عامر ماضي |
كانت الموسيقى لغته الأولى، والفضاء الرحب، الذي حلقت فيه أحلامه، منذ حط برأسه على حكايات عمّان العتيقة، ولم تتوقف برحيله المفجع، الذي أخذه من بيننا على حين غرة.
يعد الفنان الموسيقي عامر ماضي، ركيزة أساسية في بناء الحركة الموسيقية الأردنية، حيث تخرج على يديه عدد كبير من الفنانين المحليين، من عازفين ومطربين، وقد انتشرت هذه المواهب، المدربة أكاديمياً وعملياً، في أرجاء الوطن العربي، ليسهموا في النهضة الفنية عربياً، ولم يقتصر جهده في التدريس والتلحين، بل عمل على تأسيس الفرق الموسيقية المحترفة، والتي غطت النقص الكبير، والتي ضمت عازفين أكاديميين، ومواهب حقيقية في الموسيقى والغناء.
ينتسب عامر إلى أسرة ماضي التي سكنت مدينة العقبة، حيث تمتع جده بمكانة عشائرية نافذة، فقد ذاعت شهرته كقاضٍ عشائري عدل وعدول، وتميزت أحكامه بتحريها العدل، مما منحه قدرة على تنفيذ هذه الأحكام، نظراً لمكانته، وثقة الناس به، وقد ولد والد عامر ماضي في مفتتح القرن الماضي، وعمل مع الجيش الإنجليزي مأمور إشارة، ليكتسب الخبرة اللازمة، التي مكنته من العمل في البريد الأردني في بدايات مرحلة التأسيس، وكان ينقل الرسائل الخاصة بسمو الأمير عبد الله الأول ابن الحسين، مما جعله مقرباً من سمو الأمير، فعندما أحب فتاة شركسية، وحالت الظروف الاجتماعية دون زوجهما، أخذها إلى الديوان الأميري، وهي طريقة في الزواج متبعة لدى الشركس، فعمل الأمير على تزويجهما، بل كان أحد الشهود على هذا الزواج، حرصاً منه على إنجاح هذا الرباط بينهما، وكان ذلك عام 1939، وعرف والده بقدرته بالعزف على العود، ووالدته تعلمت العزف على الأكورديون، وهي الآلة التي يستخدمها الشركس في رقصاتهم التراثية.
ولد عامر ماضي عام 1953، في عمان العامرة بالحياة والنشاط، وقد حظي بأجواء العائلة المنفتحة، التي كان للموسيقى فيها حضورها البهي، رغم النظرة الاجتماعية في تلك المرحلة، غير المشجعة لمثل هذه الأنشطة، خاصة للرجال، فرغم نشأته في بيت موسيقي، إلا أن توجهه للعزف واحتراف الموسيقى، لم يكن سهلاً أو مرحبا به، حتى داخل بيت العائلة، لكن عندما بدأ شقيقه مالك بالعزف على العود، فتح لموهبته طريقاً لم تكن سهلة في يوم من الأيام، وقد أثر به المكان العماني بدرجة كبيرة، حيث سكنت العائلة في جبل القلعة حي القيسية، ومن ثم سكنوا في جبل الحسين، قبل أن ينتقلوا إلى جبل التاج، ثم استقرت العائلة في شارع الهاشمي، على مقربة من المدرج الروماني، وقد سهل عليه ذلك متابعة الحفلات الموسيقية، التي كانت تقام على المدرج بين فترة وأخرى، ولا شيك أنه نهل من تربيته البيتية، ما أسهم في بناء موهبته وصقلها منذ صغره، فقد كان يستمع بعمق لعزف شقيقه مالك، ومن ثم يوضح له بعض الأخطاء التي وقع فيها، من خلال فطرته الموسيقية، وقد مكنته هذه الفطرة، من قيادته نحو الحرفية العالية التي وصل إليها. ( صخر حتر بتصرف )
بدأ عامر ماضي مسيرته الاحترافية في مجال الموسيقى، عندما أنتظم في دراسة العود عام 1968، على يد الأستاذ عبد الكريم عوض، في المركز الوطني الواقع بالقرب من سينما عمان، ويعطي دورات في موضوعات مختلفة، أما خطواته العملية في مجال الدراسة الأكاديمية للموسيقى، فقد أخذت مسارها الحقيقي، عندما التحق بالمعهد الموسيقي الأردني 1972، وفي هذه المعهد غير عامر ماضي اختصاصه بآلة العود، والتي أتقنها على يد عبد الكريم عوض، واختص بآلة التشيللو، وكان معلمه على هذه الآلة الأستاذ يوسف نصرة، وقد دفعته هذه المرحلة للتفكير بدراسة الموسيقى على مستوى أكثر احترافاً، فسافر مع شقيقه مالك إلى القاهرة، حيث التحقا بالمعهد العالي للموسيقى العربية، وقد حصل على الثانوية الموسيقية، ولم يكتف عامر بهذه الشهادة، بل قرر مواصلة الدراسة الجامعية، لذا نال شهادة البكالوريوس بعد أربع سنوات دراسة، اختصاص خلالها بآلة التشيللو، وبتقدير ممتاز، وكان تخرجه عام 1979، وخلال وجوده في مصر للدراسة، أرتبط بعدد من كبار الموسيقيين المصريين، وقد استمرت هذه العلاقة المثمرة حتى وفاته.
برزت موهبة عامر ماضي في التلحين في عمر مبكرة نسبياً، لكنها ترسخت بشكل مميز بعد دراسته الأكاديمية، وقد جمع بين الممارسة العملية والدراسة الأكاديمية، لذا كان يعمل في الإذاعة الأردنية، خلال العطل الصيفية، حيث لحن عدداً كبيراً من الأغاني، التي ظهرت بأصوات أشهر مطربي تلك الفترة، من أمثال: إسماعيل خضر، فهد النجار، صبري محمود، سهام الصفدي وفؤاد حجازي، وقد عمل بعد احترافه للموسيقى، على تشكيل فرق فنية، لعبت دوراً بارزاً مؤثراً في تنشيط الحركة الفنية الموسيقية في الأردن، ومن هذه الفرق، فرقة أوتار عمان، وكان من مؤسسي رابطة الموسيقيين الأردنيين عام 1980، وقد تمخض عنها فرقة النغم العربي، وفرقة خماسي الرابطة، وأوركسترا الصغار.
عمل عامر ماضي بعد تخرجه في القاهر، في الإذاعة الأردنية، بالقسم الموسيقي، غير أنه لم يستمر أكثر من عام وشهرين، فلقد غلبته روح الفنان، الذي يتمرد على رتابة الوظيفة، لذا استقال من الإذاعة، ودخل شريكاً مع صالح السقاف في مؤسسة « أضواء الفن « للإنتاج الفني، وقدم أعمالا موسيقية درامية للمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، للكبار والصغار. وكان له نشاط نقابي واضح، فقد عمل على تأسيس رابطة الموسيقيين الأردنيين، ونظراً للمكانة الفنية التي تمتع بها، وللمحبة الصادقة التي حظي بها، ترأس رابطة الموسيقيين منذ تأسيسها عام 1980، لمدة ست دورات متتالية، وقد تمكن خلال قيادته هذه الرابطة، من تحقيق مكاسب فنية ونقابية للموسيقيين الأردنيين، ووحد جهودهم للارتقاء بالمستوى الفني، ورعاية المواهب الجديدة، ودعمها من أجل رفد الساحة المحلية بأجيال جديدة من الموسيقيين الأردنيين.
لقد حقق ماضي جزءاً كبيراً من أحلامه، عندما أسس فرقة النغم العربي، وهي أول فرقة موسيقية غنائية، تعنى بالتراث الموسيقي، ولقيت هذه الفرقة نجاحاً ملحوظاً، منذ المهرجان الموسيقي الأول للرابطة عام 1982، وقد عمل بالتعاون مع زملائه، على تأسيس أوركسترا الأردن السيمفونية، بعد أن كانت حلماً بعيد المنال، وكانت ثمرة للتشارك بين رابطة الموسيقيين وقسم الموسيقى في جامعة اليرموك، حيث تكون جيل من الموسيقيين الأكاديميين الشباب، فقد ضمت الأوركسترا ما يزيد عن عشرين عازفاً، أما أوركسترا الصغار، فقد تشكلت من مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات إلى 16 سنة، لخلق أجيال جديدة من الموسيقيين الشباب، الذين يعول عليهم مستقبل الموسيقى في الأردن.
أسس عامر ماضي في مؤسسة أضواء الفن، فرعاً تربوياً، أطلق عليه اسم ( مركز دار الفن ) وكان لهذا الفرع نشاط موسيقي درامي، ارتبط إلى حد بعيد بالمسرح الأردني، بعد ذلك أطلق على هذا الفرع اسم ( مسرح الفوانيس ) وأصبح يضم كل من المسرحي خالد الطريفي، والمسرحي نادر عمران، والموسيقي عامر ماضي، وبادر أيضاً إلى تأسيس فرقة فوانيس للصغار على غرار الأوركسترا الأردنية، وقدمت هذه الفرقة مسرحيات للصغار، كان الدور الرئيسي فيها للصغار أنفسهم.
كان الفنان عامر ماضي، أبرز الناشطين على الساحة الفنية الأردنية في عصرها الذهبي، وكان صاحب رسالة سامية، لم يهدف من ورائها إلى مكاسب مادية، لقد كان فناناً أصيلاً بكل ما للكلمة من معنى، وكان مجدداً بوعي عميق، بالموروث الموسيقي العربي، وقد تتلمذ على يديه عدداً كبيراً من خيرة الموسيقيين الأردنيين، الذين حملوا راية الفن إلى آفاق المستقبل المشرق. لقد غادرنا عامر ماضي وهو في ذروة عطائه، حيث غيبه الموت المفاجئ من بيننا، فقد توفي في السادس عشر من شهر كانون الثاني عام 2009، وما زال مكانه شاغراً يؤكد على المساحة الكبيرة التي احتلها في الحركة الفنية الأردنية، وما زالت القلوب تجدد حبها له، فقد خلد اسمه بفنه الباقي، ومن خلال الأجيال التي أثر بها، ووضعها على سكة الإنجاز المتميز.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|