سعيد باشا المفتي |
يعد سعيد المفتي من الشخصيات الأردنية المميزة من الرعيل الأول التي كان لها دور بارز في مجمل الأحداث الهامة في تاريخ الأردن المعاصر ، أو تلك التي تركت بصمات واضحة في شتى ميادين العمل السياسي الأردني ، سواء أكان عضواً في المجلس التشريعي ، أم نائباً في مجلس النواب ، أم وزيراً ، أم رئيساً للوزراء ، أم مواطناً عادياً كزعيم للشركس في الأردن.
ولد في عمان في عام 1898 وهو ينتمي إلى اسرة حبجوقة التي تنتمي بدورها إلى قبيلة القبرطاي ، ولكن لقب "المفتي" أصبح الكنية المعروفة للأسرة ، نسبة إلى جده سعيد الذي كان رجلاً كبيراً في قومه وقاضياً واسع النفوذ في المقاطعات الشركسية من بلاد القوقاز ، يتولى القضاء والإفتاء.
وقد كان مولده بعد وصول الأسرة إلى عمان بسنة واحدة ، حيث كان والده محمد أفندي رجلاً متعلماً ، تولى وظيفة مدير ناحية وقائم مقام في الأردن أيام الدولة العثمانية ، وكان صاحب أملاك وعقارات ، ومن هنا حرص على تعليم ابنائه. وقد تلقى المفتي دراسته الابتدائية في كتاتيب عمان ، ثم تابع دراسته الثانوية في المدرسة السلطانية "مكتب عنبر" بدمشق ، وكان من زملائه فيها صبحي أبو غنيمه ، وخلف التل ، وجلال القطب ، وتوفيق النجداوي ، وفي دمشق تعلم اللغة التركية.
كان المفتي يعتزم إتمام دراسته العليا في استانبول ، إلا أن وفاة والده في عام 1917 اضطرته إلى قطع الدراسة والعودة في العام التالي إلى عمان ، فقد كان كبير اخوته ، وكان لا بد له من تحمل مسؤوليات الأسرة والإشراف على أملاكها ، وقد ظهر توجهه السياسي منذ أيام الدراسة في دمشق ، إذ عثرت إدارة المدرسة على رسالة منه إلى أحد رفاقه ، تحدث فيها عن ظلم الحاكمين وسوء إدارتهم فألقي القبض عليه وبقي ثمانية عشر يوماً رهن التحقيق.
ورث سعيد المفتي عن أبيه مكانة اجتماعية مرموقة بين الشراكسة الذين كانوا يؤلفون معظم سكان بلدة عمان ، وكان لدراسته في دمشق أثر في تعزيز تلك المكانة. بل كان لتلك الدراسة أثر في توجهاته الوطنية والسياسية ، وقد برزت تلك التوجهات في تموز 1920 عندما عقد الملك فيصل عزمه على مقاومة الفرنسيين ، وخرجت النداءات من دمشق تدعو الأهليين إلى مقاومة الأعداء.
ففي تلك الأزمة الخطيرة زحفت قوة من أبناء العشائر بزعامة شيخ البلقاء سلطان العدوان وقوة أخرى من الشراكسة على رأسها ميرزا باشا وسعيد المفتي ، ووصلت القوتان إلى قرية المزيريب "قرب درعا" ، وهناك عرف القوم ما اسفرت عنه معركة ميسلون ، فعادوا أدراجهم. وعلى الرغم من أن سعيد المفتي كان ما يزال في الثانية والعشرين من عمره ، إلا أنه انتخب في آب 1920 ليمثل عمان في مجلس الشورى الذي تألف في فترة الحكومات المحلية ليساعد متصرف السلط في إدارة شؤون قضاء البلقاء ، لم يلبث الأمير عبدالله بن الحسين أن قدم من الحجاز إلى معان في أواخر شهر تشرين الثاني 1920 ، وأعلن أنه جاء ليتولى قيادة حركة المقاومة ضد الفرنسيين.
وسارع الوطنيون والأحرار لتأييد حركة الأمير والالتفاف حوله ، وكان سعيد المفتي في طليعة الذين بادروا إلى إعلان موقفهم المؤيد للحركة ، وقد تحدث المفتي عن تلك الفترة بقوله: بعد انتهاء الدولة الفيصلية عاشت شرقي الأردن في فوضى ، وفي ذلك الجو من الانقسام والحيرة المسيطرة علينا ، أرسلنا برقيات للشريف حسين نطلب منه أن يرسل أحد أنجالة لينقذنا من ذلك الوضع الصعب.
وسمع بطلبنا هذا ضابط بريطاني هو الكابتن برانتون ، الذي كان ينزل مع مفرزة من الجنود البغالة بجوار قلعة عمان ، فدعانا إلى مقره ، وكان من جملة الذين دعاهم واذكرهم الآن سعيد خير وطاهر الجقة ، وهددنا بصورة رسمية بأن لا نتصل بالحجاز مطلقاً" ، ولكننا رفضنا طلبه ولم تُجدً معنا تهديداته ، وفي اليوم التالي قمنا بمظاهرة احتجاج على برانتون ، وكانت النتيجة أنه غادر عمان مع مفرزته عائدين إلى اريحا.
وعند وصول الأمير عبدالله إلى عمان في بداية آذار 1921 ، كان سعيد المفتي في طليعة مستقبليه ومؤيديه ، بل أن الأمير أقام أياماً في منزله ، وقد تحدث معالي الدكتور فيصل الرفوع قائلاً :"اعتقد أن الجاهل لتاريخه كالجاهل لأباه وبالتالي لا بد من إعطاء هؤلاء الناس الذين بنوا الوطن العزيز والذي نتفيأ بظلاله وهو واحة أمن واستقرار في المنطقة كلها لا بد أن نستذكرهم ونجل وقفاتهم وعلى رأسهم دولة المرحوم سعيد باشا المفتي والذي مهما قلنا في إيجابياته لن نوافيه حقه فهو الآن في ذمة الله نسأل الله له الغفران ونسأل الله أن يدخله فسيح جناته".
وأضاف قائلاً: عندما جاء الأمير عبد الله الأول إلى الأردن لم تكن الأردن نهاية طموحه ، بل كان يريد إعادة ملك أخيه الملك فيصل وكان الأردني عبارة عن مرحلة لإعادة توحيد على الأقل أسيا العربية أو على الأقل سوريا الكبرى بما فيها العراق ، لكنه بكل أسف المؤامرات البريطانية والخطوط البريطانية والصهيونية أوقفت هذه الأحلام والطموحات المشروعة للهاشميين بقيادة الملك عبد الله الأول المؤسس عند حدودها لو أخذنا سيرة هذه الرجل فهو من الأعلام القلائل الذين ساهموا في تأسيس الدولة الأردنية وأنا أختلف مع أخي حين يقول زعيم شركسي هو ليس زعيماً شركسياً فحسب بل هو زعيم أردني عربي وبالتالي يجب أن نصف هذا الرجل أنه لم يكن يتحدث باسم الشراكسة كان يتحدث باسم الأردن ، ولم يكن يدافع عن الشراكسة بل كان يدافع عن الأردنيين حين صارع البريطانيين فيما يتعلق بالمعاهدة وحين رفض التوقيع على أي صلح مع إسرائيل وحين وقف مواقفه القومية المميزة ، فدولة سعيد باشا المفتي كان من مؤسسي حزب الشعب الأردني في آذار في سنة 1927 ، ولم يحضر جلسة مجلس المستشارين أو المجلس التشريعي للموافقة على المعاهدة الأردنية البريطانية التي وقعت سنة 1928 ، لأنه يرى من وجهة نظره بأن هذه المعاهدة مجحفة بحق الأردن كوطن وبحق أجيال الأردن ، فلم يحضر الاجتماع هو وأربعة نواب.
وقد بدأ حياته مبكراً بالحراك السياسي فقد كان أحد أعضاء مجلس النواب الأردني ، وشارك في معظم الوزارات ، وكان يدافع ويستطيع أن يتخذ القرارات التي لم يكن غيره يجرؤ على اتخاذها وكان ذا بعد نظر خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع بريطانيا والصلح مع إسرائيل.
ويضيف الدكتور الرفوع قائلاً: ماذا تقول عن رجل أسس الحزب الحر المعتدل في 1930 ـ 6 ـ 24 ، لم يكن يتجاوز عمره 32 سنة ، وكان عضواً فاعلاً في المؤتمر الشعبي لعام 1933 وكان من أشد المعارضين ليس لأجل المعارضة بل من أجل مصلحة الوطن وقضاياها في حكومة إبراهيم هاشم.
لقد اكتسب المفتي خبرة كبيرة في مجال السياسة وإدارة شؤون الحكم ، ومن هنا أسندت إليه رئاسة الوزارة الأردنية في نيسان 1950 ، لتكون أولى وزاراته الأربع التي ألفها في عقد الخمسينات ، تقلد سعيد المفتي العديد من الوزارات استمرت من نيسان سنة 1950 إلى حزيران سنة 1956 فهناك أربعة وزارات شكلها سعيد المفتي ، هذه الوزارات تم تشكيلها في ظل ظروف مميزة من تاريخ الأردن.
وقد أضافت السيدة جانيت المفتي في حديثها كان والدي كغيره من رجال الرعيل الأول ، كان عنده وطنه أولاً ، كان هؤلاء الرجال مدركين أطماع الصهيونية ، وأطماع الإنجليز في المنطقة كانت له مقولة مشهورة "تقطع يدي ولا أعقد صلحاً" كان لها ردود فعل كثيرة وقوية. ووصفه هزاع المجالي ، فقال أنه كان: "يشكل عنصر طمأنينة بالنسبة للجميع شأنه في كل الحكومات التي ألفها ، وهو يمتاز بطيبة وبساطة تقربانه للنفس ، كما أن بيته ومكتبه مفتوحان للجميع.
غير أنه يمتاز كذلك بقابلية عجيبة للأنفلونزا ، وكثيرا ما كانت تقعده هذه الوافدة - لا سيما في أيام الشتاء - عن العمل...".
وقد وصفت جانيت المفتي والدها: كان والدي خير رجل ، حكيماً ، كان مقلا بالكلام يضع الكلمة في مكانها وكان عاطفياً حريصاً ، الشيء الوحيد الذي استأسف عليه كان استشهاد ابنه عزمي وهذه أشعلته حزنا عليه. كما وصفه النائب الدكتور روحي شحالتوغ قائلاً: شخصيته المسلكية هي طبق الأصل عن شكله وشخصيته كان وسيماً طويلاً ، عريض المكنبين ، أبيض الوجه ، مهيب الجانب وأيضاً في مسلكية.
عاش سعيد المفتي حياة طويلة عريضة ، حياة حفلت بكل ما يمكن أن يقدمه بلد كالأردن من جاه ورفعة شأن ومكانة ، ومجالات للخدمة العامة. تسلم من المناصب ما يبلغ أقصى حدود الطموح: وزيراً ، ورئيس وزراء ، ونائباً ، ورئيساً لمجلس النواب ، وعيناً ، ورئيساً لمجلس الأعيان ، وعضواً لمجلس أمناء الجامعة ، ورئيساً له.
وفي جميع المناصب التي شغلها ، كان الإنسان العالي الجناب ، عنصر طمأنينة وثبات ، حائزاً على ثقة الجميع واحترام الجميع. كان شأنه في دنيا السياسة كشأنه في حياته العادية: اعتدال في المواقف ، واحترام للمثل ، وتمسك بالمبادئ والقيم ومكارم الأخلاق ، والبعد عن كل ما يشين.
اعتزل الحياة السياسية في عام 1974 وهو في السادسة والسبعين من العمر ، وأمضى السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته ، بين أهله وأحبائه وأصدقائه ، موضع التجلة والاعتبار ، يعتبر سعيد المفتي واحداً من أبرز رجال الحكم والسياسة الذين عرفهم الأردن فقد كان حقاً في طليعة أبناء الأردن الذين يفاخر بهم الوطن ، رجل مبادئ ومثل وقيم ، تكاد لا تمسُّ سيرة حياته شائبة ، وتكاد لا تجد بين معاصريه إلا من يشيد بمناقبه ومزاياه ، تغمد الله فقيد الأردن الكبير دولة المرحوم سعيد باشا المفتي بواسع رحمته ورضوانه واسكنه فسيح جناته.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|