رامز الزاغة ... عاشق العود والوتر الحزين

مجموعة موسيقات الاذاعة والتلفزيون، الرعيل الاول من نجوم الفن الاردني في صوره تذكارية نادرة

رامز الزاغة ؛ ظاهرة فنية و حالة فريدة كرس وجوده على الساحة الموسيقية محلياً وعربياً، بفضل مجهوده الشخصي وما تميز به من موهبة أصيلة ولافتة، وقد كان للفضاء الرحب الذي منحته له الإذاعة الأردنية.

و في فترة كانت السيادة الإعلامية فيها للإذاعات الرسمية، دور حاسم في نمو موهبته وانتشار معزوفاته، وفي المقابل وفر الزاغة من خلال نشاطه وقدراته الفذة مخزونا كبيرا ومتجددا من التسجيلات الموسيقية، عزفاً منفرداً على آلة العود أو بالمشاركة مع فرق موسيقية، فقد كان مخلصاً لفنه وفياً لصديقه العود، الذي رافقه طوال سنوات عمره، حتى أصبح له عوده الخاص الذي عرف بـ ( عود رامز الزاغة ).

ارتبط رامز الزاغة منذ نعومة أظفاره بالإيقاع الصحيح، والموسيقى الأصيلة، وبقي قابضاً على جمرة حلمه في واقع سمته المصاعب وكثرة العقبات، في مرحلة عانت فيها الدول العربية تبعات الاستعمار الغربي، واستفحال المؤامرات التي استهدفت مقوماته ووحدته ومشروعه النهضوي، بالإضافة لعدم توفر المدارس والمعاهد الموسيقية إلا ندراً، فولد الزاغة عصامياً ساعياً وراء المستحيل، الذي حوله بفضل إرادته القوية إلى واقع ملموس، كيف لا وهو ابن مدينة السماء، القدس تلك المدينة العبقة بروحانيتها الدينية وآفاقها الإنسانية العميقة من فجر الإنسانية، فقد ولد الفنان رامز الزاغة في مدينة القدس عام 1914، وقد تزامن مولده مع قيام الحرب العالمية الأولى، التي كانت نتائجها وخيمة على الأمة العربية، ولعل الانتكاسة الكبيرة التي أصابت العرب بعد فقدانهم لنتائج الثورة العربية الكبرى، بسبب خديعة الغرب الكبرى، تركت ألمها ومرارتها في نفوس الكبار والصغار، بما يعني أن رامز الزاغة، امتلك حزنه الخاص وألمه الذي رافقه سنوات طويلة، وقد امتزج فيها الخاص بالعام.

رامز الزاغة الذي تربى في حارات القدس القديمة وتشبعت روحه بعراقتها وإرثها، تعلق بالموسيقى صغيراً، وكان لآلة العود سحرها الخاص لديه، فأحب هذه الآلة العربية، وأخذ يدرب نفسه بنفسه منذ سن العاشرة، وتلقى تعليماً على العزف من بعض الموسيقيين، حتى احترف العزف وبدأ ينشط على الساحة الفنية والشعبية، وكان عزفه نقياً رائعاً لافتاً لانتباه الجميع، وأخذ يشارك الحفلات الخاصة والعامة، وكانت هذه الحفلات في القدس وفي مختلف المدن والبلدات الفلسطينية، مما ساعد في سرعة انتشاره بين مختلف الأوساط، وما أن بلغ سن العشرين حتى أصبح صاحب شهرة كبيرة.( فنون، أنس ملكاوي )

بدأ رامز الزاغة مسيرته الاحترافية في العزف والتلحين، عندما أصبح عضواً في الفرقة الموسيقية التابعة للإذاعة الفلسطينية، وقد استمر يعمل فيها حتى وقوع النكبة عام 1948، التي نتج عنها ضياع الجزء الأكبر من فلسطين، لكنه التحق بالإذاعة الأردنية في رام الله منذ عام 1949، حيث دخلت الضفة الغربية بوحدة اندماجية مع المملكة الأردنية الهاشمية، وقد قدم خلال عمله في الإذاعة الأردنية ألحاناً ومعزوفات خالدة، تبقى تذكر به جيلاً بعد جيل، حتى فاقت شهرته في فترة وجيزة كثير من المطربين، فهو ليس مجرد عازف بين عازفين، بل علامة فارقة حفظت له مكانته عبر عقود طويلة.

عندما تم نقل مقر الإذاعة الأردنية من رام إلى عمان عام 1959، تم إعادة تعيينه في الإذاعة الأردنية ملحناً وعازف عود، وتعد هذه المرحلة انطلاقته الثانية، فأصبحت نغمات عوده تزين أثير الإذاعة بشكل شبه يومي، بالإضافة لعدد من الأغاني التي لحنها، وانطلقت بها حناجر عدد من المطربين الأردنيين والعرب، حيث ترسخت شخصيته الفنية، وأصبحت له بصمته الفنية الخاصة، وهي سمة ليس من السهل التميز بها، وقد نشط خلال هذه الفترة في مجال التلحين، حيث لحن لكبار المطربين الأردنيين حينها، من أمثال إسماعيل خضر وسامي الشايب وسلوى العاص، وكذلك لحن لعدد من الفنانين العرب.

لم يكتف رامز الزاغة بنفسه ولم يوقف موهبته وقدراته الموسيقية حكراً على مشروعه الشخصي، فلقد كرس كثيرا من وقته من أجل مساعدة الفنانين الشباب، حيث عرف بعمله الدءوب من أجل تدريب الشباب الموهوب للعزف على آلة العود، وبذلك كان له فضل تخريج عدد كبير من العازفين المهرة والذين أصبح لهم شأن كبير في الساحة الفنية الأردنية، وكانت تلك بصمة خاصة إضافية لرامز الزاغة المبدع والإنسان، وقد زاد على ذلك كله بأن أمتلك عوداً خاصاً به تم صنعه في العراق، وقد تميز بهذا العود منذ عام 1970 حتى وفاته، حيث ذكر مختصون أن عوده تميز برنة خاصة محببة للأذن، وكان يضعه دائماً في كيس من القماش المميز، ويعد هذا العود الوجه الآخر للفنان رامز الزاغة.

امتدت شهرت رامز الزاغة إلى الوطني العربي، وقد رافق عدد من كبار الفنانين العرب كعازف على العود، محتضناً عوده الفريد مطلقاً أعذب الألحان وأكثرها قرباً من الروح، ومن المطربين العرب الذين رافقهم الزاغة على عوده: سميرة توفيق ووديع الصافي وغيرهما، فقد تميز رامز الزاغة بحب وتقدير كبيرين من فناني الأردن والوطن العربي، حيث فلم يقتصر عمله في الموسيقى على العزف، فقد تميز كملحن مبدع، ترك إرثاً لا بأس به من الألحان الخالدة، التي تغنى بها عدد من المطربين كما ذكرنا، وهذا يؤكد على أصالة موهبته، وإخلاصه لفنه ومقدرته الفذة على الإجادة والتميز.

قام رامز الزاغة بجولات فنية كثير في بلدان عربية، مصطحباً عوده معه، وقد لقي عزفه استحسان كل من سمعه من المختصين ومن المستمعين، وتحول إلى نجم كبير في عالم الموسيقى في المنطقة، وصار اسمه الرنان لازمة دائمة الحضور والتألق في الحفلات الإذاعية والتلفزيونية، وفي المهرجانات والحفلات الكبيرة، وقد شارك في عدة مهرجانات مهمة كان أبرزها مشاركته في مهرجان جرش للثقافة والفنون، واستطاع خلال مسيرة حياته الطويلة أن يترك للمكتبة الموسيقية الأردنية مجموعة كبيرة من التسجيلات التي تعد اليوم ثروة حقيقية، تحتاج إلى إعادة إحياء من جديد وتوزع باستخدام التقنيات الحديثة، مما يساهم بالتعريف بقدرات هذا الفنان الكبير، الذي عمل بصمت دون أن يحدث جلبة، غير مستند سوى على أعماله عزفاً وتلحيناً وخلقه الرفيع وشخصيته الهادئة.

لم يغادر الفنان رامز الزاغة أوتار عوده حتى وفاته عام 1992 عن عمر ناهز الثامنة والسبعين عاماً، فقد بقيت أنغام عوده رنانة في فضاءات الذاكرة الفنية الأردنية، وقد بقي تلاميذه يذكرون به من خلال أعمالهم الفنية الجميلة، وقد شكل فقده خسارة كبيرة في الساحة الفنية، لكنه غاب جسداً فلقد تخلد ذكره خلود موسيقاه، وخلود عوده الذي أصبح من مقتنيات بيت الفن الأردني، وكأنه رمز لقامة كبيرة مثل قامة صاحبه رامز الزاغة، فهو بالبال رنة عود ونغمة صافية تدور في الفضاء ولا تفنى. 
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).