بقراءة الكتب والمجلات وله ميل خاص لقراءة معظم ما تكتبه الجرائد من أخبار الأقطار العربية وما يذكر لسموه بالشكر ويسطر بمداد الفخر ويضاف إلى ما أظهر من الدراية والحنكة والحكمة والروية ، جمعه الكلمة بين الأحزاب ووضعه حداً حاسماً جازماً لما فرط".
لقد قدم جلالة الملك طلال بن عبد الله لأبناء شعبه أسباب الطموح نحو أهداف سامية كالانفتاح على التطور والتقدم وفي صباح 19 أيار غادر جلالة الملك طلال العاصمة الأردنية في رحلة إلى فرنسا ترافقه صاحبة الجلالة الملكة زين المعظمة ونجلاه صاحبا السمو الأميران محمد وحسن والأميرة بسمة وطبيبه الخاص وبعض رجال الحاشية.
وقد تحدث تيسير ظبيان في كتابه (الملك طلال) قائلا: "بعد أن أمضى جلالته وأسرته الكريمة عشرين يوماً في فرنسا توجه إلى سويسرا لاستكمال وسائل المعالجة والتداوي وقد تألفت في غضون ذلك هيئة نيابية من السادة إبراهيم هاشم رئيس مجلس الأعيان وسليمان طوقان وعبد الرحمن الرشيدات عضوي المجلس لتمارس صلاحيات جلالته فعقد مجلس الأمة اجتماع طارئ في جلسة مشتركة سرية صباح يوم 11 آب 1952 وفي هذه الجلسة استمع الأعيان والنواب إلى بيانات رئيس الحكومة الذي قال بأنه ثبت للحكومة أنه يتعذر على جلالة الملك طلال القيام بأعباء الحكم بسبب مرضه ، فتلقى المجلس هذا النبأ الأليم ببالغ الأسى وقرر انتخاب لجنة من ثلاثة أعيان وستة نواب لدراسة الموضوع وتقديم التواصي ، وقد تألفت اللجنة من السادة محمد أمين الشنقيطي ، عبد الله الكليب ، سعيد علاء الدين ، هزاع المجالي ، أنور الخطيب ، فلاح مدادحة ، وصفي ميرزا محمد علي بدير وحكمت المصري. وعقد مجلس الأمة جلسة ثانية اتخذ بالإجماع قراراً بالمناداة بالأمير حسين ملكاً دستورياً على المملكة الأردنية الهاشمية. وفي اليوم نفسه اتخذ مجلس الوزراء قراراً بتعيين مجلس وصاية كون الملك الحسين لم يبلغ سن الرشد الدستوري وتألف مجلس الوصاية من السادة إبراهيم هاشم وسليمان طوقان وعبد الرحمن ارشيدات.
عاد جلالة الملك حسين من بريطانيا في أوائل شهر نيسان 1953 إلى أرض الوطن فاستقبله شعبه استقبالاً منقطع النظير فعبَّروا عن مدى حبهم وولائهم للملك الشاب وفي اليوم الثاني من شهر أيار م1953 تسلم الملك الحسين سلطاته الدستورية وبذلك دخل الأردن مرحلة جديدة للازدهار السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي والاجتماعي. وفي يوم السبت الموافق 8 تموز سنة م1972 نعى الديوان الملكي الهاشمي في عمان جلالة الملك طلال بن عبد الله.
وهكذا فقد رحل جلالته بعد أن أثبت للتاريخ قدرات وانجازات في فترة حكمه القصيرة وترك فيها بصمات واضحة في تاريخ الدولة الأردنية ليقف الأردنيين أمامها وقفة إجلال وإكبار لملك عظيم حكم لفترة قصيرة ولكنها انتقالية ، وقد ترك أبطالاً أثبتوا جدارتهم وأنهم على قدر المسؤولية التي حملوها ، رحل المغفور له بإذن الله تعالى الملك طلال بعد حياة كرسها لنهضة هذا البلد وتطوره.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|