محمود الغرايبة |
في عام م1900 وفي قرية"المغيـًّـر"القريبة من إربد أبصر محمود الخالد الغرايبة النور في عشيرة يرجع نسبها لعرب الحسن من قبيلة زبيد القحطانية ، هاجر أبناؤها من منطقة جبل شمر بالحجاز في نهايات القرن الثامن عشر إلى جنوب فلسطين وبقي قسم منهم حتى اليوم في ترقوميا قرب الخليل ، وتوجه القسم الأكبر الى شمال فلسطين وبقي قسم منهم حتى اليوم في طمون قرب نابلس ، ثمَّ اجتاز قسم منهم نهر الأردن إلى عجلون وإربد واستقرقسم منهم في القرية التى تدعى الآن بالهاشمية وانتشر الآخرون في منطقة اربد وفي بلدتي حوارة والمغيـًّـر بعد أن لبثوا لبعض الوقت في قرية جمحة غربي اربد ، إلتحق محمود الخالد الغرايبة بالمكتب الإبتدائي في اربد وأتقن التركية القديمة إلى جانب العربية ، ولم يلبث أن انخرط بالوظيفة الحكومية في العهد العثماني كاتبا للضبط ومحضرا ، وبعد خروج الأتراك من المنطقة العربية أصبحت مناطق شرقي الأردن تابعة للحكومة العربية التي كانت قد تأسَّـست بزعامة الملك فيصل بن الحسين واتخذت من دمشق عاصمة لها ، ولكن بعد أن كشـَّـرالإنجليز والفرنسيون عن نواياهم الخبيثة وغدروا بالعرب وقام المحتلون الفرنسيون بتواطؤ مع الإنجليز بالقضاء على الحكومة العربية الفيصلية في دمشق كان محمود الخالد الغرايبة على حداثة عمره في مقدمة رجالات شمال الأردن الذين قرروا تشكيل حكومة محلية في إلربد برئاسة القائمقام علي خلقي باشا الشرايري ، وشغل محمود الخالد فيها منصب رئيس كتاب المحكمة ، وبعد تأسيس إمارة شرقي الأردن في عام 1921 م عُـيًّـن كاتبا للرسائل في الكرك ثمَّ نقل لمثل وظيفته في جبل عجلون (أي منطقة إربد) خلفا لعمر المعاني ، ووقع كتاب تعيينه رئيس النظار (أي رئيس الوزراء كما كان يسمى آنذاك) براتب سنوي 138 جنيها فلسطينيا وبالدرجة التاسعة ، وفي 1928 نـُـقل كاتبا للرسائل في جرش مكان السيد نهاد خورشيد ، وفي السنة ذاتها عُـيًّـن مديرا لناحية العراق (مؤتة - الكرك) ، وبعد شهرين أجرى رئيس النظار تنقلات جديدة تضمنت نقل محمود الخالد الغرايبة كاتبا لرسائل مادبا ، وفي عام 1929 قبل رئيس النظار توفيق أبوالهدى استقالة محمود الخالد من وظيفة ككاتب رسائل في الطفيلة ، ونظرا لتحويل قائمقامية عجلون الى مديرية ناحية في عام 1933 عُـيًّـن مديرا لهذه الناحية ، وفي عام 1937 رُفــًّـع محمود الخالد الغرايبة ليشغل منصب قائم مقام جرش وأشرف على تسجيل الناخبين من قبل مأموري التسجيل المعينين لذلك ورفع تقريرا للمتصرف في إربد يؤكد على أن جداول أسماء الناخبين صحيحة ولا يوجد أدنى تلاعب فيها.
على الصعيد الوطني كان محمود الخالد الغرايبة شعلة متقدَّة بالنشاط في الجناح الشبابي للحركة الوطنية الأردنية العروبية ، وتميَّـز بين أقرانه بجرأته في التعبير عن رأيه وخاصة في فضح غدر الإنجليز والفرنسيين بالعرب وانحيازهم إلى اليهود ، وقلما غاب عن مظاهرة أومهرجان أولقاء أومذكَّـرة ضد المحتلين الإنجليز والفرنسيين أودعما لأهل فلسطين في مواجهة الخطر الصهيوني ، فكان مع العديد من أترابه عُـرضة لملاحقة المحتلين الإنجليز ، واضطر إلى اللجوء إلى سوريا مع بعض صحبه من أمثال محمد صبحي أبوغنيمة ومحمد علي العجلوني الذين كانوا ينادون بإفساح المجال لأبناء البلاد لتولي أمور بلادهم ، وبالتحرك في محيطهم العربي على أساس التكامل والوحدة وبما يساعد على إحباط المحاولات الاستعمارية لمنع قيام دولة عربية موحدة والتصدًّي لوعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين والتأكيد على البعد القومي العربي لفلسطين. ولم يلبث أن عاد محمود الخالد وصحبه إلى الأردن بطلب من الأمير المؤسس عبد الله بن الحسين رغم معارضة الإنجليز لعودتهم ، واختير محمود الخالد الغرايبة في عام1939 رئيسا لبلدية اربد خلفا للسيد عبد القادر التل ، ثمَّ عين في العام 1942 قائمقاما بوزارة الداخلية في مادبا خلفا للسيد جلال القطب ثمَّ في جرش خلفا للسيد عمران المعايطة بقرار من رئيس الوزراء توفيق أبوالهدى ، ثمَّ أحيل على التقاعد بناء على طلبه عام 1943 لينصرف إلى الزراعة ، ويُـسجَّـل للغرايبة أنه كان من أوائل روَّاد استصلاح أراضي الأغوار حيث استصلح أرضا سبق أن اشتراها في منطقة الكريمة بمحاذاة الشريعة (نهر الأردن) ، وكانت أرضا موحشة لا يصلها الناس ، وتمكن من استنباتها بمساعدة سكان الأغوار من عرب البلاونة ، كان ينظر الى الأرض نظرة قيمية أخلاقية ويؤمن أن زراعتها واجب عليه حتى ولورتبت عليه الديون وألحقت به الخسائر بسبب القحط أوالآفات أوكثرة التكاليف.
على الصعيد الإجتماعي وظـَّـف الشيخ الغرايبة وجاهته في عشيرته وفي المجتمع الأردني ، وصداقته لرجالات الأردن من شيوخ العشائر من أمثال سليمان السودي وراشد الخزاعي وتركي الكايد وسعود القاضي وقاسم الهنداوي ومحمد السعد البطاينة ، وثقة المسؤولين وفي مقدمتهم الأمير ـ الملك المؤسس عبد الله الول بن الحسين الذي منحه لقب الباشا ، وظـَّـف كل ذلك في خدمة أبتاء شعبه فكان يطالب المسؤولين بالمزيد من الدعم للمزارعين والتطوير للخدمات والزيادة في المنشآت ، ويتابع قضايا الناس ويسعى لحماية مصالحهم ، ليس في محيط قريته (المغير) أوعشيرته(الغرايبه) فحسب ، بل تعدى ذلك إلى مختلف أنحاء محافظة اربد التي كانت تضم محافظات الشمال الأربع الحالية (اربد ، المفرق ، جرش ، عجلون) فكان ملاذا لكل صاحب حاجة ولكل من يسعى إلى حماية ، وعرف بين الناس أنه يشعر مع البسطاء والفقراء وينتصر للمظلومين والساعين إلى حقوقهم ، ولطالما تجشم متاعب السفر إلى عمان بباصات بني كنانة أواليرموك مرورا بالمفرق والضليل والزرقاء ليسعى إلى تخفيف غرامة عن تاجر ، أوالموافقة على تفويض أرض لمزارع ، أوتعيين ابن تخرج لأب يشكوضيق ذات اليد ، أونقل معلمة من مكان ناء إلى قريتها الأصلية ، والأهم من كل ذلك أنه لم يُـعرف عن الشيخ محمود الخالد الغرايبة أنه استغل وجاهته ومحبة الناس له وثقة المسؤولين به لجني منفعة شخصية له أولأحد من أبنائه أوأقاربه.
وكان محمود الخالد يهتم بالعمران ويعتبر المواطن الذي يبني بيتا ليأويه وأسرته يقدم شيئا للأجيال ويسهم في العمران ، وكانت المشروعات العمرانية تستهويه ويشرع بها ، وكان أول بناء أنجزه مقرا لأول مستشفى في إربد مستأجرا من وزارة الصحة ، وعندما أنجز بناء مستشفى الأميرة بسمة غرب المدينة وانتقل مقر المستشفى إليه هدم المبنى في بداية الستينيات ليبنى على أرضه سوقا مترابطا كان الأول من نوعه في اربد وعُـرف بسوق البخارية لأنه كان شبيها بسوق البخارية في عمان من حيث بضائعه ولم يكن به من التجار من أصول بخارية عدا تاجر واحد فقط ، ثمَّ بنى لاحقا طابقا علويا وكان أيضا الأول من نوعه في مدينة اربد ويتوسط المنطقة التجارية في المدينة.
ويُـسجل للشيخ الغرايبة أنه من شدَّة حماسه لتعليم أبناء الأردن كان يقوم بدفع الراتب الشهري لمعلم مدرسة قرية"المغيًّـر"بسبب عدم توفر المخصصات لدى وزارة المعارف ، وكان حريصا على تعليم أبنائه فأرسل بكره عبد الكريم إلى الجامعة الأمريكية في بيروت فكان من المبدعين فابتعثته الحكومة الأردنية إلى جامعة لندن لدراسة التاريخ ليكون أول أردني يحصل على الدكتوراه في عام 1951 م ، وليصبح من أوائل من عمل في الجامعة الأردنية عند تأسيسها في عام 1962 ، وهوالآن شيخ من أشهر شيوخ التأريخ والعلم والثقافة وبلغ به حبه للغته العربيثة أنه لا يحب أن يناديه أحد بلقب"البروفيسور"ويستريح لمناداته ب "الشيخ المعلم"، ولأن الإبن سر أبيه فقد ورث من والده حبه للعلم والتعليم فخصَّـص منحة سنوية لمتفوُّق في الدراسة الثانوية من محافظة اربد في كل عام باسم والده الشيخ محمود الخالد الغرايبة الذي انتقل إلى رحمة الله عزَّ وجلَّ في 1979 م ، ومن أنجاله طريف الذي درس الحقوق وعمل في جامعة اليرموك ووائل الذي درس الحقوق وعمل في وزارة البلديات والمرحوم بإذن الله هيثم الذي عمل قاضيا وكان عضوا في محكمة العدل العليا والدكتور فيصل الذي عمل في قطاع التنمية الاجتماعية في الأردن والبحرين وجامعة الدول العربية.
محمود الخالد الغرايبة إسم لا ينمحي من ذاكرة الوطن جدير بالأجيال الشابة الإعتزاز به وبإخوانه من الرعيل الأول من رجالات البلاد الذين أسهموا في بناء الوطن وتطوير الحياة فيه بإمكانيات متواضعة في مواجهة تحديات كبيرة.
مشاركة الموضوع مع الأصدقاء :
Add This To Del.icio.us
Tweet/ReTweet This
Share on Facebook
StumbleUpon This
Add to Technorati
Digg This
|