جمال الشاعر |
كان الطبيب والسياسي جمال الشاعر، على موعد مع المفارقات الكبيرة التي طبعت مرحلته، وتركت سماتها الخاصة على المنطقة برمتها، وشكلت ملامح رجالات تلك المرحلة، فلقد كانت البلاد تمر بمخاضات سياسية واقتصادية، وتحولات اجتماعية تكاد تكون جذرية، منذ بُعيد التأسيس وحتى سبعينيات القرن الماضي.
ويمكن اعتبار مراحل حياة هذا السياسي اللامع والطبيب الرائد، انعكاساً ناضجاً لواقع النخبة السياسية المثقفة، التي بدأت بالبروز منذ أخذت مدرسة السلط الثانوية، على عاتقها رفد الساحة المحلية بالخريجين، الذين اندغموا في الوظائف الرسمية، ومنهم توجه إلى الجامعات والمعاهد العربية والغربية، بغية تحصيل مزيد من العلم والمعارف الجديدة، وكان جمال الشاعر احد هؤلاء الرواد .
انطلق جمال الشاعر، من بؤرة الحراك الاقتصادي والعلمي في الأردن في تلك المرحلة، فلقد ولد في السلط المدينة الأبرز في مرحلة التأسيس الأولى، ومركزها التجاري والعلمي، وقد واكب ذلك حراك ديموغرافي واسع النطاق.
ولم تكن السلط عنده مسقط الرأس وحسب، بل هي مهد الطفولة، ومرتع الشباب الباكر، فكانت عنده الحضن الكبير، الذي ألهمه رؤيته الخاصة اتجاه الحياة والمستقبل، حيث تلقى فيها معارفه ومارس فيها شقاوته، وشهدت أولى اشتباكه مع الواقع والظروف السياسية، مما مكنه من بناء وعيه العميق الذي رسم منهج حياته الحافلة بالتحولات والإنجازات.
كانت ولادته عام 1928، وقد نشأ نشأة أبناء السلط البسطاء، وسط أسرة مسيحية اتصفت بالعراقة، والانتماء الراسخ للقيادة والوطن، وهي الأسرة التي انفتحت على آفاق قومية، تنافح عن قضايا الأمة، وتطالب باستقلالها ووحدتها، وقد اتصف الشاعر منذ صغره بحس المبادرة، والوعي السابق لسنوات عمره، وتعلق بمدينته السلط طوال حياته، لذا وصف دائما بابن السلط البار، الذي وإن ابتعد عنها بحكم عمله إلا أن وجدانه ارتبط بها بشكل لافت.
أتاحت الظروف الفرصة لجمال الشاعر، للالتحاق بمداس السلط، حيث درس المرحلة الابتدائية، ومن ثم المرحلة الإعدادية، وكان من ذلك الجيل الذين درسوا في مدرسة السلط الثانوية، حيث درس جزءاً من صفوف هذه المرحلة في هذه المدرسة العريقة، وكانت مدينة عمان عاصمة الإمارة الصاعدة، تشهد تطوراً لافتاً، ونشاطاً تجارياً متسارعاً، مما دفع عائلته للانتقال إلى عمان والاستقرار فيها، وقد بادر إلى الالتحاق بمدرسة المطران في عمان، في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، لكنه لم يمكث طويلاً في هذه المدرسة، فقد انتقل بعدها إلى مدرسة اللاتين، وفيها تمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة، التي كانت تسمى حينها ( المترك ) عام 1944، ورغم أن هذه الشهادة تؤهله للحصول على وظيفة حكومية جيدة، غير أنه فضل ترك مغريات الوظيفة، من أجل تحقيق هدفه في التحصيل العلمي، فغادر الأردن باتجاه بيروت حيث أصبح طالباً في الجامعة الأمريكية، واختار كلية العلوم تلبية لرغبته الخاصة، وتمكن من الحصول على بكالوريوس العلوم، من الجامعة الأمريكية عام 1947.
عاد جمال الشاعر إلى وطنه الأردن، مخططاً لدخول الحياة العملية، لكن رغبة والده في أن يدرس ابنه الطب، دفعته للعودة من جديد إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث عاد طالباً في كلية الطب، وكان مثابراً في دراسته، جدياً في تعامله مع مستجدات الحياة، متميزاً في التحصيل العلمي، وقد نال شهادة الطب من الجامعة الأمريكية عام 1951، حيث صبغ هذا التخصص حياته العملية بعد ذلك، فقد قرر التخصص في هذا المجال، خاصة أن الأردن كان بحاجة ماسة لهذه الكفاءات، فسافر إلى بريطانيا وايرلندا، ملتحقاً بجامعات هذه الدول للتخصص، وتمكن من تحقيق مراده بمستوى عالٍ. وقد عاد إلى وطنه مسلحاً بالمعرفة والعلم والخبرة العملية، فكان أحد ابرز الأطباء في مرحلته.
أتاحت له فترة دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت، فرصة للتواصل مع عدد من القوميين، وأصحاب الفكر العرب، وقد كون صداقات واسعة معهم، وهو المسكون بالهاجس القومي، وكانت الجامعة الأمريكية ملتقى القوميين، ولاقت أفكار السياسي أنطوان سعادة القومية، قبولاً وإعجاباً في نفسه، وكانت نتيجة ذلك أن انتسب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي عام 1946، وقد وصفت يتلك المرحلة من تاريخ المنطقة، بعدم الاستقرار السياسي، مع خروج الدول العربية تباعاً من السيطرة الغربية المباشرة، لذا لم يستمر جمال الشاعر أكثر من ثلاث سنوات في هذا الحزب، حيث التحق بحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد قاده إيمانه بالقومية العربية، والوحدة العربية باعتبارهما السبيل الأفضل، لاستعادة العرب دورهم الحضاري المتقدم، مستندين إلى إرثهم العظيم، وما يتمتعون به من قدرات بشرية ومادية كبيرة، وقد استمر عضواً في حزب البعث حتى العام 1975، حين غادره محتفظاً بفكره ونهجه السياسي الوطني والقومي.
يعد جمال الشاعر ناشطاً اجتماعياً وسياسيا، فقد كان حاضراً في المنتديات والجمعيات المختلفة، داخل الأردن وخارجه، ولم يكتف كونه طبيب متميز، ففي عام 1949 ترأس نادي السلط الثقافي، وكان له نشاط ثقافي تنويري كبير، وعندما عاد إلى بيروت لدراسة الطب، أصبح رئيساً لجمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية عام 1950، وقد نقل معه هذا النشاط إلى بريطانيا وايرلندا أثناء دراسته فيهما، حيث انتخب رئيساً لرابطة الطلبة العرب. عمل الشاعر طبيباً في أكثر من موقع، وأسس مركزاً طبياً في مدينته السلط حمل اسمه، وقد حاز شعبية كبيرة في النواحي الاجتماعية والثقافية، وثقة عدد كبير من الناس بقدراته وخبراته في الطب. وقد أقام في دمشق مدة سنتين، لكنه عاد للإقامة في عمان عام 1960، بعد هذه المرحلة أصبح جمال الشاعر رئيساً لمجلس إدارة المستشفى الأهلي في عمان، وأسهمت نشاطاته المختلفة، وشهرته كطبيب وسياسي، لدخول مجلس نقابة الأطباء غير مرة.
بقي الهاجس السياسي يلاحقه، فبعد خروجه من حزب البعث، أسس مع نفر من أصدقائه التجمع الديمقراطي الوحدوي عام 1976، وتمكن من رئاسة لجنته التنفيذية عام 1983. وفي العام 1978 اختير عضواً في المجلس الوطني الاستشاري، وعندما كلف دولة الشريف عبد الحميد شرف رحمه الله، بتشكيل الحكومة عام 1979، دخل جمال الشاعر الحكومة وزيراً للشؤون البلدية والقروية والبيئة، وقد تميز كوزير بالتواضع، والعمل الجاد المخلص، ودخل الحكومة للمرة الثانية في حكومة دولة قاسم الريماوي، حاملاً الحقيبة الوزارية نفسها. بعد عودة الحياة الديمقراطية والحزبية، بادر مع عدد من أصدقائه بالعودة لممارسة الحياة الحزبية برؤية جديدة، أفادت كثيراً من المراحل السابقة.
وكانت لجمال الشاعر أنشطة مختلفة، نبعت كلها من مبادئه القومية ونهجه العروبي، فقد دخل عضوية عدة لجان محلية وعربية وعالمية، منها عضوية اللجنة العربية لحقوق الإنسان، وعضوية لجنة دعم الشعبين الفلسطيني واللبناني، ولارتباطه بمدينة السلط أصبح عضواً في لجنة اعمار السلط، ورغم عمله في الطب، ونشاطه السياسي والاجتماعي، فقد كان له حضور صحفي واضح، من خلال سلسلة من المقالات التي نشرها في أهم الصحف المحلية كالرأي والدستور، ولم ينقطع عن المشاركة في الأنشطة المختلفة ذات الصلة بتوجهاته واهتماماته، حيث كان دائم المشاركة في الندوات والمنتديات والمؤتمرات الفكرية والسياسية، وفي السياق نفسه، أصدر أكثر من كتاب من تأليفه منها: سياسي يتذكر، وخمسون عاماً ونيف، بالإضافة لعدد من الدراسات والأبحاث في السياسية والفكر.
لم ينقطع الطبيب والسياسي جمال الشاعر، عن الحياة السياسية والثقافية الأردنية، بل كان دائم النشاط والحضور، ويترك أثراً أينما حل، وقد اكتسب ثقة ومحبة كل من عرفه أو تعامل معه، وتحول منزله في سنواته الأخيرة، بمثابة ملتقى للسياسيين والكتاب وأصحاب الفكر، وبقي ابن السلط البار بأهله ووطنه وأمته، واخلص العمل في كل المواقع التي عمل فيها. وفي شهر تموز من عام 2007، توفي السياسي المخضرم والطبيب الإنسان جمال الشاعر، ليدفن في عمان التي شهدت نجاحاته المختلفة، فقد كان ولا زال علامة فارقة في الحياة السياسية والعلمية الأردنية.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|