عبد اللطيف الصبيحي |
أرتبط الأردن منذ بواكير تأسيس الدولة بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة برمتها، وكان على الدوام واقعا في بؤرة التأثر والتأثير، لذا يعد مرآة حقيقية لما تشهده الساحة العربية من حراك سياسي وفكري، ولعل الأردن في العقود الأولى من تأسيسه كان ميداناً حياً للحركات النضالية التحررية، والأفكار السياسية القومية والإسلامية واليسارية، مما أكسبه حيوية دائمة أنتجت رجالاً كباراً في هذه الميادين كافة، ولم تكن هذه الحركات المعبرة عن هذه الأفكار حكراً على مدينة بعينها، بل شمل هذا الحراك مدن وبلدات الأردن من شماله إلى جنوبه، وكان لجيل من الشباب الذين نالوا قسطاً جيداً من التعليم، بالتأثر بهذه التوجهات السياسية ونقلها إلى فئات المجتمع، خاصة بعد إنشاء المدارس الثانوية تباعاً بدءاً بثانوية السلط ثم عمان وبعدها اربد والكرك وباقي مدن البلاد، حيث رفدت هذه المدارس الوطن بأجيال من الشباب المتعلم الذي أخذ من معلميه المعارف والثقافة، والاطلاع على ما يجري في الوطن العربي والعالم من متغيرات، خاصة بعد أن حصّل كثير منهم تعليماً جامعياً في بعض الحواضر العربية المزدهرة، كالقاهرة ودمشق وبيروت، حيث شهدت هذه المدن بروز أفكار سياسية وأيديولوجية، مازالت تؤثر في الحراك السياسي والفكري في الوطن العربي حتى يومنا هذا.
لقد تأثر عدد كبير من الأردنيين خاصة من فئة الشباب المتعلم بهذه الأفكار، فنظّروا لها وعملوا من أجل نقلها إلى الآخرين، وبرزت الأحزاب القومية والإسلامية واليسارية، فلم تكن الأردن في يوم من الأيام منغلقة على ذاتها، بل كثيراً ما كانت ملجأ لكثير من المناضلين والسياسيين العرب الطالبين للأمن والأمان، وهذا ما ميز الأردن في كل مرحلة من المراحل. وفي هذا السياق كانت مدينة السلط من أولى الحواضر الأردنية التي أنجبت رجالاً كان لهم دور كبير ومؤثر في بناء الوطن والذود عنه، وكان من بينهم أيضاً من حمل أفكاراً سياسية هي انعكاس طبيعي لما يجري بالمنطقة، فأصبحوا من مؤسسي الأحزاب الأردنية التي أسست ترجمة لهذه الأفكار والتوجهات، ومن بين هؤلاء المؤسسين ابن السلط عبد اللطيف الصبيحي، الذي عده الباحثون من جيل مرحلة الوعي السياسي المبكر، فكانت له جهود تأسيسية واضحة مع عدد من زملائه، خاصة في التأسيس للعمل السياسي الإسلامي في الأردن، وهو الاتجاه الفكري الذي أخلص له طوال سنوات حياته، ولم يغادر قناعاته رغم مغادرته العمل الحزبي للإخوان المسلمين منذ فترة طويلة.
يعد عبد اللطيف الصبيحي صاحب جهود مؤسسة لعدد من شعب الإخوان المسلمين في عدد من المدن الأردنية، وهو الذي حمل هذا الفكر منذ شبابه وعمل من أجله، ويعد عبد اللطيف الصبيحي المولود في حاضرة البلقاء السلط، في النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين، ليكون واحداً من أبناء الجيل الثاني المؤسس، وهو جيل واسع ترك بصماته الذهبية في أكثر من مجال، وقد نشأ متشبعاً بالروح القومية، ميالاً منذ صغره للفكر الإسلامي والأمة الإسلامية، ورأى في هذا الفكر المنقذ للأمة مما تعانيه من تفكك وضعف وترجع كبير على سلم الحضارة الإنسانية، بعكس ما كانت عليه في ماضيها العريق، كما عرفه عنه تميزه الدراسي وحبه للعلم والمعرفة، لذا واصل دراسته الثانوية في مدرسة السلط، التي لعبت دوراً كبيراً في مجال التعليم الثانوي وفي التنوير المجتمعي، فقد كانت بمثابة جامعة حقيقية، حيث تقاطر إليها طلاب العلم من مختلف المدن والبلدات الأردنية، كما ضمت خيرة المدرسين الأردنيين والعرب، الذين أسهموا في نقل كثير من الخبرات السياسية والأفكار الأيديولوجية.
وفرت مدرسة السلط مناخاً سياسياً ووطنياً خصباً، حيث عبر الطلبة عن أفكارهم الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني والمعاهدة الأردنية البريطانية، حيث شارك عبد اللطيف الصبيحي بعض طلبة المدرسة في تشكيل جمعية سرية للعمل ضد المعاهدة الأردنية البريطانية، غير أنه الجمعية كشفت، وقام الأمير المؤسس عبد الله بن الحسين بالاجتماع بهؤلاء الطلبة، وحاورهم بحضور وزير المعارف – وزير التربية والتعليم - سمير الرفاعي، وطلب منهم إكمال دراستهم أولاً وبعدها الانخراط في العمل السياسي، وكان زملاء عبد اللطيف الصبيحي في مدرسة السلط: هزاع المجالي ووصفي التل وحمد الفرحان وخليل الساكت وسالم صقر. وقد كان لهؤلاء الطلبة مستقبل لافت في المساهمة ببناء الوطن وتطوير مؤسساته المختلفة، وبفضلهم مع من سبقهم ولحق بهم تم تشييد الأردن العصري الذي تغلب على مصاعب كبيرة.
حصل عبد اللطيف الصبيحي على شهادة الثانوية العامة عام 1940، ليبدأ حياته العملية مباشرة حيث لم يكن في الأردن في تلك الفترة جامعات، بالتالي كان على الراغبين بإكمال دراستهم الجامعية السفر خارج البلاد، وهذا لم يكن متاحاً إلا لقلة قليلة من الطلبة. وقد عين عبد اللطيف الصبيحي في مستهل حياته العملية في دائرة الأراضي والمساحة في عمان عام 1940، وبعد ذلك بفترة نقل مركز عمله إلى مدينة اربد، وقد بدأ نشاطه مع حركة الإخوان المسلمين التي نشطت في تلك الفترة بعد لقائه بالحاج عبد اللطيف أبو قورة، الذي كان حينها رئيساً لجماعة الإخوان المسلمين، وقد تأثر الصبيحي بفكر وتوجهات أبو قورة وأعجب بنشاطه وعمله الدائم، فأخذ يشارك في تأسيس شعب الإخوان في المحافظات والمدن، فبعد أن نقل إلى مدينة الكرك باشر بتأسيس شعبة الكرك التي يقول أنها أسست في بيت هزاع المجالي وكان من الحاضرين المشاركين في تأسيس هذه الشعبة كل من: سعيد رمضان وهو قيادي إخواني مصري لامع، ووالد المفكر الإسلامي طارق رمضان، وقد وصل عدد أعضاء شعبة الكرك بسرعة إلى أربعمائة عضو كان من بينهم حسين باشا الطراونة وعبد الوهاب الطراونة وفارس الصرايرة ويوسف المبيضين.
عندما تم نقل مقر عمله إلى مدينة معان عمل على تطوير شعبة الإخوان في هذه المدينة، حيث تم تحويل الزاوية الصوفية التي ترأسها الشيخ فهمي كريشان لتصبح شعبة للإخوان، وكان من بين مؤسسي هذه الشعبة الشيخ وحيد صلاح والشيخ عبد الله الدايم والشيخ يوسف العظم وشقيقه علي العظم بالإضافة إلى علي الشمالية وخلف داودية الذي أصبح وزيراً للأوقاف فيما بعد، لقد كان عبد اللطيف الصبيحي دائم النشاط، لديه شخصية محببة من الناس، فقد كان جميل المعشر محباً للخير يسعى من أجل خير الوطن والأمة وصلاح الناس، وهذه أمور كانت من أسرار نجاحه فيما كرس حياته من أجله، لذا واصل جهوده في تأسيس شعب الحركة الإسلامية في المدن التي كان يعمل فيها، فقد شارك في تأسيس شعبة الإخوان في مدينة جرش عام 1947، بالمشاركة مع تجار وموظفين من أمثال البندقجي والطرزي.
كانت لعبد اللطيف الصبيحي جهود واضحة في تأسيس شعبة الإخوان في مدينة مادبا في الخمسينيات، كما لعب دوراً في تحسين الأجواء داخل المدينة ووأد الفتنة، حيث أكدت الشعبة من خلال بيان نشر في صحيفة الوفاء التي يصدرها صبحي زيد الكيلاني، أكدوا فيه على عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وهو موقف قابله ببيان مماثل المطران نعمت السمعان أكد فيه على عمق ومتانة هذه العلاقة. لذا من خلال جهوده المؤسسة هذه كان له تأثيره على عدد كبير من الناس خاصة الشباب، واستطاع أن يسهم بفعالية في الترويج للجماعة الإخوان، وأن يجلب لها كثر من الأعضاء والمؤيدين.
لقد مرت جماعة الإخوان في منتصف عقد الخمسينيات بتحولات، وأخذت هذه التحولات عدة أشكال واختلاف في وجهات النظر، مما دفع عدداً من قيادات وأعضاء الجماعة لمغادرتها، ومن أبرزهم كان رئيس الجماعة عبد اللطيف أبو قورة وعبد اللطيف الصبيحي ومنصور الحياري وغيرهم، غير أن خروج الصبيحي من الجماعة، لم يعنِ تركه لمنهجه وتوجهاته الإسلامية، بل حافظ على فكره طوال حياته، لكنه فضل أن ينأى بنفسه عن السياسة والصراعات الحزبية، وقد واصل حياته عاملاً بصمت بعيداً عن الضجيج الإعلامي وإغراءات المناصب الدينية والسياسية، وبقي كذلك لا يتغير حتى وفاته في شهر آذار عام 2010 حيث تم تشييع جثمانه الطاهر في مقبرة العيزرية في السلط.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|