‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1920. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات 1920. إظهار كافة الرسائل

سليمان الموسى .. أول من أرخ للأردن

|0 التعليقات
سليمان الموسى
يعد الحديث عن سليمان الموسى حديث عن أحد الرجالات الأردنيين الأعلام الذين أخذوا على عاتقهم دراسة التاريخ الحديث والمعاصر وأمضوا الكثير من الوقت وبذلوا الكثير من الجهد في البحث عن المعلومة التي تحسب للوطن ولتاريخه وأمجاده ويعد الموسى أول مؤرخ أردني يكتب عن الحكومات المحلية وكان رائداً من رواد الكتابة في مجال التاريخ معملاً لفكره وعقله في كتاباته. ناذراً قلمه من أجل وطنه وأمته إلى أن تبوأ مكانة مميزة في مصاف المؤرخين والباحثين.

ولد سليمان الموسى في قرية الرفيد إلى الشمال من مدينة إربد وذلك سنة 1920 في أسرة ريفية متوسطة الحال ، وكان والده مولعاً بالمطالعة وكان ينفق ماله لكي يستعير الكتب من أي جهة تتيسر له حتى يستمتع بقراءة الكتب وقد ورث سليمان عن والده مجموعة صغيرة من الكتب كانت بداية لتولعه بالقراءة والمطالعة ، وكان مغرماً بقراءة الروايات والقصص الشعبية والشعر.

وحاله حال أطفال القرية الآخرين فقد ذهب لكتّاب لتلقي دراسته على يد شيخ القرية ثم تابع دراسته في مدرسة الطوائف المدارس الأهلية بعدها انتقل إلى مدرسة الحصن وهناك أنهى الابتدائية ثم عين مدرساً في مدرسة القرية لمدة سنتين ، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة يافا وكانت وقتها مدينة الثقافة والصحافة ، حيث كانت هناك تصدر المجلات والصحف والكتب وقد نشر عدداً من المقالات والقصص في جريدة فلسطين وفي مجلة الفجر.

وهناك تحول سليمان الموسى من كتابة القصص والروايات إلى كتابة سيرة الحياة والتاريخ من خلال تأليفه لكتاب (الحسين بن علي والثورة العربية الكبرى) وفي ذلك يقول سليمان الموسى: لا أدري كيف تحولت من كتابة القصة والرواية إلى كتابة التاريخ وسيرة الحياة يبدو لي أن العلاقة بينهما وثيقة جداً لأن التاريخ وسيرة الحياة ليست سوى قصة أناس حقيقيين عاشوا وتركوا أثراً في المحط الذي عاشوا فيه.
http://figuresjo.blogspot.com/2011/12/suleiman-mousa-first-chronicled-for.html
وكان المؤرخ سليمان الموسى على معرفة واطلاع كبير باللغة الإنجليزية وآدابها فخلال أيام الحرب العالمية الثانية أتيح له مجال واسع للمطالعة فقد قرأ لشكسبير ووالتر سكوت وبرناردشو وهربرت ج ويلز وماري كورديللي وتولستوي وسومرست هوم وهمنجواي وغيرهم وقد أتاح له اطلاعه على اللغة الإنجليزية التعرف على تيارات الثقافة العالمية قديمها وحديثها.

وفي عام 1957 انتقل سليمان الموسى إلى عمان ليعمل موظفاً في الإذاعة ولكنه أدرك أن العمل في الإذاعة لن يتيح له المجال للكتابة بعد ذلك رحب بالعرض الذي كان قد قدم له وهو أن انتقل إلى دائرة المطبوعات والنشر لكي يعمل في تجهيز مجلة "رسالة الأردن" ثم نقل إلى وزارة الإعلام ليعمل مستشاراً ثقافياً وانتقل عام 1979 إلى وزارة الثقافة والشباب ليعمل في المنصب نفسه.

وكان للمؤرخ الكبير سليمان الموسى كماً ضخماً من المؤلفات المهمة التي بقيت شاهداً على العصر ، فقد ألف كتاب "تاريخ الأردن في القرن العشرين" وذلك بالاشتراك مع منيب الماضي وقد بدأ بجمع وتوثيق تاريخ الأردن وكان الدافع لتأليف هذه الكتاب هو شعوره بالنقص الشديد في مصادر المعلومات بالنسبة للأردن وأصبح هذا الكتاب مرجعاً مهماً أفاد من كثير من المؤلفين والباحثين والدارسين من العرب والأجانب الذين كتبوا عن الأردن وتاريخه ويتناول الكتاب تاريخ الأردن من أواخر العهد العثماني حتى سنة ,1959

ويضيف المرحوم سليمان الموسى قائلاً: لقد قمت بتأليف كتاب "لورنس العرب" كردة فعل على اسطورة لورنس العرب الذي كان ضابطاً بريطانياَ اشترك في عمليات الثورة العربية عضواً في البعثة العسكرية البريطانية ولكنه كان موهوباً فكتب كتاباً شهيراً بعنوان "أعمدة الحكمة السبعة" والذي يعتبر من روائع الأدب الإنجليزي. وكان لورنس موهوباً في فن الدعاية فعمل على تضخيم دوره في الثورة وجاء مؤلفون إنجليز وأمريكان فصوروه بصورة القائد والبطل وزعموا أنه تولى قيادة العرب في ميدان القتال وانتشرت تلك الأسطورة وذاعت على حساب العرب ولم يتصدى أحد من العرب لذلك. فقمت بدوري بالاطلاع على المؤلفات العربية والغربية الكافية عن لورنس واعتزمت أن أسد النقص الفادح غيرة مني على قومي وتاريخهم وجهادهم وعمدت إلى جمع المصادر العربية وقمت بأسفار واتصالات حتى استوفيت الموضوع وكتبت كتابي ونشرته ولكني رأيت أن كتابي سيبقى كصرخة في وادْ إذا بقي في النطاق المحلي العربي المحدود وأني إذا أردت أن أسمع صوتي لمن يجب أن يسمعوه عليّ أن أسعى إلى ترجمته.

وهكذا تولى يومها الدكتور البرت بطرس ترجمته إلى ألإنكليزية وكان من حسن الحظ أن دار أكسفورد للنشر اللندنية وافقت على نشره بالإنجليزية. وقد قوبل الكتاب باهتمام كبير من قبل الصحافة في جميع الأقطار الناطقة بالإنجليزية وقد طبع طبعة ثالثة بالإنجليزية في أمريكا ثم قامت دار سندباد في باريس بترجمته إلى الفرنسية ونشرته عام 1973 كما ترجم إلى اللغة الألمانية بالإضافة إلى ذلك قام سليمان الموسى بكتابة سير حياة أشخاص أردنيين وعرب كان لهم دور كبير في صنع حرية العرب منهم عودة أبو تايه ، وأحمد مريود ، وفؤاد سليم ، والشريف ناصر بن علي ، وصبحي العمري ، وظاهر العمر الزبداني ، ومحمد علي بدير ، ووصفي التل وغيرهم.

وقد قام مؤرخنا العظيم بجمع وتوثيق المراسلات التاريخية والتي تضم وثائق مستقاة من مصاردها الأصلية سواء أكانت عربية أم أجنبية وتعد مرجعاً لأي باحث أو إداري وتعطي صورة واضحة لمجرى الأحداث السياسية التي ساهمت في قيام الثورة العربية الكبرى. وما حدث أيام الحرب العالمية الأولى وغيرها الكثير.

ويضيف قائلاً: أما كتابي "صفحات مطوية" ، فيتحدث عن المفاوضات والمعاهدة بين الشريف حسين وبريطانيا ويقدم تفاصيلاً للمراسلات والمباحثات التي دارت حول وعد بريطانيا للعرب ، ومطالبة الشريف الحسين بتنفيذها ، كما يضم نصوص مشاريع المعاهدات بين الفلسطينيين والأردنيين.

وكتاب "وجوه وملامح" فقد ضم فصولاً عن رجالات كان لهم دور سياسي وثقافي وفكري هام مثل علي خلقي الشرايري ، وعوني عبدالهادي ، ومحمد الشريقي ، وفايز الغصين ، وعارف العارف ، ومحب الدين الخطيب ، ويعقوب العودات ، وإسكندر الخوري البجالي.

وقد ألف وترجم عدداً من الكتب المتعلقة بالسير الذاتية والتاريخ والتوثيق.

ويتابع قائلاً: لقد عملت خلال وظيفتي في وزارة الإعلام والمطبوعات والنشر وكمستشار العديد من الأعمال حيث توليت تحرير مجلة "رسالة الأردن" لحوالي خمس سنوات وكتبت فيها عدة أبحاث ، كما توليت تحرير مجلة أفكار التي تصدر عن وزارة الثقافة كما توليت مسؤولية إصدار الكتاب السنوي الرسمي وتحرير مجلدات وثائقية عن الأردن إضافة إلى أنني توليت الإشراف على كتاب "تراجم الشخصيات الأردنية".

وهناك الكثير من المؤلفات الأخرى وقد وصف مؤلفاته بأنها من النوع النفيس ولا مجال للاستغناء عنها وقد راعى في تأليفه لكتبه دقة البحث والاستقصاء والمقارنة والقياس والاستنتاج الذي هو حصيلة التدقيق والتحقيق.

ناهيك عن ذلك فقد أمضى سليمان الموسى السنوات الكثيرة وهو يجمع الوثائق ويقرأ الوقائع في الكتب والمذكرات والصحف والملفات العربية والإنجليزية والأمريكية ويناقش الوقائع من خلال مقابلاته مع السياسيين والعسكريين الذين عاشوا تلك الفترة.

يسجل للمؤرخ الراحل سليمان الموسى بأنه من العصاميين القلائل في بلدنا الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تعليم أنفسهم بأنفسهم فهو لم يتعلم في جامعة أو معهد وبالرغم من ذلك فقد ألف مؤلفات ومراجع لا يمكن الاستغناء عنها.

وظهر لدى سليمان الموسى الأسلوب الجميل في كتابة التاريخ بحيث يجعل القارئ يستمر في قراءة مؤلفاته وكأنما يقرأ قصة تاريخية. لقد أثرى الجوانب المضيئة من تاريخ الأردن الحديث.

ويسجل له أيضاً بأنه علم ثقافي كبير أغنى الثقافة العربية بالمؤلفات المهمة التي دارت حول التأريخ للأردن منذ بدايات قيام الدولة بمنتهى المصداقية وبصماته واضحة في إنارة الطريق للأجيال القادمة.

وقد كُرم من جلالة الملك الحسين عام 1971 فمنحه وسام الاستقلال من الدرجة الثانية ، وجاء هذا التكريم "تقديراً لجهود كاتب أردني تميزت مؤلفاته بالدقة والأصالة" وفي الأيام الأخيرة من حياته قررت جريدة الدستور المتألقة دائماً تكريم المؤرخ سليمان الموسى إلا أن القدر حال دون حضوره حفل التكريم بيوم واحد ، وكان شعار المؤرخ الراحل: اعمل بإخلاص وتفان وأعط أحسن ما لديك دون الالتفات للترهات.

وهكذا فقد أغنى الراحل العظيم سليمان الموسى المكتبة العربية بسلسلة من الكتب التاريخية والدراسات والرحلات والسير الشخصية التي تناولت مختلف جوانب الحياة الأردنية.

معالي الأستاذ أحمد الطراونة ... رجل الدولة والقانون

|0 التعليقات
أحمد الطراونة
تاريخ أية أمة من الأمم هو مستودع ذكرياتها ، ومخزونها الوطني القومي والتراثي تعود إليه شحذاً للهمم ، ووصلاً لحاضرها بماضيها ، من أجل بناء مستقبل أفضل ، إغناء لمسيرة الوطن ورفداً لها.

فالحديث عن الرعيل الأول ، يعطي صورة مشرقة عن كوكبة من رجالات الأردن الأوفياء الذين رافقوا المغفور له عبدالله الأول منذ تأسيسه إمارة شرق الأردن ، ومن بعده الملك طلال ونجله الملك الحسين بن طلال طيّب الله ثراه ، إنه حديث عن رجال عظام كان عطاؤهم موصولاً ، عن رجال كان العمل العام بالنسبة إليهم هدفاً سامياً ، خدمةً للوطن والأمة لا لتحقيق منافع خاصة. إنهم رجال كان استشراف المستقبل هماً يؤرقهم ، وإن كنا نكرمهم بقراءة سير حياتهم ، فإنما نحي قيماً وأخلاقاً حميدةً كانت عنوان تعامل رجالات الأردن الكبار ، وإن كنا اليوم نذكر أياديهم البيضاء ، فإنما نفعل ذلك لأننا تعلمنا في مدرسة الملك عبدالله الثاني معنى الوفاء لرجال كان شعارهم دائماً أن الأردن أولاً ، وانطلقوا بعدها لأفق أوسع ، حين حملوا هموم أمتهم العربية ، ودافعوا عن قضاياها. وإذا كنا نقرأ سيرة حياة أحمد الطراونة ، فإنما نقرأ به أيضاً سيرة غيره من الكواكب التي أضاءت سماء الأردن ، على امتداد تراب هذا الوطن الغالي.

وعندما يتصدر الإنسان المواقع الفكرية أو التشريعية أو الثقافية المتقدمة أو عندما يتولى المناصب السياسية العليا ، ويشارك في صنع القرارات التي تترك أثرها وتفاعلاتها على صعيد الأداء الوطني ، أو عندما تتاح له ظروف حياتية تمكنه من تقديم خدمات جليلة لبلدة تضاف إلى حصيلة الجهد العام الذي تقوم به القيادة والشعب معاً.

وللحديث عن أبرز رجالات الرعيل الأول ، السياسي الأردني الكبير ، معالي الأستاذ أحمد الطراونة والذي أمضى نصف قرن من عمره في المواقع القضائية والتشريعية والإدارية والسياسية المتقدمة ، ومما يميز أحمد الطراونة هو اعتماده الدستور كمرجعية أولى وأخيرة للفصل والعقد والحل ، فهو حارس الدستور بامتياز ، واليد الأمينة التي ظلت تحمله وتفتحه ، حينما تختلط الأوراق وتستجد الحوادث.

لأحمد الطراونة مواقف مشهود له بها ، نستحضرها دائماً حين نبحث في تاريخ الأردن ، ومنتجات الولاء ، عن رجال صادقين يحترمون أنفسهم ويحرصون على قيادتهم ووطنهم دون انتظار غنيمة أو مصلحة.

ولد أحمد الطراونة في الكرك العام 1920 وتوفاه الله العام 1998 ، وكان في منطقة المزار الجنوبي مضارب الطراونة في قرية اسمها رجم اصخري وتحولت الآن إلى الحسينية ، وهي منطقة إلى الجنوب من المزار ، وهناك تسكن عشيرة الطراونة فبقي العام الأول من عمره هناك ثم توفيت والدته. أما والده فقد كان جابياً وفي حالة من الحركة والترحال. وبعد وفاة والدته بقي عند جدته وهذا لم يولد لديه أي نوع من الحرمان ، لأن الأطفال عندما يلعبون يجدون الأم آخر النهار تأويهم وهو يحتار أين يذهب عند عماته أو خالاته. وهذا ولّد عنده نوعاً من الحنان لأنه سُلب منه وربما يعوضه للآخرين ، أو لنفسه إلى أن انتقل والده إلى مدينة الكرك. وكانت هناك مفاضلة بينه وبين عم له في نفس السن ، من يذهب منهم إلى مدرسة الكرك. فذهب أحمد الطراونة إلى الكرك والتحق بالمدرسة إلى أن وصل الصف السابع ، وبعد ذلك انتقل إلى مدرسة السلط الثانوية ، ثم انتقل إلى دمشق مباشرة لدراسة القانون ، وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات من 1939( - 1942م) وكانت الأوضاع في دمشق حرجة خلال فترة الحرب العالمية الثانية ، وسقوط الحكومة الفرنسية على أيدي النازيين ثم دخول الإنجليز في المعادلة. وبعد أن أنهى الدراسة في دمشق عاد إلى عمان ، وكان يقيم في فندق فلسطين ويقول أحمد الطراونة في مذكراته إنه وجد برقية من وزارة العدل وكان وكيل وزارة العدل آنذاك سمير الرفاعي أبلغه فيها أنه تم تعيينه قاضياً في الطفيلة.

ومن هناك بدأت معاناة القاضي الذي يعيش محترماً للقانون معلياً لرايته ، عاش في ذلك المجتمع ، يطبق القانون محافظاً على استقلاله إلى درجة أنه كان يرفض التدخل في القضاء من قبل أية جهة كانت ولا يقبل إلا الجهة التي من حقها أن تراجع قراراته. وفي هذا الميدان ورد في مذكرات أحمد الطراونة حادثةً كانت لها دلالة كبرى على مدى احترامه لاستقلال القضاء فقد جاء أحد رجال السلطة التنفيذية ليفتش على قضية من قضاياه فرفض ذلك ، وقال إن هناك استقلالاً يحمي القضاء من تدخل أية جهة ، وإذا شئت أرسل التفتيش من وزارة العدل ، وعندما جاء التفتيش وجد أن ما قام به معالي أبو هشام سليماً وصحيحاً. وفي ذلك ما يدل على احترامه لاستقلاليته وكما ورد في مدونة قواعد السلوك القضائي في المادة الأولى ، التي قدرها المجلس القضائي أن على القاضي أن يصون استقلاله بذاته ، وأن ينأى بنفسه عن قبول أي تدخل أو مراجعة من السلطات الأخرى التي ينظرها. وأن يتذكر ألا سلطان عليه في قضائه لغير القانون وفي هذا إعلاء لراية القانون الذي كان يحترمه أبو هشام والذي قضى حياته لأجله ، ورفع أبو هشام منذ بداية عمله قاضياً في الطفيلة ميزان القانون وتحمل من أجل الالتزام به إحراجات وافتراءات كثيرة من بعض الأشخاص الذين لم يكن يروق لهم هدوء أبو هشام واستقلاليته وتطبيقه للقانون فكانوا يدفعون ببعض الأشخاص للشكوى عليه وكثيراً ما أشار لذلك في مذكراته. لكنه بقي يذكرنا بمعنى الحفاظ على هيبة الدولة والحفاظ على هيبة القضاء الذي ينتمي له. ومن هنا بدأت نشأته في تكوين شخصيته القانونية رغم ظروفه الحالكة ظروف المرض التي مرت به في بداية حياته لكنه وقف قوي الشكيمة لا تأخذه لا في المرض ولا في أي شيء سمة من سمات الضعف.

وبقي كذلك إلى أن انتقل ليمارس عملاً آخر اختاره له سمو الأمير عبدالله ، واقترح عليه سمو الأمير ممارسته ألا وهو النيابة فكان مهيئاً للعمل في النيابة والتشريع. تلك البنية الأساسية التي بناها لنفسه. ويذكر في مذكراته ويقول: تعلمت من القضاء أن استند في قراراتي إلى القانون والتقاليد والإحساس بالعدالة وحسن استقبال صاحب الحاجة والإصغاء له جيداً واستيعاب ما يقول ، لأنه ليس بإمكان الإنسان الإفصاح عن قضية إلم يكن لديه الوقت الكافي لشرحها هذه القاعدة التي أرساها أبو هشام. الحقيقة أن من وضعوا مدونة قواعد السلوك قد ثبتوها في المادة رقم (30) من تلك المدونة وهي تقول ذات ما قاله ابو هشام تقول المادة: "أن على القاضي المحافظة على هيبة المحكمة أثناء المحاكمة ويتعين عليه بأي حال أن يكون صبوراً وقوراَ حسن الاستماع. دمث الأخلاق في تعامله مع الخصوم يتمتع باحترام الذات وقوة الشخصية وسمو الشعور وأن يعزز بسلوكه ومظهره ومنطقه في المحاكمة وخارجها ثقة عامة الناس بنزاهته ونزاهة النظام القضائي لا تحيز أو تعصب عنده في المعاملة" تلك القاعدة التي قالها أبو هشام تبناها واضعو مدونة سلوك القضاء وكان قد تبناها قبل ذلك بما يزيد على نصف قرن كان مثالاً للقاضي الذي يحترم قضاءه ، يحترم استقلاله وكان لا يأخذه في الحق لومة لائم.

وعندما نتحدث عن تاريخ الأردن يرتبط ذلك التاريخ بالرعيل الأول بسمير باشا الرفاعي الذي شارك في تأسيس الدولة الأردنية حيث اشترك أحمد الطراونة مع سمير باشا الرفاعي في وضع دستور جديد للأردن بعد قرار الوحدة مع الضفة الغربية وكان هذا الدستور ينسجم مع الوضع الجديد للدولة الأردنية.

وتحدث دولة زيد الرفاعي عن بدايات معرفته بأحمد الطراونة قائلاً: "كان المرحوم أبو هشام أخاً وصديقاً لوالدي كان كذلك أخاً وصديقاً وجاراً للعم المرحوم بهجت التلهوني. فتعرفت على أبي هشام لأول مرة وأنا في مقتبل العمر وكان يزور والدي دائماً وكنت أجلس وأسمع حديثهم وأتتلمذ على أيديهم ، كنت أحترمه وأقدره وأعتبره بمثابة الأخ الكبير ومرت الأيام وتزاملنا بالعمل في الديوان الملكي الهاشمي ثم في مجلس الأعيان ، أما ما يتعلق بالدستور فعُرف عن أبي هشام الكثير. عُرف عنه ولاؤه المطلق للعرش الهاشمي وأنتماؤه الحقيقي للأردن ولكن عندما نتحدث عن الدستور فحدث ولا حرج فكان موسوعة دستورية كان يلتزم بالدستور نصاً وروحاً يحفظ الدستور عن ظهر قلب. يحفظ كل مادة برقمها ونصها ومضمونها وأصلها وحيثياتها ويقارنها مع المواد المماثلة في الدساتير العالمية الأخرى وكان دائماً يكون لنا سجالات طويلة وأحاديث. ومع أن المرحوم أبا هشام لم يكن متزمتاً بل كان مرناً يستمع باهتمام للرأي الآخر ويقبل الحوار إلا بما يتعلق بالدستور لا يوجد مجال للمناقشة فيه. وشكلت لجنة في بداية الخمسينيات لوضع الدستور الأردني الجديد. وصدر دستور للأردن العام 1947فور الاستقلال وثم صدر دستور آخر وهو الدستور الحالي للمملكة في العام 1952 وهو من أفضل الدساتير في العالم ليس فقط في البلاد العربية.

ويضيف دولة زيد الرفاعي قائلاً: "عمل الوالد والمرحوم أبو هشام على وضع الدستور بصيغته الحالية وبالتالي كان يعتبر الدستور كأنه ابنه يحضنه ويرعاه ويحافظ عليه ويصونه ولا يسمح بالمساس به بأي شكل من الأشكال.

وتحدث دولة أحمد اللوزي عن علاقته بأحمد الطراونة قائلاً:"من حسن حظي أنني كنت مساعداً لرئيس التشريفات الملكية في القصر الملكي العام 1953 وكنت على اتصال ومراقباً للأحداث. فقد استشهد الملك المؤسس ، وتمت المناداة بالملك طلال واضع الدستور ثم المناداة بجلالة الملك الحسين وكان رجالات الدولة بدءاً برئيس الوزراء إلى رئيس الأعيان ورئيس النواب يقدمون للديوان الملكي. للتشرف بلقاء جلالة الملك بمقابلات اعتيادية أو شهرية وأحياناً أكثر فكنت التقي مع معالي أبي هشام فقد كنّا متقاربين في السن. أبو هشام من مواليد العام 1920 وأنا من مواليد 1925 ، وكذلك كانت النشأة واحدة. وقد كانت الحياة قاسية وصعبة. الناس يتحملون شقاء العيش ، والبرد والشتاء ، والجوع والعطش كلها أمور تمر بحياة الإنسان دون أي حرج. فنشأت بيننا علاقة صداقة حميمة ، وكذلك كان من حظي أنه عندما عُين لأول مرة رئيساً للديوان الملكي وكنت رئيساً للتشريفات بصلة متواصلة من 1953( - )1960 بعد استشهاد المرحوم هزاع المجالي عُين دولة بهجت التهلوني رئيساً للوزراء وعُين أبو هشام رئيساً للديوان الملكي ، واستمريت معه أكثر من عام إلى أن استقلت وترشحت للنيابة عن منطقة عمان في دورتين. كنت أراقب حتى مناقشات الوحدة "وحدة الضفتين" وكان لأبي هشام مداخلة بالفعل خيرة فقال: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا. اعتبر أن الأردن وفلسطين شقيقين الجناح الغربي ، والجناح الشرقي وأن الله جمع بينهما على الخير وعلى الوحدة وعلى المصير المشترك وكان ابو هشام في هذه الزاوية بالذات بالفعل يؤمن بالمهاجرين والأنصار إيماناً بالغاً ولم يكن لا اقليمياً ولا عشائرياً بل هو مع هذه المملكة ورسالتها رسالة الثورة العربية الكبرى رسالة الوحدة ، وكانت إمارة الشرق العربي وبعدها تطورت إلى مملكة نتيجة جهاد الملك عبدالله الأول المؤسس ونتيجة جهاد الشعب الأردني. الذي وحد هذه القيادة الموصلة إلى الخير ، خير الدنيا والآخرة بشكل لا يتصوره العقل من حيث السير الحثيث والتقدم والنهضة العلمية والنهضة القضائية والنهضة التنموية. والحمد لله كانت علاقتي بأحمد الطراونة باستمرار قوية وأذكر مقولة له كان دائماً يقولها عندما تزاملنا في الأعيان وتزاملنا في المجلس الوطني الاستشاري هي:"أنا صديقي أحمد اللوزي لكن عدوي رئيس مجلس الأعيان لأنه عندما كنت أطرح القضية وينشأ القرار يصبح القرار قرار مجلس ، فهو يداعبني يقول أنت صديقي لأبعد الحدود. لكن عندما تكون رئيس أعيان وأحياناً تأتي ببعض الأفكار أنا أخالفك وأنا بالفعل أسعد بهذه المخالفة لأنه كان أستاذنا في هذا الموضوع وتزاملنا في المجلس الوطني الاستشاري وأنا رئيس المجلس الأول وهو رئيس المجلس الثاني واستمرينا في الأعيان منذ العام 1984 إلى العام 1998 زملاء دون انقطاع. وكان النائب الثاني لرئيس مجلس الأعيان وأحياناً النائب الأول وتزاملنا في معية دولة زيد الرفاعي وكل رؤساء الوزارات الأردنية ، وهذه فترة بالفعل نعتز بها واشهد أن دستورنا الأردني الذي أخذناه عن دستور الملكية في مصر والذي أخذته مصر عن بلجيكا وأخذته بلجيكا عن أعظم تقاليد الديمقراطية والبرلمانية البريطانية التي هي أساس الديمقراطية في العالم.

وقد تحدث دولة د. فايز الطراونة عن شغف والده بالمشاركة بالحياة البرلمانية قائلاً: هواه دائماً كان مجلس النواب ربما لأنه فيه تشريع والناحية القانونية تستميله بشكل كبير وقد حفزه على ذلك جلالة المغفور له الملك المؤسس بعد إن لعبا الشطرنج.

فدخل الخمسينيات وكان وصل إلى العمر الدستوري "ثلاثون سنة" في تلك السنة جاء معه أيضاً شابان بنفس العمر المرحومان عطالله المجالي وهاني العكشة ودخلوا النيابة ونجحوا نجاحاً كاسحاً أمام زعماء في الكرك. تاريخياً كانوا في مجلس النواب. ومن هنا بدأ الأمل ، وبدأت رحلة أيضاً مع المرحوم الشهيد هزاع المجالي في فترات كان الطراونة والمجالي يتنافسان في ما بينهما على النيابة ، في حين كانت العلاقة الإنسانية بينهما مميزة ، كان عندهما مكتب محاماة مشترك في البلد. والقيامة قائمة في الكرك بين المجالي والطراونة. أيضاً في العمل السياسي كان المرحوم أبو أمجد مع الحزب الإشتراكي وأبو هشام كان مع المرحوم توفيق أبو الهدى في الحزب الوطني الدستوري وعلى طرفي نقيض لكن كانت العلاقة الإنسانية مستمرة في الحياة الاجتماعية بينهما. لم يكونوا يخلطون هذه الأمور في اختلاف الرأي ، والرأي السياسي لكن يلتقون في انتمائهم للوطن وللعرش الهاشمي حقيقة. وبالتالي كنت ألاحظ ما كنا نسمعه ونعرفه أنه كان يستقيل من الوزارة من أجل النيابة وليس العكس ولكن يطلبون أيضاً للوزارة فكانوا جنوداً مجندين وهو في فترة من الخمسين إلى الستين نزل ست دورات انتخابية ونجح في ست دورات بطبيعة الحال فتخيل أنه قلما كان مجلس النواب ينهي مدته. ففي عشر سنوات المفروض دورتين ونصف وإنما دخل ست مرات. إنها أحداث سياسية كبيرة كانت تستلزم حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات أخرى فانغمس في هذا المجال بشكل كبير وكانت فترة الخمسينيات زاخرة حقيقة ديمقراطياً وحزبياً بشكل كبير في المملكة الأردنية الهاشمية وعاش فيها فعلاً بكل ظروفها في تلك الحقبة.

وقد تأثر دولة د. فايز الطراونة بشخصية والده قائلاً: "علمني أبو هشام قضايا أساسية في الحياة لا تزال ترن في ذهني قضيتان رئيستان الأولى لا تكبر فالله أكبر ، كان يرددها عليّ كثيراً فكان يميل إلى التواضع بشكل كبير في التعامل مع الناس ربما الشيء الثاني الذي كان له مساس بالأول. هو اضعف مع الضعيف وأقو على القوي لا تتجبر بالضعيف لأنه ضعيف أصلاً فحتى تعامله مع الأقل منه رتبة وقدراً. كان يتعاطف معه بشكل كبير ، فكان حازماً ولكن ليس قاسياً.

إن ثمة محطات كثيرة ، ومواقف جليلة ، يمكننا التوقف أمامها ، في تجربة أحمد الطراونة... محطات تبدأ من حبه الكبير "الملفت للنظر" لوطنه وقيادته ، وإخلاصه لهما ، وتمر بعزمه وحسمه معاً ، في إبداء الرأي والنصيحة وقدرته على الاستكشاف وذكائه في التقدير وتوقعه ومبادرته لاحتواء ما قد يحدث ، وذاكرته القوية التي ظلت نابضة حتى بعد بلوغه الثمانين... تغمد الله فقيد الأردن الكبير المرحوم أحمد الطراونة بواسع رحمته ورضوانه واسكنه فسيح جناته.