إن الحركة الفنية الأردنية في مجملها، تستند بما وصلت إليه من مكانة وإنجازات واضحة، إلى جيل من الرواد الكبار، الذين ظهروا في زمن صعب، ونبتوا في الأرض البور معتمدين على مواهبهم وطاقاتهم الذاتية، محولين الصعب وشبه المستحيل إلى حالة إبداعية مؤثرة، رغم قلة الإمكانيات ورفض المجتمع حينها لبعضهم، وغياب الإعلام القادر على حمل هذه المواهب وإيصالها بالشكل المستحق، لذا عاش وأبدع كثير منهم في الظل، أو كان حضوره وانتشاره ليس بالحجم الذي يتلاءم مع منجزه وريادته ومكانته التي حققها بالتعب وبالاعتماد على النفس، غير أنه لولا هؤلاء الرواد الذين غلف الصمت سنوات طويلة من عملهم المضني، لما وجدنا أساساً متيناً تنهض عليه الحركة الموسيقية.
يعد الموسيقي عازف العود الفرد برهم سماوي، رائداً بحق في مجال العزف والغناء والتدريب من خلال أنشطته المختلفة، وفرقته التي أسسها والتابعة لنادي التمثيل والغناء، وقد ترك سماوي أثره الفني على أكثر من جيل من الموسيقيين والمغنيين، يكفي أن نذكر أنه من علم الفنان الأردني الكبير توفيق النمري العزف على آلة العود. فقد اعتمد على نفسه، وتعلم على نفسه من خلال قدرته الفذة في الحفظ وموهبته الفنية الأصيلة، مما جعله في مقدمة ذاك الجيل الأول الذي غاب عن الذاكرة لفترة طويلة، وعلى المؤسسات المعنية كتابة تاريخ الفن الأردني الحديث، على أسس علمية ومناهج سليمة، فشخص ومنجز الفرد سماوي مجهول اليوم حتى عند بعض المختصين والمهتمين، مع أن منجزه ومن جايله من الفنانين يستحق الوقوف والتدوين، ولعل ما قام به الباحث أنس ملكاوي في كتابه وفيما نشره في مجلة فنون تحت عنوان « تاريخ دخول آلة العود إلى الأردن وأشهر عازفيها « يعد مرجعاً لا بأس به في هذا السياق.
كانت ولادة العازف الفرد برهم سماوي في العقد الثاني من القرن العشرين، تحديداً في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني عام 1913، حيث شكلت مدينة اربد مسقط رأسه، فقد أقامت فيها عائلته القادمة من بلدة الفحيص في البلقاء، ولم تكن نشأته في هذه البلدة الكبيرة التي سرعان ما تحولت إلى مدينة ناشطة، يختلف عن أبناء تلك الفترة، التي عانى فيها الناس من الفقر وغياب الاهتمام والتنمية، ولم تكن المدارس متاحة للجميع، بسبب ندرتها، وبعدها عن كثير من مواقع إقامة الطلبة، وبالرغم من ذلك حظي الفرد بفرصة الالتحاق بالمدرسة، وقاوم ظروفاً معيشية متعددة وواصل دراسته، حتى وصل إلى الصف العاشر في مدرسة ثانوية اربد، ولم يتمكن من إكمال دراسته بعد ذلك، فقد كان عليه الانخراط في سوق العمل، من أجل تحقيق دخل يساعد في تحمل أعباء الحياة.
استهل الفرد سماوي حياته العملية بالانضمام إلى مكتب المحاماة الذي أنشأه والده برهم سماوي، حيث كان والده يعمل محامياً في اربد، وبدأ يساعد والده في إنجاز بعض الأمور الإدارية الخاصة بالمكتب، بقصد اكتساب خبرات عملية، ومساعدة والده في شؤون العمل داخل مكتب المحاماة، وكان والد الفرد سماوي محباً للفن خاصة الموسيقى، فقد كان عازفاً بارعاً على آلة الأكورديون، وكان الفرد يستمع لعزف والده في البيت وفي حفلات الفرح والطرب، فتشبع بالحس الجمالي الصحيح منذ صغره، وعشق الموسيقى وتولع بها، لدرجة أنه كان يحفظ الألحان التي يعزفها والده وغيره غيباً، ولم يكن والده يشجعه على الموسيقى لصعوبة طريقها، وللظروف الاجتماعية في تلك الفترة، غادر الفرد مكتب والده ليعمل عام 1939 موظفاً في الجيش البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث عين برتبة رئيس كتاب، وبقي خلال عمله هذا مخلصاً لفنه، معتبراً العزف على العود المتعة والسمو الذين يستحقان العناء والتضحية، فكان ينتهز الفرصة كلما أقيمت حفلة داخل العمل أو خارجه لعزف فيها فيطربون له ويثنون على عمله.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ترك الفرد سماوي عمله في الجيش البريطاني، والتحق بشركة التابلاين وكان مقر عمله في محافظة المفرق، وعين بنفس رتبته الوظيفية السابقة وهي رئيس كتاب، بعد فترة من الزمن انتقل مقر شركة التابلاين إلى مدينة بيروت عام 1952 مما منح سماوي فرصة السفر والإقامة في بيروت التي تعد من أنشط الحواضر العربية في الثقافة والفنون، وبالرغم من قصر المدة إلا أنه تعرف على عالم جديد متحرك، والتقى ببعض الفنانين اللبنانيين والعرب في بيروت، عاد بعد ثلاثة أشهر إلى الأردن، ليكمل عمله في الشركة فيما سمي بمنطقة « النقطة الرابعة « واستمر في عمله هذا حتى عام 1954، وخلال هذه الفترة غادر هذه المنطقة، بسبب انتدابه للعمل في كل من مدينتي درعا السورية وحيفا الفلسطينية، وفي عام 1954 ترك العمل في هذه الشركة، وبدأ مرحلة جديدة من العمل الحكومي.
عيّن الفرد برهم سماوي موظفاً في وزارة المالية خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1984، حيث تنقل داخل الوزارة في أكثر من موقع، وكان محبوباً ومقرباً من الجميع، لما تمتع به من صفات محببة، بالإضافة لموهبته الفنية الغنية، وقد أحيل على التقاعد علم 1984. لم ينقطع عن العمل الفني خلال وظائفه المختلفة، فبقي مخلصاً لمسيرته الفنية التي بدأها عام 1927 خلال مرافقته لوالده في الحفلات، وحفظه للألحان حيث تدريب على نفسه دون معرفة والده، إذ تمكن من شراء آلة عود وأخذ يدرب نفسه العزف عليها وهو في عمر الرابعة عشر عاماً، وقد ساعدته ملكته الفنية بعزف الألحان التي حفظها، وكانت متميزاً بعزفه متقناً لمهاراته الفنية في هذا المجال، وأخذ ينشط على الساحة الفنية والشعبية في مدينة اربد، فبدأ بالعزف في الحفلات والأفراح في اربد ومحيطها خاصة بلدة الحصن، وقد ذاع صيته وانتشرت شهرته في الشمال، وتعلق الناس بعزفه الذي يوازي كبار العازفين العرب.
من منجزات الفرد سماوي تأسيس نادٍ للتمثيل والموسيقى في محافظة اربد عام 1945، حيث عمل النادي على استيعاب المواهب في المنطقة في التمثيل والعزف والغناء، بالتالي قدم للساحة مواهب على مستوى عالٍ من الأصالة والقدرات المدربة والمصقولة، وهذا كان له أكبر الأثر في رفد الساحة الفنية المحلية بالخامات المؤهلة في هذه المجالات النادرة في تلك الفترة، كما عمل النادي ومن خلال نشاط الفرد سماوي على دعوة عدد من الفرق المحلية والعربية، من أجل إقامة حفلات فنية من بهدف تحقيق التواصل وتوفير الاحتكاك للعازفين والمغنيين الأردنيين خاصة في منطقة الشمال، ومن هذه الفرق العربية: فرقة علي لوز المصرية، وفرقة المحمصاني اللبنانية، وفرقة المغني سلامة الأغواني، وهذه الأخيرة كان سماوي يعزف معها على آلة العود بدعوة من مؤسسها الأغواني.
عمل الفرد سماوي على تشكيل فرقة عزف خاصة أطلق عليها اسم « فرقة الشموع « وهي فرقة بقيت تابعة لنادي التمثيل والموسيقى، وقد تشكلت الفرقة من عدد من العازفين منهم: الفرد سماوي على آلة العود، وفؤاد عكاوي مطرباً وعازفاً على الكمان، وجوزيف عكاوي على الكمان أيضاً، وجواد الأفريقي على آلة الناي، وكان يعود ريع حفلات هذه الفرقة لصالح النادي، كما يذكر ذلك أنس ملكاوي في مجلة فنون، وهي فرقة كان لها نشاط ملحوظ في اربد والحصن وبعض المناطق المحيطة، وأسهمت في نشر الثقافة الموسيقية وزيادة تقبل الناس لهذا النوع من الفنون وتقديرهم للعازفين والمطربين، مما أوجد حالة من الوعي المستنير، الذي أحل هذا الفن والقائمين عليه المكانة المناسبة.
سعى الفرد سماوي إلى بناء صلات مع عدد من كبار الفنانين العرب، من أمثال الفنانة فتحية أحمد، والمطربة ماري جبران، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والموسيقار فريد الأطرش وكذلك مع الفنانة فيروز والفنان وديع الصافي، وكان لهؤلاء الكبار تأثير كبير على فنه وحياته، فكانوا المدرسة التي تربى ونشأ عليها فنياً وفكرياً، وهذا ما دفعه أن يتعمق في دراسة العود والعزف عليه، حتى صار من أبرز العازفين على هذه الآلة العربية العريقة، وقد نقل هذه الخبرات لكل من دربه، ومن ضمنهم الفنان الكبير توفيق النمري، فقد عد نجاحه نجاحاً شخصياً له، فقد أحبه وتنبأ له بالنجاح والتميز، وبقي سماوي مخلصاً للفن الأصيل كالموشحات وأغاني سيد درويش والمواويل العربية، وكان يدعو دائماً للمحافظة على الفن الأصيل والاهتمام بتدريس الموسيقى على الأسس الصحيحة، ولم يتخل عن نهجه حتى وفاته يوم السادس من نيسان عام 2002 عن عمر قارب التسعين عاماً.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|