‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1939. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1939. إظهار كافة الرسائل

عبد الرؤوف سالم الروابدة ... الحكيم

|0 التعليقات
عبد الرؤوف الروابدة


ان الحديث عن عبد الرؤوف الروابدة هو حديث عن أحد رجالات الرعيل الأول الذين تبوأوا مسؤوليات كبيرة في الدولة الأردنية ، وكرس حياته جندياً مخلصاً شجاعاً مدافعاً عن ثرى الأردن. فهو علم من أعلام الأردن إستطاع نقش أسمه بحروف من نور في تاريخنا المعاصر عبر مسيرته الحافلة بالشجاعة والكرامة والإنتماء والتضحيات. إنه الرجل القائد الذي يصعب أن تؤرخ سيرته ومسيرة حياته ، إنه الرجل الزعيم ببساطة خصاله وسمو أفعاله فالقيادة والزعامة عندما تجتمعان في رجل فإنما تصنعان منه رجلاً كبيراً فيه من شمولية المناقب والصفات ، ما يحتل مساحة أوسع من أن تفيها حقها الأحاديث. فالحديث عن أبي عصام هو السهل الممتنع فمن السهل الحديث عن شخصيته النقية والقوية وعن نظافة مسلكه وخلقة ، وأصبح مشهوداً له بذلك. ولكنه كان الممتنع في الحديث عن نفسه أو الترويح لها أو السماح بالمس بكرامته أو كرامات الناس مهما اختلف معهم ، فهو أحد الرجالات الذين بنوا الأردن وشيدوه وعمروه وحرسوه بدمائهم وترفعهم وسموهم وتساميهم. إنه السياسي البارع الذي أدار ظهره للصيدلة لينخرط في العمل السياسي حاملاً ذاكرة المكان الوطنية بكل جوانبها مجسداً رؤى وتطلعات الهاشميين. تميز بقدرته على القراءة الاستباقية للمواقف والقضايا ووضع الحلول الإبداعية للمواقف وتدارك الأزمات ، أطلق عليه جلالة المغفور له الملك الحسين لقب البلدوزر فكان أغلى الأوسمة التي حصل عليها في حياته إنه عبد الرؤوف سالم الروابدة من مواليد قرية الصريح ـ اربد عام 1939 نشأ في أسرة ريفية بسيطة تعمل في الزراعة غير أن والده كان له بعض الاهتمامات بالتجارة على مستوى القرية. بعد أن أتم السيد عبد الرؤوف الروابدة حفظه لكتاب الله التحق بمدرسة الحصن ليبدأ دراسته الابتدائية عام (1946) وذلك لعدم وجود مدرسة في قرية الصريح آنذاك حيث درس فيها (9) سنوات ليعود عام 1954 ليلتحق مع زملائه في الصف التاسع ثم انتقل إلى ثانوية اربد ليدرس فيها الصفين العاشر والحادي عشر ومن الجدير بالذكر أن الروابدة كان من أوائل المترك الأردني حيث تم إرساله في بعثه دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ليختص بدراسة علوم الصيدلة على الرغم من أنه كان يطمح بأن يكون استناداً للغة العربية أو القانون ولكن كان قرار وزارة التربية والتعليم حينها بإرسال الأول قي بعثه دراسية حسب ما تراه الوزارة ضرورياً. لذلك درس السيد الروابدة الصيدلة ليتخرج من الجامعة عام 1962 بتقدير ممتاز بعد ذلك تم تعيينه في وزارة الصحة كمفتش للصيدليات. وكان يطلق على هذا المنصب في ذلك الوقت (صيدل الحكومة) فكان من مهامه الإشراف على استيراد الأدوية وتداولها والإشراف على فتح الصيدليات ، ولعدم وجود كيميائيين في الوزارات الأخرى كان يتولى الإشراف على استيراد كل مادة كيماوية فلا يمكن تمريرها عن طريق الجمارك إلا بتوقيع صيدل الحكومة. وبتاريخ 19 ـ 6 ـ 1964 أصبح رئيساً لقسم الصيدلة بوزارة الصحة وقد كان من أصغر الأردنيين في تاريخ الأردن الذين يصبحون رؤساء أقسام ، بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام عمًد الروابدة إلى إنشاء مديرية الصيدلة واللوازم وقد أصبح مديراً لها وبقي فيها تسعة أعوام ليأتي مديراً لدائرة التخطيط والعلاقات الخارجية بوزارة الصحة ، بعد ذلك أنشئت جامعة اليرموك فتم إعارته للعمل فيها بمنصب الأمين العام أي مدير عام الإدارة والخدمات.

وعندما شكل مضر بدران حكومته الأولى جاء عبد الرؤوف الروابده وزيراً للمواصلات وذلك عام 1976 وفي العام الذي يليه وبعد استشهاد الدكتور محمد البشير أحيلت للسيد الروابدة حقيبة وزارة الصحة إلى جانب وزارة المواصلات وبعد إجراء التعديل الوزاري أصبح الروابده وزيراً للصحة إلى أن استقالت الحكومة في 19 ـ 12 ـ ,1979

أصبح عبد الرؤوف الروابده عضواً في المجلس الوطني الاستشاري الأول والثاني والثالث إذ أن احتلال الضفة الغربية حال دون إجراء انتخابات نيابية في الأردن ولكن الأردنيين كانوا بحاجة إلى إحياء الحياة الديمقراطية في ضوء تعذر إجراء الانتخابات النيابية فألف جلالة المغفور له الملك الحسين ما يسمى بالمجلس الوطني الاستشاري الذي استمر ستة سنوات بمعدل ثلاث دورات وكل دورة مدتها سنتان عمل السيد عبد الرؤوف الروابده فيه بمعدل دورتين ونصف ، لأنه وفي نهاية هذه الفترة تم تعيينه أميناً للعاصمة عام 1983 فاضطر حينها لترك المجلس الوطني الاستشاري. وفي أمانة العاصمة قدم الكثير من الانجازات فعمل على إصلاح الشوارع وتطوير المباني وزراعة الأشجار وإنشاء الحدائق العامة وإنشاء المكتبات وصالات الاجتماعات وتطوير البنية التحتية وغيرها الكثير من الإنجازات.

وفي عام 1987 كان الراوبدة أول شخص يتولى منصب أمين عمان الكبرى قبل ذلك أدخلته الحكومة على القطاع الخاص فكان رئيساً لمجس إدارة شركة الفوسفات ولأنها المساهم الرئيسي في شركة الأسمدة أصبح نائب رئيس مجلس إدارة شركة الأسمدة أيضاً.

وقد تحدث الروابده عن شخصية الملك الباني جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه فقال: "لا يستطيع أي إنسان أن يكون مثل الملك الحسين بن طلال فهو شخصية فذَّه وبالرغم من إيماننا بالقضاء والقدر إلا أننا تصورنا أننا سوف نموت قبله نظراً لشخصيته القيادية لذلك كانت فجيعتنا كبيرة بوفاته وفي الوقت نفسه اطمأنَّا عندما تسلم جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية. وقد كان الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه داعماً لجهودنا في أمانة عمان وأنا أذكر أن أفضل وسام حصلت عليه في حياتي عندما قال لي جلالة الملك في أحد الاجتماعات العامة "أنت بنيت لي عاصمة افتخر بها أمام رؤساء الدول الذين يزورون الأردن" فهو القائد الذي يقدر عمل مرؤوسيه وعندما استقلت كان من كرمه أن جاء جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه إلى مكتب أمين العاصمة ، أمين عمان الكبرى ليقول لي جلالة المغفور له الملك الحسين لمن تركت الأمانة؟ فكان جوابي أني أعطيت قمة ما عندي للأمانة ، والديمقراطية عادت فأتًح لي المجال أن أترشح للانتخابات النيابية ، هذه العلاقة المميزة بين القائد وجنوده ولذلك فلم أسمع من الملك الحسين طيب الله ثراه نقداً واحداً فشخصيته شمولية فإن تكلمت عن الإبداع ستجده عنده وإن تكلمت عن المستقبلية فهي موجودة عنده. وفي عهد جلالة الملك عبد الله الثاني أكرمني جلالته بأن أكون أول رئيس وزراء في عهده".

وخلال مسيرة حياة دولة السيد عبد الرؤوف الروابده نلاحظ قدرته على فتح قنوات الاتصال الشعبي وجهده المتواصل نحو تحسين مستوى الرعاية الصحية والعمل على توسيع مظلة التأمين الصحي وتحسين الطرق الزراعية وبناء شبكة طرق رئيسية في المملكة.

وفي 8 ـ 6 ـ م1994 استلم الروابده حقيبة وزارة التربية والتعليم فعمل على تحسين رواتب العاملين وتعديل النظام المالي للمعلمين بالإضافة إلى منصب وزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء ، وفي العام الذي يليه أصبح نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للتربية والتعليم.

دافع الروابده عن حقوق المواطنين وكان مصراً على إعادة الحقوق لأصحابها ورأى أنه لابد من إيصال صوت المواطن للمسؤول فشارك في عضوية مجلس النواب منذ عام 1989 إلى الآن بالإضافة إلى عضوية مجلس الأعيان الأردني التاسع عشر.

للروابده العديد من المؤلفات منها الوجيز في علم الدواء وعلم الصيدلة لمساعدي الصيادلة ، علم الجراثيم لمساعدي الصيادلة ، علم الفيزيولوجي لمساعدي الصيادلة ، الانتخابات النيابية بين النظرية والتطبيق والتربية والمستقبل. وقد حصل دولة السيد عبد الرؤوف الروابده على العديد من الأوسمة خلال مسيرة عمله الحافلة بالنجاح والتقدم ومن هذه الأوسمة وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى ، ووسام الشرف بمرتبة ضابط أكبر من الجمهورية الإيطالية عام 1983 ، ووسام الاستحقاق من جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1984 ، ووسام الشرف الفضي الأكبر من جمهورية النمسا عام م1987 ، ووسام التربية الممتاز عام 1997 ، ووسام النهضة الأردني من الدرجة الأولى 1999 ، ووسام إيزابيلا كوتوليكا بدرجة الصليب العظيم من المملكة الأسبانية عام 1999 ، ووسام التفوق الملكي النرويجي من الدرجة الأولى عام م2000 ، ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي من الدرجة الأولى عام 2000م.

ويُسجل الروابده بأنه رجل الدولة المخلص في ولائه للقيادة الهاشمية من خلال تكريس جهده وولائه وانتمائه وأدائه المتواصل لخدمة الوطن وتحقيق التقدم والنهضة فالحديث عن شخصية عبد الرؤوف الروابده تعتبر حديث عن شخصية وطنية فذة تركت بصمات واضحة في الذاكرة الوطنية الأردنية حيث حقق نجاحات كبيرة في مراكز قيادية تولاها في مجالات السلطة الثقافية والسياسية والاجتماعية والتربوية والصحية والخدمية فهو يشكل مفصلاً مهماً في تاريخ الدولة الأردنية. تعمد إلى ترك أعلى المناصب الرسمية ليعود إلى قبة البرلمان فمن هناك يستطيع خدمة الوطن والناس ممارساً دوره الرقابي والتشريعي.

وتحدث عبد الرؤوف الروابده واصفاً جلالة الملك المعزز عبد الله الثاني بن الحسين بعد مرور عشر سنوات على توليه سلطاته الدستورية قائلاً: يُعدّ جلالة الملك عبد الله الثاني قائداً جديد يَخْلًف رمزاً عربياً وعالمياً تعلقت به القلوب وهو يبني الأردن واحة أمن واستقرار ، صارع أمواج الخطوب المدلهمة فصرعها وخرج الأردن منها جميعاً أقوى من حين أحاطت به وتسلم الراية خليفة شاب أحاطته القلوب بالحب متوسمة فيه الخير متوقعة منه قيادة السفينة بنجاح في بحار متلاطمة. استقر الحكم الدستوري في لحظات ، ونهد أبو الحسين للمهمة العسيرة فالتوقعات كثيرة والآمال كبيرة والأعباء عديدة فأعلن أنه على الثوابت الوطنية أمين ، يحمل الرسالة كابرا عن كابر لا تلين له قناة مهما أدلهمت الخطوب.

فاخترق المحافل الدولية تسبقه جهود أبي عبد الله فعززها واثبت أن القيادة على العهد باقية ، وأضاف إليها قدرة فائقة متميزة على مخاطبة الآخرين بلغة يفهمونها واهتمامات يرعونها ، وكان ديدنه الحديث الواثق الواعي عن فلسطين وقضيتها ، قضيتنا ، والأخطار التي تهدد المنطقة والعالم بسبب الظلم الذي وقع ويقع كل يوم على أهلها ، يهدر حقوقهم الإنسانية ويعزز فكر التطرف في كل مكان ، واستطاع بجهد جهيد ، عززه تفويض العرب له النطق باسمهم وفق مبادرتهم ، فاقتنع العالم أن لا حل للقضية إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة تتمتع بسيادتها العامة على شعبها وأرضها في فلسطين وعاصمتها القدس ، وإعطاء الفلسطينيين حقهم في العودة وفق قرارات الأمم المتحدة.

وتساوق مع هذا الجهد العربي والدولي ، جهد داخلي امتد لجميع المجالات وكل المواقع ، وفق رؤية مستقبلية شمولية ، غايتها الإنسان الأردني ، ثروتنا الطبيعية التي لا تعدلها ثروة ، والاستثمار في خدمة الإنسان الأردني واستشراف حاجاته وتطلعاته ، لقد تم التوسع في الخدمات أفقيا وعموديا بتسارع فاق التوقعات ، وكان للتوجيه في هذا الاتجاه يسبق الحكومات ويسابق الزمن للوصول إلى الخدمة المثلى بأيسر الطرق وأسهلها ، حتى ظن الناس أن الأردن دولة رفاه فازداد الطلب وتنامي التوقع وتزايد الإنجاز وتسارع.

وكان الاهتمام في أقصى مجالات ببناء ثقافة وطنية تعزز الانتماء للوطن والإخلاص للعمل والتقييم بالإنجازات والإبداع فيه. فالوطن لا يبنى إلا بجهد أبنائه ولا يتم البناء إلا بالاجتهاد لحصد نتيجة العزم"فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم" فمن زرع حصد ومن سار على الطريق وصل ، والانتماء الوطني حالة ضميرية يصدقها العمل الجاد لخير الوطن الذي يجب أن يبقى الاهتمام بشؤونه وقضاياه في مقدمة الاهتمامات عند الجميع "فالوطن أولاً" وفي كل المجالات ، وأهله كل واحد لجميع أبنائه مهما اختلفوا في العرق أو الدين أو الجنس أو الثقافة أو الأصل ، وهم جميعاً لسانهم واحد"كلنا الأردن" هويتنا فيه واحدة جامعة لا تقبل الإقصاء ، ووحدتنا الوطنية عزيزة على الاختراق من كل الطامعين أو المزاودين. هذا الوطن واحد مملوك على الشيوع غير قابل للقسمة ، الكل فيه شريك وله دور ، نساؤه كما رجاله عناصر البناء الواحد الذي لا يطغى فيه دور على دور وتمكين المرأة حق للوصول إلى المجتمع المتكامل ، والشباب عدة المستقبل عناصر التغيير ، لهم دورهم وحقهم في التعبير عن تطلعاتهم وطموحاتهم وتحمل المسؤولية بالتدريب عليها وممارستها.

عشر من السنين غيرت المعالم إلى الأفضل عززت البناء وأضافت له مداميك عديدة ، والورشة مستمرة لا تقبل البطء أو التوكل ، وعناية القائد لا تقبل التواني أو التأجيل ، شعارنا كان يجب أن ينجز بالأمس وليس في الغد ، وهو يطلب منا جميعاً أن نغذ الخطى نحو المستقبل ولا ننتظره ، وأن نفتح آفاق الرؤية على القادم وهو كثير متسارع ، نستقبله ونطوره وفق رؤانا وحاجاتنا دون انغلاق يفقدنا المشاركة في عناصر التقدم والنماء ودون إغراق يخرجنا عن قيمنا الثابتة وموروثنا الحضاري.

عشر سنوات شهدنا فيها الكثير ، ودعاؤنا للمولى أن يحفظ القائد بعين رعايته التي لا تنام حتى يقود المسيرة من نجاح إلى نجاح ، وأن يمد في عمره ويمتعه بوافر الصحة واطراد النجاح وأن يقر عينه بعضده الحسين والهاشميين والشرفاء أنه سميع مجيب".

أما عن أمنية أبي عصام في حياته فتحدث قائلاً: أنا أتمنى لعصام أن يعيش عمره وحياته وأن يستفيد من تجاربي لأنهم خلقوا لزمان غير زماننا لذلك أنا أتمنى عليه أن يحذو حذوي ويستمر باتصاله بالناس ويعتمد على الإنجاز والخبرة العامة وأن يتجاوز إساءة من يسيء له وأتمنى لوطني الأردن أن يبقى كما هو وأن يفتخر كل مواطن بانتمائه لوطنه وأملي أن يبقى جلاله الملك عبد الله الثاني على عهده القائد والرمز الذي يزود الأردنيين وأمته العربية بمعاني العز والمجد.

المفتي والعالم نوح القضاة

|1 التعليقات
الشيخ نوح القضاة
حين يحار المرء ماذا يكتب أو من أين يبدأ عند الحديث عن شخصية عالم جليل وظاهرة فريدة من نوعها بين العلماء في الأردن والعالمين العربي والإسلامي يوقن السامع أننا بصدد الحديث عن شخصية المرحوم الشيخ الدكتور نوح علي سلمان القضاة ، فهو بحق ظاهرة تستحق التعميم. حيث حياته كانت مليئة بالنضال والتضحية وسيرته كلها شرف وإباء وتقى ، ما توانى عن خدمة دينه وأمته لحظة واحدة ولم يتخاذل في المواقف العصيبة والمصيرية. ولا بد من التأكيد على أن سماحة الشيخ نوح القضاة ذكراه حيّة وخالدة ، فهو لم ولن يصبح غائباً بل سيظل علماً مرفوعاً فوق سارية الإحسان والعطاء فأعماله وفتاويه ومواقفه ستبقى ماثلة أمامنا ونسال الله له حُسن الجزاء فللعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام.

ولد سماحة الشيخ الدكتور نوح علي سلمان القضاة رحمه الله ، في بلدة عين جنة في محافظة عجلون عام م1939 ، نشأ في بيت علم وتقى وورع لأسرة علمية معروفة بالعلم والفضل حيث كان والده الشيخ علي سلمان رحمه الله فقيهاً شافعياً ، أجازه في علومه ومعارفه كبار علماء الشام في طليعتهم الشيخ علي الدقر ، وقد علّم أبناءه الأربعة العلوم الشرعية والعربية قبل أن يبعث بهم إلى الشام لتلقي العلوم الشرعية على أيدي علمائها.

درس الشيخ نوح المرحلة الابتدائية في الأردن ثم سافر إلى دمشق عام م1954 وقضى هناك سبع سنوات في معهد العلوم الشرعية ، التابع للجمعية الغراء التي أسسها شيخ والده ، الشيخ علي الدقر رحمه الله حيث أكمل فيها الدراسة الإسلامية من المرحلة الإعدادية حتى نهاية المرحلة الثانوية ، وتخرج منها عام م1961 ، وبعد إتمام دراسته الثانوية في المدرسة الغراء التحق بكلية الشريعة في جامعة دمشق ومكث فيها أربع سنوات 1961( - 1965م) وحصل فيها على الشهادة الجامعية في الشريعة.

وفي عام م1977 سافر إلى القاهرة للحصول على درجة الماجستير في الفقه المقارن ، حيث درس أصول الفقه على يد العلامة الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الخالق ، والفقه المقارن على يد الشيخ حسن الشاذلي ، واستمع إلى محاضرات في التصوف لشيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله ، وحصل على درجة الماجستير من جامعة الأزهر ، وقدم رسالة في جامعة الأزهر بعنوان "قضاء العبادات والنيابة فيها" بإشراف الدكتور محمد الأنبابي وذلك عام م1980 كما حصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام م1986 ، وقدم رسالته بعنوان "إبراء الذمة من حقوق العباد" وكان المشرف على رسالته الشيخ صالح العلي الناصر رحمه الله ، ثم الشيخ الدكتور صالح الأطرم.

عمل في سلك القوات المسلحة برتبة ملازم أول ، (مرشد ديني) وعمل بجانب الشيخ عبد الله العزب الذي خلفه في منصب الإفتاء في عام م1972 وبقي في منصبه متدرجاً في الرتب العسكرية ، حتى عام م1992 ، حيث أنهى خدماته برتبة لواء وفي عام م1992 ، عُين قاضياً للقضاة في الأردن ، ثم استقال بعد عام واحد ، فتفرغ للتدريس في حلقات علمية في مسجده وعمل أستاذاً جامعياً في الشريعة الإسلامية في جامعتين اليرموك وجرش ثم وفي عام م1996 عُين سفيراً للمملكة الأردنية الهاشمية لدى إيران حتى عام م2001 ثم عَمًلَ مديراً لإدارة الفتوى في دولة الإمارات العربية المتحدة وقد ذكره العلماء هناك بكل خير حتى أن كل وسائل الإعلام وخطباء المساجد والعلماء يرجعون إلى فتواه الشهيرة بان السائق الذي يقود مركبته فوق الحد المسموح به ويلقى مصرعه يعتبر في عداد المنتحرين ، كما عَمًلَ مستشاراً لوزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية ومستشاراً لوزير التعليم العالي حتى عام م2007 ثم صدرت الإرادة الملكية السامية بتعيينه مفتياً عاماً للمملكة الأردنية الهاشمية ، وبقي في منصبه حتى قدّم استقالته في شهر شباط عام 2010م. لقد قام سماحة الشيخ الدكتور نوح القضاة ، ومنذ تعيينه مفتياً في القوات المسلحة عام م1972 بإصدار آلاف من الفتاوى لأسئلة تهتم بكل جوانب الحياة وقد تم نشرها في المجلة الإسلامية للقوات المسلحة بعنوان (التذكرة) بالإضافة إلى محاضرات ومؤلفات ومقالات حول موضوعات متنوعة وفي شتى مجالات الحياة ، وقد سعى جاهداً ليترك بصمة واضحة تميز بها الجيش الأردني ، حيث سعى لإيجاد إمام في كل وحدة عسكرية ليؤم أفراد وحدته العسكرية ويلقي دروساً دينية وكان يرتب لهذا الإمام برامج ودورات إسلامية إضافية في الفقه الشافعي وتفسير القران والحديث والعقيدة ، كما أسس في الجيش كلية الأمير الحسن للدراسات الإسلامية حيث يقوم خريجوها بالتوجيه الديني في الجيش وبرتبة عسكرية تبدأ من رتبة ملازم.

لقد كان الشيخ الجليل نوح القضاة شخصية فريدة ليس لها مثيل وكذلك فان رحيله لم يكن رحيلاً عادياً فهو القريب إلى قلوب كل المسلمين الواعظ الراشد الرصين الطيب الحكيم الزاهد المداوم على عبادة ربه الورع التقي طاهر القلب والسريرة المحب لكل طالب علم ، والباقي من السلف الصالح ، كان على الإطلاق انجح الوعاظ والدعاة ، الجامع للصفوف والرافع للهمم أحب أن يرى جباه المسلمين عالية شامخة ولكنه غادر في وقت قد نكون أحوج إليه أكثر من أي وقت مضى. فكيف يمكن لمن كان الأقرب للناس ومشاركهم أفراحهم وأتراحهم أن يسلوه فأفعاله وصدقاته التي قدمها في حياته والتي انتفع بها عدد كبير من الناس ستبقى شاهد عيان على إنسانيته وورعه ، وهذا الكم الهائل من المتعلمين والمثقفين الذين اخذ بيدهم ليبين لهم طريق الحق من الباطل سيبقون الذاكرين والمترحمين على روحه الطاهرة ، ما راح الشيخ نوح وقد ترك لنا درةً من أبنائه الذين يسيرون على نهج والدهم فهم ورَثة والدهم في الأخلاق والإحسان ، ما راح نوح القضاة وقد شارك في تشجيع جنازته ألوف مؤلفة من الناس المحبين والبارين له والذاكرين له على الدوام.

لم يكن الشيخ نوح داعية وعلاّمة ورجل دين وواعظ وسياسي محنك فحسب بل كان قارئاً لمستقبل هذه الأمة الإسلامية وفق شريعة الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومن يسير على نهج سماحة نوح القضاة فانه لم ولن يضل طريقه في حياته الدنيا ، وقد عُرف سماحة الشيخ نوح القضاة ، بغيرته على مستقبل العالم الإسلامي حيث كان يتألم لما يعاني منه هذا العالم من صعوبات ومعوقات وخاصة في الإطار الذاتي.

لقد عرفت الفقيد الكبير سماحة الشيخ نوح سلمان القضاة لأول مرة عند استضافتي له في برنامج يبث عبر أثير الإذاعة الأردنية الغراء قبل عامين وفي حقيقة الأمر كنت قد سمعت عنه الشيء الكثير فرسمت له صورة في مخيلتي كونه عالماً معروفاً ولكن اتضح لي بأن الصورة التي رسمتها له كانت جزءاً من شيئاً كبيراً يحار المرء في إدراك أبعاد شخصيته فهو عالماً جليلاً وفقيهاً مستنيراً ، متواضعاً وزاهداً يتطلع إلى مرضاة الله عز وجل ، وأنا هنا وفي هذا المقام أقول بأن نوح القضاة كان بحق رجل تنحني الرؤوس لمثله احتراماً وتقديراً كيف لا فهو المعلم والمربي والداعية والمجاهد لا يخشى في الله لومة لائم ، ضرب أروع الأمثلة في الذود عن حياض الإسلام والمسلمين.

كان نعي وفاته بمثابة زلزال هزّ كيان جميع المسلمين في هذه الأمة العظيمة فكتب فيه أعمدة الرأي والثقافة فذكروا مناقبه الحميدة وترحموا على روحه الطاهرة فقد كتب فيه الأستاذ محمد حسن التل قائلاً: إن رحيل الشيخ نوح شكَّل خسارة كبيرة ليس على مستوى الوطن فقط ، بل على مستوى الأمة وترك رحيله في القلب غصة عميقة ، ولكنه الموت قانون الله تعالى فرضه على عباده جميعاً والذي لم يستثن منه حتى نبيه وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي نقف أمامه راضين محتسبين (إنك ميت وإنهم ميتون).

أما رئيس مجلس الشورى لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور عبد اللطيف عربيات قال فيه: إن سماحة المرحوم الشيخ نوح سلمان ليس بحاجة إلى تعريف لأنه العالم والعامل الصادق فيما يفعل ويقول ، وهو الذي شغل أكثر من موقع وعرفناه بتقواه وصدقه وأمانته ومن شاهد جنازته لاحظ كم يحبه ويحترمه أبناء شعبه ويقدرون العلماء الصادقين المنتمين لدينهم وأمتهم.

من جانبه أشار رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية الدكتور عبد الناصر أبو البصل إلى أن الأمة الإسلامية فقدت عالماً من كبار علماء العالم الإسلامي والدعاة الكبار أصحاب البصمات الواضحة وكان له برنامج يشكل مدرسة خاصة أنشأها في الأردن ضمن مدرسة الوسطية والاعتدال وضمن أسس ثابتة فيها المرونة والسعي وجمع كلمة العالم الإسلامي.

بدوره أكد الدكتور محمد خازر المجالي أن الشيخ نوح يعتبر مدرسة وليس مجرد عالًم من علماء الأمة فهو مدرسة حقيقية في العلم والأدب والأخلاق والتواضع والزهد وقد ترك بصمات كبيرة في كافة المواقع سواء في القوات المسلحة أو القضاء أو السلك الدبلوماسي سائلاً الله القدير أن يعوض الأردن والأمة الإسلامية خيراً لأن الشيخ نوح القضاة يعتبر أحد القدوات النادرة في هذا الزمن فقد كان مثال العالًم العامل رحمه الله.

وتحدث سعادة النائب الأسبق الشيخ عبد المنعم أبو زنط فقال: برحيل صاحب السيرة العطرة الشيخ القضاة لم يخسر أردن الحشد والرباط هذا العالم الجليل فحسب بل خسره المسلمون عالمياً حيث عُرف بغزارة عمله وسمو أخلاقه.

انتقل الشيخ نوح القضاة إلى جوار ربه راضياً مرضياً في 19 كانون الأول لعام م2010 تاركاً إرثاً لا يستهان به من الكتب والمؤلفات لكل المسلمين مهما اختلفت أوطانهم ومنابتهم.

فمن ابرز مؤلفاته: قضاء العبادات والنيابة فيها ، إبراء الذمة من حقوق العباد ، محاضرات في الثقافة الإسلامية ، المختصر المفيد في شرح جوهر التوحيد ، شرح المناهج في الفقه الشافعي كيف تخاطب الناس ، لم تغب شمسنا بعد ، صفات المجاهدين ، مولد الهادي صلى الله عليه وسلم.

كان سماحة الشيخ نوح سلمان القضاة يحمل صفات الرجل المسؤول أمام الله وأمام الناس فيما سُئل عنه ولديه أخلاقاً وصفات يجدر بكل مسؤول في بلدنا العزيز التحلي بها اذكر منها انه وفي عهد نوح القضاة أعادت دائرة الإفتاء عام م2009 ما يقدر بنصف مليون دينار إلى خزينة الدولة وهذا المبلغ كان فائضاً من ميزانيتها ، وعندما كان يقوم سماحته بزيارة دور الأيتام كان يأخذ قارورة الماء الخاصة به حتى لا يشرب من المياه التي هي حق للأيتام وعند قيامه بإعداد المقالات الإسلامية الخاصة به والتي تهدف إلى إصلاح الناس فانه يحضر الأقلام والأوراق معه من منزله حتى لا يستخدم شيء من أملاك الدولة لمصالحة الشخصية مهما كانت بسيطة الثمن ، وله العديد من المواقف والتي يجب علينا أن نقتدي به فيها وان تسير على نهجه.

وأخيرا ستبقى لنا يا شيخنا الجليل نبراساً تضيء لنا معالم الطريق لنهتدي بهديك فأنت المعلم والمربي والداعية ، رحمك الله وأسكنك مع الشهداء والصديقين ومع من أحببت وحسن أولئك رفيقا ، وإنا على فراقك لمحزنون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ونعزي أنفسنا وآلك الكرام بقول رسول الله (ص) إن لله ما أعطى ولله ما اخذ فاصبروا واحتسبوا... فان لكل اجل كتاباً وأنا لله وأنا إليه راجعون ، لك تحايا كل من عرفك وكل من سمع بك فهم في الدار الدنيا وأنت في الدار الآخرة.