أرسلان رمضان بكج

أرسلان بكج

كان متقد الذكاء منذ صغره، صاحب إحساس رقيق، قاده إلى عوالم من الفكر والبحث والإبداع، وتمكن بفضل جهوده الاستثنائية وأفكاره الخلاقة، من ترك إرث متنوع وفريد، مبني على حب الأرض الأردنية، والولاء الحقيقي لتاريخها وعمق حضارتها، وتقديره لدور قيادتها في بنائها والذود عنها، لتكون أنموذجاً فريداً ومؤثراً في المنطقة والعالم، فكان أرسلان رمضان واحداً من الرجال الذين تركوا بصمة خاصة بهم، وأبوا أن يغادروا هذه الدنيا دون أن يكون لهم فيها ما يبقى يذكر بهم جيلاً بعد جيل، فقد قاسى في حياته ظروفاً صعبة، وعاصر خلال مسيرته العملية أحداثاً جساماً، تعرضت لها المنطقة بشكل عام والأردن بشكل خاص، وقد أسهمت هذه الأحداث والتحولات في ربطه ببلده برابط المحبة والكرامة والعشق، فأنطلق في مشروعه في الإبداع والبحث، وفي الخدمة العسكرية من إدراكه لواجباته المختلفة، وأن الرجال الكبار مناط بهم المهام العظيمة، والقدوة الحسنة التي تسهم في البناء والتربية.

يعود أرسلان رمضان بكج بنسبه إلى إحدى العشائر الشركسية الأردنية، التي قدمت إلى البلاد في أعقاب احتلال الروس لأرض أجدادهم في القفقاس الشمالية الغربية، فقد احتلت روسيا القيصرية بلاد الشركس المسلمين، في حدود عام 1846 مما اضطر الشراكسة إلى ترك بلادهم، والهجرة في الديار الإسلامية للحفاظ على دينهم، وقد وصلت عشائر منهم واستقرت في عدد من المدن الأردنية، ومن أبرزها مدينة عمّان حيث سمي حي المهاجرين العريق باسمهم، وقد انصهروا في المجتمع الأردني، حتى أصبحوا من أهم مكونات هذا المجتمع، وأحد عوامل قوته ومنعته، فتمكن أرسلان من استلهام كل هذه العوامل والأحداث، وحولها إلى عشق وانتماء عميق لأمته ووطنه وأهله.

ويعد الفنان والباحث أرسلان رمضان عمّاني بكل ما في الكلمة من معنى، فقد ولد فيها عام 1934، ونشأ في كنف والده رمضان مامقة بكج، حيث تمتع برعايته والده فهو أبنه البكر، حيث كانت تسكن العائلة في حي المهاجرين في عمان، وقد عاش أرسلان سنواته الأولى بهدوء وسهولة، لكن لم تمهله الأقدار طويلاً، فما أن بلغ السادسة من عمره، حتى فجع بموت والده، فأصبح طفلاً يتيماً فجأة، ولا شك أن هذه الحادثة قد تركت أثرها العميق في نفسه، وهو في تلك العمر الصغيرة، ولم يخفف عنه وجع الفقد، غير رعاية والدته له ولإخوته، وخلال هذه الفترة التحق بمداس عمان، من أجل تحصيل العلم والمعرفة، وكان قد تشرب تفاصيل مدينة عمان، التي أخذت بالتوسع بشكل متسارع، وهذا جعل منها مدينة حية وضاجة بالحياة، بعد أن تحولت إلى مدينة جاذبة، وواعدة بمستقبل جاء كما خطط له.

بعد دراسته الصفوف الأولى في مدارس عمان، أتيحت له الفرص للانتقال إلى مدينة نابلس، وهناك التحق بمدرسة النجاح، من أجل إكمال دراسته فيها، وقد منحته هذه التجربة فرصة الاعتماد على نفسه أكثر، والاشتباك مع محيط جديد، وأن يتعرف على أصدقاء جدد، وعندما أنهى الصف السادس الابتدائي، لم يتمكن من إكمال دراسته لعدة ظروف، مما اضطره لمغادرة المدرسة، والاستعداد لخوض غمار الحياة العملية، بكل ما تحمل من مصاعب ومعاناة، خاصة وهو يدخلها صغيراً، ولكن بفكر متقد وطموحات كبيرة، وقد تمكن من تحقيق الخطوة الأولى من أحلامه، عندما قرر الالتحاق بالجيش العربي – القوات المسلحة الأردنية – في فترة بالغة الدقة سياسياً وعسكرياً في المنطقة، فقد أنضم إلى صفوف الجيش الأردني عام 1948، والجيش يخوض معارك حامية الوطيس مع القوات الإسرائيلية، في حرب الإنقاذ في فلسطين، ويبين أن انخراطه في هذا التوقيت في القوات المسلحة، عمق الانتماء والولاء للوطن والقضايا العربية، واستعداده للتضحية بروحه من أجل ما يؤمن به، فكان له شرف خوض عدد من معارك الجيش في فلسطين، وقد أدخلته هذه الحرب وما جرته على المنطقة برمتها من ويلات، في خضم المرحلة الحارة، فاكتوى بنارها وتوجع من نواتجها، التي لم تتوقف حتى يومنا هذا.

بعد تلك المرحلة انتقل أرسلان رمضان مامقة بكج، للخدمة في صفوف الحرس الملكي الخاص، في الديوان الملكي الهاشمي العامر، وقد أهله ما تمتع به من بنية جسدية مثالية، وحسن سيرته وانضباطه، بالإضافة لذكائه وشجاعته، لأن يكون ضمن تشكيلات الحرس الملكي الخاص، وكان بفضل ذلك قريباً من جلالة المغفور له الحسين بن طلال، وكان واحداً من ضباط الحرس الخاص المميزين، فبالإضافة لحرفيته العالية كعسكري محنك، كان متواضعاً وبسيطاً ومقرباً من رفاقه من مختلف الرتب العسكرية، وله مكانة بين أصدقائه وكل من عرفه، لصدقه وآمنته، ومحبته للحياة والفرح، وهو المعروف بجديته وبحثه الدائم عن الجديد المبدع، وخلال عمله في الحرس الملكي، رافق عدداً من الشخصيات العالمية في جولات سياحية وبحثية في ربوع الأردن، وقد فتح ذلك عينه على الكنز الكبير الذي تخبئه الأرض الأردنية، وقد أكتسب أساليب البحث العلمي والميداني، من خلال مرافقته لكتاب وفنانين وباحثين غربيين.

لم يتجاوز أرسلان رمضان الصف السادس الابتدائي، إلا أنه تمكن بفضل ذكائه وعمله على نفسه واجتهاده، من تحقيق مكانة في الكتابة والبحث والتصوير والتصميم والرسم، لم يبلغها كثير من الأكاديميين والمختصين، وهذا دليل على أصالة موهبته، ومقدرته على تطوير نفسه، وتوظيف التقنيات الحديثة، في عمله الفني والبحثي. فبعد خدمة ثمانية عشر عاماً في الحرس الملكي، أحيل على التقاعد بناءً على طلبه الخاص، وكان هذا التقاعد محطة أساسية لكي ينطلق باتجاه تحقيق أحلامه في الفن والكتابة، فقد كان عاشقاً ولهاً للطبيعة الأردنية، ومن هواة الصيد، وقد قاده وعيه إلى ضرورة ضبط هذه الهواية، من أجل المحافظة على البيئة، وما تحتويه من طيور وحيوانات برية، فأسهم في تأسيس « نادي الصيد الملكي « الذي تحول فيما بعد إلى « الجمعية الملكية لحماية الطبيعة « والتي تأخذ على عاتقها حماية الطبيعة بمكوناتها، وتأسيس المحميات الطبيعية، وتنظيم الصيد بما يحفظ الأنواع، ويحمي الحيونات المهددة بالانقراض.

قام أرسلان رمضان بتأليف باكورة أعماله، عندما أنجز كتابه الأول « صور من التراث الأردني الفلسطيني « وقد صدر بثلاث لغات: الإنجليزية، والفرنسية بالإضافة للعربية، ضم صور لشخصيات وأماكن وأحداث، منذ عام 1910، وتبعه بكتاب عمان بين « الأمس واليوم « وصدر بالإنجليزية والعربية، ونال الكتاب درع مدينة عمان، واشتمل الكتاب على مقارنة بين صور قديمة لعمان بأخرى حديثة صورها أرسلان لنفس الأماكن، لتوضيح مدى تطور عمان وازدهارها السريع، أما كتابه « طيور الأردن « والذي صدر عام 1992 بالعربية والإنجليزية، فقد استغرق إنجازه خمس سنوات من التجوال والمراقبة، من أجل التقاط الصور المطلوبة، وتوثيق هذه الطيور، والتعريف بها بشكل علمي ميسر، كما أصدر كتاب آخر بعنوان « طيور في سماء الأردن « هو إصدار خصصه للأطفال عام 1994، وفي عام 2002 أصدر كتابه « عمّان تاريخ وصور « أما كتابه « جلالة الملك المؤسس عبد الله بن الحسين « فقد صدر عام 2004، وصدر كتابه « أعلام ورايات الهاشميين « عام 2006، كما عمل على إنجاز « بوسترات عن الملوك الهاشميين « 2006، وقد نشر كتابه الأخير بعنوان « صور من ذاكرة الأردن « عام 2008، وقد تشرف بإهداء المغفور له الملك الحسين بن طلال، نسخ من كتبه الأولى بشكل مباشر، وحظيت جهوده بتقدير ومباركة المغفور له.

أنجز أرسلان رمضان أكثر من ثلاثمئة من بطاقات المعايدة تضم صور لطبيعة الأردنية، ومارس صيد السمك والرسم، وأهتم باقتناء اللوحات، وجمع الطوابع والكتب النادرة، بالإضافة لحبه للسفر وزيارة المتاحف العالمية، واهتمامه بالتراث الشركسي في الأردن، وأقام عدداً من المعارض الفنية، وقد نال خلال حياته مجموعة من الأوسمة الرفيعة منها: وسام الاستقلال الأردني، وسام الأرز من الجمهورية اللبنانية، وسام من الجمهورية التونسية، وسام من المملكة المغربية، وسام من الجمهورية الإيرانية، ووسام من المملكة الماليزية، بالإضافة إلى درع أمانة عمان، ودرع الجمعية الشركسية. أصيب أرسلان رمضان بمرض السرطان العضال، وعانى في آخر أيامه، حتى توفي في الثالث عشر من كانون الثاني عام 2011، وما زال فقده حاراً وموجعاً، رحمه الله بواسع رحمته.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).