مؤنس الرزاز |
لم يكن مؤنس الرزاز مجرد كاتب متميز، أو سياسي يزهو بكسله واحتجابه الاحتجاجان وحسب، بل كان ظاهرة إبداعية وإنسانية مغايرة ومتفردة، تركت أثرها العميق في الساحة الثقافية العربية والمحلية، وكان لها ارتداداتها على عدد ليس بالقليل من الكتاب الذين تواصلوا معه، وتأثروا بأسلوب حياته، وبنظرته الخاصة للحياة، وحرده المستمر من الواقع العربي المتردي، وجنوحه نحو الغرابة، واجتراح أشكال مفاجئة من التعبير المناهض لحالة الاستسلام، فبدأ بتأسيس الجمعيات شبه السرية، والمدهشة في فكرتها وغاياتها، وإن كانت لا تعدو عن أفكار تبقى بين الأصدقاء المنتمين إلى هذه الجمعيات ضمنياً، فلقد نادي بتأسيس جمعية ''التنابل'' خاصة بالكسالى، وجمعية ''الحردانين'' للمحتجين على الشكل الحالي للحياة، وعلى الواقع المثقل بالخذلان والتراجع، وهي أفكار روج لها واستقطب لها عدد من المؤيدين.
ينتمي مؤنس الرزاز إلى عائلة تعود بجذورها إلى أسرة شامية، وفدت إلى الأردن في مرحلة الحراك البشري، الذي شهدته المنطقة يوم كانت البلاد العربية أرضاً واحدة، لا يقسمها فاصل حدودي، ولا يباعد بينها حاجز جغرافي، أو تنافر مصلحي، وكانت السلط حينها تشكل قلب البلاد النابض، تزخر بنشاط تجاري وحراك اجتماعي بارزين، فسعت هذه العائلة للإقامة في حاضرة البلقاء السلط، فكانت مسقط رأسه، والفضاء الرحب الذي حلقت فيه نظرته الأولى للحياة والوجود، فلقد فجر مؤنس الرزاز ضجيج صرخة الأولى في السلط عام 1951م، ليملأ العالم هدوءاً بعد ذلك، لم يكن الهدوء الذي يسبق العاصفة، لأنه كان العاصفة المروضة لدرجة الألم، فتحول صخبها إلى كتابة جارحة، تكشف عن نزف مزمن، يستنزف الطفولة، ويصعد بعيداً حتى حدود الشيخوخة التي لم تكتمل، هكذا هو مؤنس الرزاز منذ بدأ دبيب خطواته في الأزقة والحارات، وكأنه يجس بحساسيته المفرطة احتمالات الحياة القادمة، ويتدرب على الحرد القاسي.
كانت عمان أولى المحطات وآخرها، فلقد التحق في طفولته بمدرسة المطران في عمان، وفيها نمت أحلامه وتعمقت نظرته للحياة، مع ازدياد عمره عاماً بعد عام، وفيها أيضاً أكمل دراسته الثانوية، وقد شب ناهلاً من ثقافة وفكر والده منيف الرزاز، الذي كان مفكراً عربياً كبيراً، وسياسياً مرموقاً دفع في سبيل مبادئه وانتمائه العربي القومي، ثمناً غالياً، حتى توفي بالإقامة الجبرية، وهو يشغل منصب الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث، لقد تأثر مؤنس كثيراً بوالده، وفت في عضده فقدانه في لوالده، مما فجر في أعماقه حزن موغل في النفس، ففلق محارة الإبداع، التي أخلص لها، حتى وضعته في قمة المجد الأدبي المستحق، لكن الأحداث الجسام التي أحاقت به منذ نعومة أظفاره، منحت انزواءً اختيارياً والتجاء نحو العبث الوعي، وحاول مبكراً التفلت من رتابة الحياة، وكسر جمودها، من خلال لامبالاة خاصة، فلقد شد الرحال صوب انجلترا من أجل الدراسة، والتحق بجامعة اكسفورد ، في مفتتح العقد السابع من القرن الماضي، ويبدو أن الحياة فيها لم تلاؤمه، ولم ترق له برودة العلاقات البريطانية، وهو المفتون بدفء الشرق، وغزارة تواصله الاجتماعي، فلم يستطع التأقلم مع هذا الواقع الجديد، فغادرها عائداً للشرق.
وصل مؤنس الرزاز إلى بيروت، وقرر دراسة الفلسفة في جامعتها، لكن الظروف تغيرت بسرعة كبيرة، فلقد تحول هذا البلد الوادع إلى ساحة حرب شرسة استمرت سنوات طويلة، فسرعان ما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وشملت البلاد كافة، فأضطر مؤنس إلى مغادرتها، وقرر الذهاب إلى العراق، وهناك بادر بالالتحاق بجامعة بغداد بغية إكمال دراسته للفلسفة، وتمكن من تحقيق ذلك أخير، وحصل على الشهادة الجامعية في الفلسفة من جامعة بغداد، كان والده تعيش واقعاً غير مستقر نتيجة لمكانته الفكرية ومنصبه السياسي، وهذا الأمر انعكس على عائلته، وبالأخص على مؤنس شديد التعلق بوالده، فعاش ما يمكن تسميته شتات الأمكنة، وفقدان الإحساس بالأمن الراسخ، وقد تنقل مؤنس بين عمان ودمشق وبيروت ولندن وبغداد، ومن ثمة قرر السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تحدوه الرغبة في مواصلة تلقي العلم في مجال الدراسات العليا.
التحق مؤنس الرزاز بجامعة جورج تاون، غير أن روح العبث، وسخريته من الرتابة والتزام المقعد الجامعي، بالإضافة لأسباب أخرى كثيرة والظروف العائلية، ترك مؤنس الجامعة وقفل عائداً، وكانت كل هذه القرارات تنبئ عن رفض واحتجاج مكبوت، يظهر من خلال تتبع مراحل حياته القصيرة، فنجده قد حط الرحال أخيراً في عمان بعد سيل من الأحداث والتحولات القاسية، التي عصفت بالعائلة وبالمنطقة كلها، عاد إلى عمان عام 1982م، وبدأ بتلمس واقع الحياة الثقافية في الأردن، فعمل في مكتبة أمانة عمان، وأولى الأدب الأردني اهتماماً خاصاً، خلال عمله هذا، وواظب على زيارة مقر رابطة الكتاب في جبل اللويبدة، حيث كان يسكن قريباً منه، وصارت تتوثق معرفته بالكتاب والمبدعين الأردنيين، وقد بدأ الكتابة الروائية منذ مطلع الثمانينات المنصرمة، عمل بعدها في مؤسسة عبد الحميد شومان، وأخذ يكتب عمداً في جريدة الدستور.
أصدر عدداً من الأعمال الروائية في تلك المرحلة منها، أحياء في البحر الميت واعترافات كاتم صوت، لفتت أعمال نظر النقاد والمهتمين داخل الأردن وخارجه، وأخذ أسمه كروائي ينتشر على امتداد الوطن العربي، وتكونت بصمته الخاصة في السرد الروائي، عمل الرزاز بعدها في وزارة الثقافة مستشاراً لوزير الثقافة، كما ترأس هيئة تحرير مجلة أفكار، التي تصدرها الوزارة، ارتبط مؤنس مع المثقفين الأردنيين والعرب برابط الود والاحترام، وقد ترسخت مكانته الروائية عربياً عندما كتب ونشر بشكل متواصل، حتى وصلت أعماله المنشورة خمس عشرة عملاً، واستمر في الكتابة الصحفية في عموده في جريدة الدستور وجريدة الرأي بعد ذلك، دون انقطاع.
فقد مؤنس الرزاز ثقته بالأحزاب السياسية، بعد أن خاض تجارب في هذا المجال أورثته الألم والخذلان، فخاض انتخابات رابطة الكتاب الأردنيين، في منتصف التسعينيات وأصبح رئيساً للرابطة، وكان أول رئيس رابطة يقدم استقالته قبل انتهاء المدة السنتين، على خلفية الحوار الحاد حول التطبيع، وفضل أن ينأى بنفسه عن سيل التهم المتبادلة بين عدد من أعضاء الرابطة، وكان مكتبه في وزارة الثقافة ملتقى لعدد من الكتاب، وقد عرف عنه النوادر الفكاهية، وعباراته الساخرة رغم حالة التجهم التي توحي بها قسمات وجهه الحادة، كما يمكن استقراء حب مؤنس لمدينة عمان من خلال رواياته الكثيرة، فكان مغرماً بجبل اللويبدة حيث يسكن وبعض ذكريات الطفولة والصبا، وكان رافضاً لما يطرأ على هذا الحي العماني من تحولات أملتها طبيعة الحياة، حتى أنه لم يسافر بعد عودته إلى الأردن إلا مرة واحدة، عندما شارك بندوة عن غالب هلسا، وقد ارتبط بمكتبة عمان التي تعود لصديقه أسامة شعشاعة، الذي يصف حالة النكوص التي لا حقت مؤنس في سنواته الأخيرة بأنها ناتجة عن إحساسه أن الدنيا لم تعد دنياه، وأنها فرضت عليه واقعاً أقسى مما يستطيع أو حتى يرغب في مواجهته، فلقد كانت بينه وبين التقنية العصرية قطيعة لا يستهان بها، مع أنها من أبسط نواتج الدنيا الجديدة، وقد أنجز مؤنس في مقر مكتبة عمان الثلاث روايات الأخيرة.
حاز مؤنس الرزاز على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000م، وترجم عدد من أعماله، كما نشرت روايته '' الذاكرة المستباحة '' ضمن مشروع كتاب في جريدة في ثلاثة ملايين نسخة وزعت في الوطن العربي، عن طريق المنظمة العالمية اليونسكو، عنى الرزاز في سنواته الخيرة من بعض المشاكل الصحية، لكن أي منها لم يكمن خطيراً، لكنه سقط فجأة من بيننا، وبعد أن أمضى ليل معدودة في برزخ من زجاج في مستشفى لوزميلا في اللويبدة، انتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى، وهو في عز نضج التجربة،وعن عمر بالكاد ناهز الواحد والخمسين، تركنا شاباً متوقد الحمرة، ووري الثرى في مقبرة أم الحيران، في يوم عماني حزين حيث شيعته المدينة بشوارعها وأحيائها، ومثقفيها، وناسها الطيبين الذين لن ينسوا أبداً واحداً من أبرز مبدعي الرواية العربية.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|